تسرّب الماء إلى غرفة «المحرّك.. وعمّت الفوضى وتعالى النحيب والتضرّع للّه» السلطات تنكّرت لوعودها سفينة إيطالية مارّة أنقذتني بقدرة قادر من موت محقّق عدت لكنّني نادم لأنّني «وصلت للعين وما شربتش» كان آخر الناجين في حادثة غرق سفينة الحارقين يوم 6 سبتمبر الماضي قبالة سواحل جزيرة «لمبادوزا»، يقول أنه لا يصدق إلى اليوم أنه ما زال على قيد الحياة ولكنه لا يستبعد أن يعيد التجربة ثانية لسوء ظروفه الإجتماعية. محمد الطاهر بلخذر ذو الثلاثين ربيعا الذي روى ل«التونسية» «تجربته مع «الحرقة» قال إنه مثل المئات من الشباب العاطلين على العمل كان يرى في الضفة الأخرى من المتوسط الأمل وطوق النجاة للخروج من حالة اليأس والتهميش التي يعيشها خاصة أن مستواه التعليمي الذي لا يتجاوز الرابعة ثانوي لم يسمح له بدخول سوق الشغل، فكان يسترزق من التجارة المتجولة غير أن هذا «الشغل» لم يكن يسمن ولا يغني من جوع حسب محمد الطاهر مما جعل فكرة «الحرقة» تعشش في ذهنه إلى أن علم عبر عدد من أصدقائه ومعارفه بمنطقة الجبل الأحمر بأن هناك «خيطا للحرقة» انطلاقا من شاطئ منصور بصفاقس فظل يقتفي أثر هذا الخيط إلى أن تحصل على رقم منسق الرحلة (عصام) الذي اعلمه ببعض تفاصيل الرحلة وثمنها. يقول محمد الطاهر أو أسامة (اسم الشهرة ) إنه كان وهو في انتظار مكالمة منسق الرحلة يحاول اقناع زوجته ووالدة ابنه الذي لم يتجاوز عامه الأول بأن «الحرقة» إلى إيطاليا هي السبيل الوحيد لضمان مستقبله ومستقبل عائلته الصغيرة خاصة أنه يحلم بأن يضمن لابنه حياة كريمة، وأنّه أيضا مطالب بدفع نفقة لابنته من زواجه الأول، فكانت زوجته تارة تهاوده وتارة أخرى ترفض الفكرة رفضا قطعيا خوفا من أهوال البحر وكأنها حسب محمد الطاهر كانت تتوقّع الكارثة التي ستحل بالمركب . ويتحدّث محمد عن اليوم الموعود قائلا: «اتّصل بي منسق الرحلة وأعلمني بموعدها فأخذت معي المبلغ المتفق عليه (ألف دينار) واتجهت نحو مدينة صفاقس وهناك اتصلت به فأتى على متن دراجة نارية ليأخذني معه إلى فيلا كبيرة على شاطئ سيدي منصور أين وجدت عددا كبيرا من الشباب من فئات عمرية مختلفة يجمعهم حلم واحد هو الوصول إلى لامبادوزا وكأن أبواب العرش ستفتح لنا إذا قطعنا المتوسط، رغم أنه كان هناك من بين الحارقين من يعيد التجربة للمرة الثانية». اللحظة الحاسمة ..... يقول محمد الطاهر: «جاءت اللحظة الحاسمة وأعلمنا المدعو عصام في حدود منتصف الليل أن موعد الرحلة قد حل فخرجنا من البيت وأصطففنا على شاطئ البحر وفق تنظيم معين لنستقل السفينة لكن في الأثناء كانت عيون المراقبين تحيط المكان فاتصل أحدهم بالمنسق ليعلمه أن دورية أمن قريبة من المكان، فأمرنا هذا الأخير بالعودة إلى الفيلا في انتظار إعادة حبك الخطة. في الغد أمّن لنا المنسق 10 «فلايك» صغيرة الحجم وكنا قرابة ال150 شخصا حيث تولت هذه السفن الصغيرة نقلنا إلى السفينة التي ستقلنا إلى إيطاليا والتي كانت راسية في البحر. وجاء الرايس «مالك» الذي طمأننا بأننا سنصل بأمان، ولكن ما إن أعلن عن انطلاق الرحلة حتى تعلّق الشقف في الرمل أو بلغة البحارة «شحط» وبدأ المسافرون المتراصّين لضيق المكان يشعرون بالإحباط وبدأ بعضهم يتململ إلى حين وصول صاحب الشقف الذي قدم ومعه 4 سفن وعدد من أصدقائه لمساعدة السفينة العالقة بالرمال، وانطلقت الرحلة فعليا وبدأ الشقف يشق عباب البحر وكأننا كلما تقدمنا