في الوقت الذي انتظر فيه التونسيون تجسيدا لبوادر الانفراج التي برزت على الساحة السياسية الوطنية، خاصة بعد الوقوف على تقارب حقيقي بين مختلف مقترحات الأطراف السياسية الفاعلة حول الاستحقاقات القادمة، والتأكيد على أن الوفاق يظل ممكنا بشأنها، وبعد مرور الذكرى الأولى لانتخابات أكتوبر 2011 في أجواء عادية إجمالا، عادت الغيوم لتخيم على الساحة السياسية وذلك بسبب تداعيات المواجهات التي جرت في دوار هيشر، مما جعل التونسيين يشعرون من جديد بالخوف والفزع ويخشون تصاعد وتيرة العنف. فحين يتعلق الأمر بأمن الوطن أو المواطن فإنه من حق التونسيين أن يفزعوا ويعبروا عن خشيتهم من التداعيات الخطيرة المحتملة لمثل هذه التطورات، وهم الذين يكابدون غلاء المعيشة، وتواصل تدني مستوى بعض الخدمات الأساسية وخاصة البلدية التي لا يبدو أنها ستتحسن في بعض المناطق بسبب عودة الصراعات على النيابات الخصوصية، مثلما حدث في بلدية صفاقس بداية الأسبوع وهو موضوع آخر يتطلب بدوره وقفة متأنية، ليس هذا مجالها. عندما يعود العنف ... أبرزت الأحداث الأخيرة، وخاصة التي جدت في «دوار هيشر» بضواحي العاصمة التي شهدت مواجهات بين رجال الأمن وبعض المجموعات التي وصف بعضها بالسلفية، والتي أدت إلى سقوط قتيلين، وجرحى من قوات الأمن ومن المواطنين، ومن قبلها أحداث السفارة الأمريكية، حجم المصاعب التي أصبحت تواجهها السلطات في التعاطي مع الظاهرة السلفية، وبالتحديد مع من يلجؤون إلى العنف للتعبير عن مواقفهم، وسط حيرة كبيرة للمواطن العادي مما يجري، وعدم إدراكه أحيانا للأبعاد الحقيقية لهذه الأحداث وخاصة ما إذا كانت أحداثا عرضية أو محاولة لإثبات الذات واستعراض القوة. لأنه في ظل استشراء العنف في المجتمع، فإن الجميع سيكونون من الخاسرين، وأنه من العبث الحديث عن حرية وديمقراطية، أو التطلع إلى انتخابات شفافة ونزيهة، أو أية إصلاحات أخرى، وأخبار المواجهات العنيفة التي تستعمل فيها السكاكين والسيوف وكل أنواع الأسلحة البيضاء والحرق والتخريب، ما فتئت تتواتر بنسق أكبر، وأصبحت لا تكاد تغيب عن نشرات الأخبار لتصيب العديد من المواطنين بالفزع والخوف على أرواحهم وعلى ممتلكاتهم، وتزرع فيهم الشعور بعدم الثقة في المستقبل . الصورة غير واضحة ولعل ما يزيد في حيرة المواطن العادي هو عدم وضوح الصورة أمامه تماما، بسبب تضارب تقييمات القوى السياسية للظاهرة السلفية ومواقفها منها. ففي حين تتهم المعارضة الحكومة بالتساهل مع السلفيين، وعدم مواجهة من يدعون منهم إلى العنف بما يلزم من الصرامة، ترى الجهات الحكومية وبعض قيادات حزب حركة النهضة القائد للائتلاف الحاكم، وحتى رموز بعض الأحزاب الأخرى، أن المعارضة تنتهج خطاب التضخيم و«الفزاعات» في كل ما يتعلق بهذه الظاهرة وأنها تسعى إلى إشعال فتيل المواجهة بين الحكومة والسلفيين. وتزداد هذه الصورة ضبابية في ذهن المواطن في ظل غياب معطيات دقيقة عن حجم هذه الظاهرة وتفرعاتها، وخاصة الخلفيات العقائدية لبعض هذه المجموعات، ومن منها يؤمن بالحوار كأسلوب لتغيير واقع الأشياء، أو من يدعو إلى الجهاد، ولا يتوانى في استعمال القوة والعنف إزاء المجتمع. بل يتساءل البعض إن كانت المؤسسة الأمنية نفسها على دراية كاملة بكل هذه التفاصيل وإن كان لديها خطط واضحة في التعامل مع هذه المجموعات. ولئن كان من حق كل تونسي أن يكون سلفيا، أو علمانيا، فإنه من واجب الجميع أن يسعوا إلى حل خلافاتهم بالحوار ولا شيء غير الحوار. وهو ما لخصه أحد المتابعين للشأن الوطني بقوله «كن كما شئت... وفكر كما تريد... ولكن لا ترفع يدك مطلقا على أي تونسي.. ولا تحرض أي تونسي على الاعتداء على تونسي آخر مهما كانت المبررات». لا لتسييس مطالب رجال الأمن النتيجة المباشرة الأولى للأحداث الأخيرة هي عودة نقابات الأمن إلى الاحتجاج والتعبير عن عدم الرضا عن أوضاع رجل الأمن... فكيف يمكن للمواطن الشعور بالأمان والاطمئنان، وهو يرى أن أحوال ونفسية رجل الأمن المكلف بحمايته ليست على ما يرام؟ وإزاء هذا الوضع فإنه من مسؤولية كل الأطراف السياسية اليوم مهما كان لونها أو موقعها تجنب كل تجاذب أو مزايدة بخصوص الملف الأمني، بل المساعدة على توفير أحسن الظروف لرجال الأمن للقيام بواجبهم على أحسن وجه، وقد أثبتت تحركات الأمس لنقابات قوات الأمن المختلفة رفض العاملين في الأجهزة الأمنية بكل اختصاصاتها تسييس مطالبهم أو الزج بهم في معارك ليست معاركهم، وفي خصومات لا تفيدهم في شيء ولا تساعد مطلقا على احتواء حالة الاحتقان التي تعرفها البلاد على خلفية هذه الأحداث الدامية. والثابت اليوم أن أحداث العنف الأخيرة قد استحوذت على كل الاهتمامات، وأصبحت حديث الساعة في كل المستويات، ولدى شرائح واسعة من الشعب التونسي، وتحولت - كالعادة - إلى وقود إضافي لمعارك جديدة على صفحات المواقع الاجتماعية. وقد يتواصل الأمر لفترة بالنظر إلى تواصل تضارب الروايات حول ما حصل بالتحديد وردود الأفعال التي مازالت تسجل هنا وهناك. والمؤكد أيضا أن هذه الأحداث قد حجبت الاهتمام بملفات حيوية أخرى، كنا نعتقد أن النخب السياسية ستنكب على معالجتها في هذه الفترة، وخاصة منها الإسراع بمناقشة الدستور الجديد في المجلس الوطني التأسيسي، وتحديد موعد الانتخابات، وتكوين هيئات الانتخابات والقضاء والإعلام. والمطروح على مختلف القوى السياسية أن تتعامل مع موضوع العنف بالجدية اللازمة دون تعطيل لبقية المسارات.