جيهان لغماري الغَزَلُ أنواع أهمّها العذري أو العفيف وهو التغني بالجمال وإظهار الشوق إليه والشكوى من فراقه مع الوفاء لكائن واحد، ثمّ يأتي الغَزَل الفاضح والواضح في وَصْفِ الجمال الحسّي الخارجي مع إمكانية التنقّل من جميل إلى أجمَل. ويبدو أنّ التصحّر السياسي الذي خلّفه نظام بن علي لم يسمح للاعبي المشهد الحالي بإدراك الفرق بين الغَزَل التقليدي الغارق في الشِّعْريّة وبين الغَزَل السياسي المجبول على المصلحة، والمحمول أساسا على الحَرَكة والحذْلَقَة فتبادلُ التنازلات ثمّ «جَرْدُ» التِّرْكَة الأيديولوجية ليكون الخراج توافقا حقيقيا قد يساهم في استعادة البسطاء لثقتهم المهزوزة في كل مكوّنات المشهد السياسي حكومة ومعارضة. ما حملنا الرادار على هذه الديباجة «الغَزَليّة» هو أنّ كبار «الحومة» السياسيين لا يُفَرّقون بين تقنيات الغَزَل العذري والغَزَل السياسي، فإذا كان الأوّل قائما بين حَبيبيْن فإنّ الثاني قائم بين خَصْمَيْن وربما أكثر!. حَاكِمٌ يُغازل مُعارِضَه لِيُرَوّضه تدريجيا نحو توافق معيّن في مسألة ما أو مُعارِض يُغازل حاكمه ليقبل بمقاربته في نقطة خِلافيّة بينهما. العذري هائم في أوهامه وأحلامه أمّا السياسي فليست مهمّته تفسير الأحلام بقدر العمل على تحقيقها على أرض الواقع. والغَزَل السياسي ليس نظرة فابتسامة ثمّ موعد وأخيرا لقاء بل مثابرة في استمالة الخَصْم وقبول الجلوس معه على طاولة الحوار والبقاء معه لساعات وساعات حتى تَلِين المواقف وتهدأ النفوس، وهذا هو الدور الأساسي المتروك والمُهْمَل مع الأسف للكواليس. أمّا البقاء في مجال التصريحات الحالمة والحافلة بالأمنيات في التوافق الواسع دون سعي حقيقي لبلوغه فقد يُحَوّلها إلى كوابيس!. انظروا كيف توالت الفرقعات الإعلامية حتى خلنا أنّهم مِنْ شِدّة ما اتفقوا أصبحت الحكومة لسان المعارضة والمعارضة «شَبَكَت» الحكومة لكنّ واقع الأمور على الأرض لا يدلّ إلاّ على أننا في حضرة «بازار» سياسوي غارق في الطوباوية والحزبية الضيّقة حتى لل»كْرومة»!. فهذا حسين الجزيري يقول أنّ دخول «الجمهوري» و«المسار» للحكومة سيغيّر كثيرا في تشكيلتها الحالية ، وهذا العريض ثم الغنوشي يتحدثان عن مفاوضات لتوسيع التشكيلة مع الجمهوري ووفاء، فيأتي الردّ سريعا من الشابي الصغير قبل الكبير «لا توجد أصلا هذه المفاوضات» وأزاد بادي من حركة وفاء أيضا نفى كل ما سبق. وهذا يعني ببساطة أنّ التصريحات عوض أن تكون نِتاج عمل مرهق ومثابر في الكواليس بين الأطراف المختلفة، فإنها بقيت حبيسة الأمنيات التي لا أساس واقعيّ لها سوى أنّ قائليها جاهروا بها في الإعلام. لطفي زيتون يقول في لقاء تلفزي أنّ الشابي بعد انتخابات التأسيسي رفض فكرة حكومة الوحدة الوطنية، كلامه صحيح ولا تشوبه شائبة وقلناه بوضوح (مقالنا بعنوان