منذ أن بادرت كتلة حركة «النهضة» ومن معها من بقية الكتل والمستقلين بتقديم مشروع قانون أطلق عليه مسمى «قانون التحصين السياسي للثورة» أو قانون إقصاء التجمعيين ما انفكت التعاليق تتوالى على أكثر من مستوى وفي أكثر من منبر إعلامي ومنتدى سياسي. «التونسية» وإن تناولت هذه المسألة في أعداد سابقة من منظور إخباري تفسح المجال لأحد الخبراء القانونيين ألا وهوالدكتور أمين محفوظ المختص في القانون الدستوري والعضو السابق للجنة الخبراء في هيئة العميد عياض ابن عاشور المعروفة بالهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والانتقال الديمقراطي والإصلاح السياسي والذي اصبح مرجعا معتبرا حتى على المستوى الدولي حيث وقعت دعوته مؤخرا من طرف المجلس الانتقالي الليبي ليتحدث عن التجربة التونسية ثم من طرف مجلس مقاطعة بوردو الذي نظم للسنة الثانية على التوالي أسبوع التضامن مع الثورة التونسية من 17 إلى 25 نوفمبر الجاري والذي شارك فيه الدكتور محفوظ من خلال مداخلة بعنوان «تونس إلى أين» «Où va la Tunisie?»، ليعطينا رأيه من المنظور القانوني في هذا المشروع. ما رأيك في مشروع قانون تحصين الثورة المقدم مؤخرا للمجلس الوطني التأسيسي؟ يمكن لي أن أعنون هذا النص المقترح بنصّ «محاصرة الثورة». ويأتي هذا العنوان بناء على معطيات قانونية وسياسية. ماذا عن المعطيات القانونية؟ باعتبار أن هذا المشروع يدخل، طبق الفصل السادس من القانون التأسيسي عدد 6 لسنة 2011، في مجال ممارسة الحريات فإنه يأخذ بالضرورة شكل القانون الأساسي. لذا فهويحتاج إلى مصادقة الأغلبية المطلقة من أعضائه (109). ويبدو أن المجموعات التي تقودها حركة «النهضة» والمبادرة بهذا المشروع في طريق مفتوح للحصول على هذه الأغلبية. ولكن ماذا عن تطابق هذا القانون مع المنظومة القانونية التونسية ككلّ؟ لا يخفى على المهتمّين بالقانون أنه قبل دخول تونس حالة ما يسمى «بالقانون الدستوري الاستثنائي» فقد اعتمدت ولو نظريا على مبدإ الشّكل الهرمي للقواعد القانونية. فتجد الدّستور في أعلى الهرم ثم المعاهدات الدولية المصادق عليها بقانون ثم القوانين الأساسية ثم القوانين العادية ثمّ بقية المصادر الأخرى من فقه قضاء ومراسيم وأوامر... ويفترض أن تحترم القاعدة الدّنيا القاعدة التي تعلوها درجة. وبذلك تتحقق دولة القانون. أما اليوم وفي غياب كل من دستور ومحكمة تراقب دستورية القوانين فإن الصّراع سوف يتحول على المستوى القانوني بين المشرع (المجلس التأسيسي) والقضاء(عدلي وإداري). فإذا جاز للمجلس أن ينتهز فرصة غياب هذه المعطيات المحورية في بناء دولة القانون فإنه يمكن للقضاء الإداري والعدلي أن يلعبا دور حامي هذه الحقوق من خلال إهمال تطبيق هذه القوانين الإقصائية. ولكن على ماذا يمكن أن يعتمد القاضي في صورة دخول هذه القوانين الجائرة حيّز التنفيذ؟ بالتأكيد أن القانون الوضعي التونسي يسمح للقضاة المؤمنين بدورهم أن يعتمدوا على مجموعة من المعطيات: أهمّها مصادر القانون الدّولي التي اعتمد عليها سابقا كل من القضاء العدلي والإداري وكذلك المجلس الدستوري: كالإعلان العالمي لحقوق الإنسان، العهد الدولي للحقوق المدنية والسّياسية... إن مضمون هذا المشروع يتعارض صراحة مع الفصل 25 من العهد المذكور الذي يمنع الدولة من التمييز بين المواطنين عند ممارسة حقوقهم السياسية والمدنية: الترشح، الانتخاب، تقلّد المناصب الحكومية وغيرها... ولكن سبق إقصاء صنف من المواطنين بموجب الفصل 15 من المرسوم عدد 35 لسنة 2011 والمتعلق بانتخابات المجلس التأسيسي؟ هذا صحيح. وقد كنت من الذين احترزوا على تبني هذا الفصل. إذ لا يمكن لباحث سخّر دراساته لنقد المنظومة الدّستورية والتشريعية للنّظام السّابق القائمة على الإقصاء أن ينقلب فجأة بين عشية وضحاها ليدافع عن الإقصاء. وانطلاقا من الإيمان بهذه العقلية لم يتضمن مشروع المرسوم المقدم من لجنة الخبراء الإقصاء المذكور وإيمانا مني بإمكانية نجاح المشروع الديمقراطي في تونس فقد كنت أوّل من تمسّك أمام القضاء العدلي (محكمة سوسة في القضايا عدد07 و11 و21 بتاريخ 12/09/2001) والإداري (28946 و28991 و28947 بتاريخ 28/09/2011) (قرارات منشورة في مجلة «منبر المحامي»، دورية علمية صادرة عن المجلس الجهوي لفرع المحامين بسوسة سنة 2011) بخرق الفصل المذكور للعهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية. ولكن يبدو أن المناخ العام أثّر بشكل ملموس على السّادة القضاة الذين اعتبروا آنذاك أن «القيد الذي أقرّه الفصل 15 كان مبررا بالقطع مع النظام السابق المبني على الاستبداد وتغييب إرادة الشعب والبقاء غير المشروع في السلطة وتزوير الانتخابات وفق ما جاء في ديباجة المرسوم المذكور، الأمر الذي يكون معه الفصل المذكور محترما للعهد الدولي المحتج به، باعتبار أنّ هذا القيد لم يتجاوز نطاق المعقول». وإذا ما عارضت هذا الفصل فلأني كنت أعتقد جازما أنه امتداد لعقلية النّظام السّابق وهو في قطيعة تامّة مع الثورة التي تصبو إلى تحقيق دولة القانون والمؤسسات. ولكن يؤكد التاريخ اليوم أن هذا الفصل فتح شهية من يؤيّد تعبيد الطريق للعودة إلى النظام الإستبدادي القائم بالأساس على الإقصاء ولكن بزعامات وأسماء جديدة. وإذا لم تفرز هذه الظروف الاستثنائية آنذاك قاضيا شجاعا كالقاضي مارشال في الولاياتالمتحدة (سنة 1803) فإن الظروف الحالية قد تطورت بشكل ملحوظ. إن القضاء يحاول اليوم، ومهما كانت الصعوبات التي تعترضه، أن يلعب دوره الحقيقي في حماية الحرّيات. إن دخول هذا القانون حيّز التنفيذ قد يسمح لنا باكتشاف العديد من القضاة من صنف القاضي الأمريكي مارشال. ولكن لنفترض امتثال القضاء لهذا القانون فكيف العمل؟ هنا وجب التذكير، ومثلما أوضحت ذلك أمام كل من القضاء العدلي والإداري في سنة 2011، أنه بإمكان المواطن، والذي استنفد جميع الوسائل المتاحة لممارسة حقه ودون جدوى، أن يرفع، عملا بالفصل 1 من البروتوكول الاختياري الذي صادقت عليه تونس في بداية سنة 2011 ، شكواه إلى لجنة حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة والتي لها أن تتّخذ ما تراه مناسبا في حدود الصّلاحيات المسندة لها. ولكن سوف يكون ذلك وصمة عار لثورة كان يعتقد الجميع في الداخل والخارج أنها ثورة الحرّية. فأين نحن من الرّبيع؟ ماذا عن الجانب السّياسي؟ إن اعتماد هذا المشروع يعكس انتهازية وإقرارا بالفشل وقلقا شديدا. كيف ذلك؟ الانتهازية ناجمة عن الاستبداد في استغلال أغلبية ظرفية إلى أبعد الحدود. فلئن قطفت هذه الأغلبية ثمار الفصل 15(أنظر المقال: من الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة إلى المجلس التأسيسي، منبر المحامي، ص.10) فهي تأمل أن تواصل اليوم على نفس المنهج من خلال محاولة استعمال الآلة التشريعية كما كان يفعل الرئيس السابق «بن علي» لإقصاء الخصوم السّياسيين. على أن عدم أخذ العبرة من فشل هذه السياسة بسبب قصور هذا النوع من المنتوج القانوني على تأطير مناسب للظّاهرة السّياسية قد يشكل دعوة صريحة إلى ثورة جديدة. لذا ندعو أصحاب هذا المشروع إلى التفكير مليا في هذا النّص المقترح. إن الأغلبية في الأنموذج الديمقراطي لا يمكن بأي حال أن تقصي المنافسين السّياسيين لها. ولكن ها نحن اليوم أمام أغلبية استبدادية. أمّا الإقرار بالفشل فهو ناجم عن عدم قدرة هذه الاغلبية طيلة سنة كاملة من تسلّمها مقاليد الحكم على تبنّي قانون عدالة انتقالية يتمّ بموجبه محاكمة فردية لكل من كان مسؤولا عن الاستبداد، والفساد و... إن الإقصاء من ممارسة الحقوق المدنية والسياسية يتمّ، في الأنموذج الديمقراطي، بموجب حكم قضائي وليس بموجب نصّ تشريعي. فأي درس يريد هؤلاء تقديمه للتونسيين وللمجتمع الدولي؟ ولكن أين القلق من كل هذا؟ إن القلق ناجم عن خيبة أمل أصبحت واضحة من حكّام (مجلس تأسيسي ورئاسة وحكومة) حملوا آمالنا وكنّا نعتقد أنهم متشبعون بمبادئ وثقافة الديمقراطية وحقوق الإنسان وسوف يسعون إلى تحقيق المشروع الديمقراطي بالمصادقة في أقرب وقت ممكن على دستور وقوانين تذهب في هذا الاتجاه. ولكن تبيّن اليوم أن همّهم الوحيد هو التمسّك بالسّلطة وبامتيازاتها ومحاولة اغتصابها. إن الخوف من خصومهم السّياسيين دعاهم إلى استعمال الآلة التشريعية. إن هذا المشروع هو ورقة من جملة الورقات التي تستعمل لإطالة الفترة الإنتقالية وتهميش العمل التأسيسي(مناقشة الدستور والمصادقة عليه) بغاية تلهية الرّأي العام عن الاهتمام بقضايا جوهرية كالشغل والكرامة والرّقي الإجتماعي والثقافي... إن قراءته تؤكد أنه غير قابل للتّطبيق من خلال إغراق كل من هيئة الانتخابات والقضاء التونسي بمشمولات إضافية معقّدة والحال أنهما في حاجة إلى تسخير المجهودات في فضّ مشاكل وقضايا جوهرية تدخل في صميم صلاحياتهما. إنه في نظري مشروع كامل لمحاصرة الثورة. نتحدث اليوم عن الثورة المضادّة ولكن ننسى أن تعريف هذا التعبير لا يرتكز على اسم من يتبناها (أزلام، فلول...) وإنما يرتكز التعريف بالأساس على تبنّي سياسة في قطيعة تامّة مع الثورة وتشكل امتدادا لعقلية النظام السابق. تكمن المغالطة اليوم في التّركيز على الأسماء دون الخوض في السّياسة المعتمدة وهي عين السّطحية. فما أبعد السّياسة المعتمدة اليوم عن مبادئ وأهداف 14 جانفي 2011 ! علينا أن ننتبه حقا لمن يوجد اليوم في صفّ الثّورة المضادّة ولكن هذا لا يمكن أن يثنينا عن إنجاح المسار الديمقراطي في إطار مشروع متكامل يضمن لكل المواطنين ممارسة حقوقهم وفي ظل إساءة استعمال المشرع للقانون فإن القضاء المستقل يبقى وحده الكفيل بحماية هذا المشروع.