حكومة الوحدة الوطنية، الحلم الذي لن يتحقق) لكننا كنا نتوقّع أنّ يؤكد زيتون حصول مفاوضاتٍ وعُروضٍ مباشرة قُدِّمَتْ ومع ذلك رفض الشابي، لكنّ زيتون يُحاجج الشابي فقط بتصريح صحفي له مفاده أنّ الأغلبية تحكم والأقلية تعارض، فإلى حدّ اليوم لا توجد أيّة تسريبات تدلّ أنّ الكواليس نشطت في تلك الفترة بين كل الفرقاء بين عرض وطلب، بين تنازل من هنا وآخر من هناك، هل قدّمت «النهضة» كفائزة انتخابيا للأطراف المعارضة رؤيتها للحُكم مدعَّمة باقتراحات عملية وقابلة للزيادة أو النقصان من أجل توافق شامل؟، يبقى السؤال بلا إجابة. في الضفة الأخرى من الطيف المعارض ، الفشل في الغَزَل واضح أيضا وبلا رتوش. بالطيب والعايدي من المسار والجمهوري يتحدّثان عن جبهة مدنية واسعة تجمع حزبيهما ونداء تونس ويضاف إليهم «الجبهة الشعبية». لم يتأخّر ردّ هذه الأخيرة، إذْ صرّح القيادي شكري بلعيد ل«التونسية» بتاريخ 15 نوفمبر الحالي «بوضوح لن ندخل الانتخابات إلا باسم الجبهة الشعبية !»، واللافت في كلامه قوله «يظهر أنهما يتحدثان عمّا يتمنيانه في المستقبل» وبين الأمنية السياسية والفعل مسافة هائلة لن تَقْصُر إلاّ بتنشيط الكواليس النائمة وإجادة «فن» الغَزَل السياسي. فإذا كانت النهضة راغبة (و هي حقيقة) في إبعاد «المسار» و«الجمهوري» عن فلك «نداء تونس»، فعليها إتقان هذا الفنّ بتوفير كل متطلّباته مِنْ تنازلات مؤلمة وعُروض جدّية ومفاوضات ماراطونية وصبر «أيوب» على الاختلافات. وإذا كانت ترويكا المعارضة تعمل على استمالة «الجبهة الشعبية»، فقط من أجل حشد كل القوى السياسية ضدّ النهضة، فعليها أيضا «دغدغة» مشاعر الجبهة بأطروحات سياسية وخاصة اقتصادية واجتماعية متقاربة معها وربما تقديم تنازلات مؤلمة ليس أقلّها التخلّي عن نداء تونس! . نظريا(و المسألة ستبقى كذلك) لو حدث هذا السيناريو، ستفرح الجبهة الشعبية لكنّ النهضة سترقص! لأنّ النتيجة هي واحدة :عزل النداء وتلك من خاصيات الغَزل السياسي، «التناجي» يكون بين خصميْن لكنّ خراجه قد يكون لخصم ثالث!. أمّا إذا أراد الجميع تغليب مصلحة البلاد العليا، فعليهم أن يُدركوا بأنّ هذا النوع من الغَزل ما هو إلاّ تفعيل لتكتيكاتهم وهو فنّ التنازلات المتبادَلة بامتياز والقادر في حالة التمكّن من آلياته على جمع أغلب الفرقاء في صيغة تشاركية توافقية مرضية لكل الأطراف، وإحدى هذه الآليات الحوار ثم الحوار ولكن في الكواليس. قد يبدأ بحوار طرشان ، وبالمثابرة والجدية والصبر سيصبح حوار شجعان فيه الرغبة الصادقة في الوصول إلى ضفة الأمان التي ينتظرها «زواولة» هذا الشعب. وباختصار:عليكم حالا بإتقان الغَزَلِ السياسي وإلاّ ستُعاقبون في الانتخابات القادمة.. بالعَزْلِ السياسي!، وبين الغَزَلِ والعَزْلِ نقطة مهمة ستُمحى بسهولة إن تقاعستم في العمل.