ميلا اقتربنا من الحلم الوردي ولا أحد كان يعلم بما تخبؤه الأقدار. بوادر الكارثة رغم ضيق المركب الذي لا يتجاوز طوله 12,5 مترا كنّا نحاول تجاوز ظروف الرحلة الصعبة بتجاذب أطراف الحديث إلى حين طلوع الشمس. في حدود الساعة الحادية عشر صباحا توقف المركب وأعلمنا الميكانيكي أن المازوط نفد وبقينا على تلك الحالة ننتظر فرج الله إلى حدود الساعة الثانية بعد الزوال حيث مكننا مركب صيد «كركارة» من وعاء بنزين ،ولو لم يتم اسعافنا في ذلك الوقت لغرق المركب. يستمر محمد الطاهر في استرجاع تفاصيل الرحلة قائلا: «في حدود الساعة الثانية والنصف بعد الزوال اشتد شعوري بالدوار «mal de mer» وتدهورت حالتي التنفسية نتيجة الخوف ولم استفق من تلك الحالة إلا على أصوات الركاب المرتفعة والبكاء بعد أن تفطن الميكانيكي إلى أن الماء بدأ يتسرب إلى غرفة المحرك وأن الخطر داهم لا محالة. استنفر الجميع لإخراج الماء من غرفة المحرك ولكن كل المحاولات باءت بالفشل فالكميات المتسربة كانت تتضاعف كلما أخرجناها، وعمت الفوضى وتعالت أصوات النحيب والتضرع لله بأن يرسل إلينا العون، خاصة أن نداءات الاستغاثة إلى الجانب الإيطالي باءت بالفشل ولم نلق إلا المماطلة، وتعمق الاحساس بالهلع بعد أن تجاهلتنا طائرة عمودية وزورق سريع كان مارا بالمكان. بعد حوالي ساعة تعطل المحرك نهائيا وكنا تقريبا في حدود الساعة الرابعة بعد الزوال عندما تمايل «الشقف» ذهابا وإيابا ومن هول الفاجعة قفز الجميع في الماء وتعلق آخرون بهيكل السفينة الذي انقلب في لمح البصر ليحمل معه العديد إلى قاع المتوسط . في تلك اللحظة فقد الجميع مبدأ التضامن وساد شعار «يا روح ما بعدك روح» وكان كل واحد يبحث بوسائله الخاصة عن وسيلة للنجاة، خاصة أننا كنا نرى على بعد أميال جزيرة «لميونا» في حجم طابع السكر ولم يكن دليلنا إليها سوى بصيص ضوء ينبعث من برج المراقبة في أعلى الصخرة». مشاهد محفورة في الذاكرة يقول محمد الطاهر أنه في تلك اللحظة الفارقة بين الحياة والموت تجاوز كل أنواع الخوف لأن الموت قادم لا محالة وكان يسترجع في تلك اللحظة شريطا متسارعا للعمر ويستحضر صورة أبنائه وعائلته ويطلب في الآن ذاته الغفران والعفو من الله وممن قد يكون أساء إليهم، ولكن صورة ارتسمت في خياله ربما لن ينساها طوال حياته وهي مشهد أحد الغارقين الذي كان يطفو مرة على سطح الماء ويغرق مرّة أخرى ويطلب منه المساعدة إلى أن جحظت عيناه وابتلعته الموجة واختفى عن الأنظار. مشهد ثان لإمرأة كانت تصارع الموج وتصيح يا الله بأعلى صوتها وفي لمح البصر غابت عن الأعين ولم يبق إلا حجابها طاف على السطح. سويعات بعد غرق السفينة تشتت جمع «الناجين» وخفتت كل الأصوات وحلّ الظلام وأصبح ضوء القمر دليلنا الوحيد إلى صخرة النجاة وسط لسعات «الميدوسة» الطافية على سطح الماء والتي تشعرنا في كل لسعة بأن بالبحر تيار كهربائي عالي الضغط ولكن لسعات الميدوسة لم تكن تساوي رغم ألمها شيئا أمام الاحساس بأنك وحدك في عمق البحر بلا دليل وأن شبح الموت يرافقك في كل لحظة . بعد قرابة العشر ساعات من السباحة فتحت عيناي فأدركت أني نمت على سطح الماء الى حدود الساعة الحادية صباحا وكنت في حالة إعياء شديد لكن سلاحي الوحيد كان ال٪1 من الأمل. في الأثناء رأيت سفينة إيطالية مارة بالمكان فاستجمعت كل قوايا للإشارة إليها إلى أن انتبه لي ربانها ورمى لي بحبل النجاة وأنقذتني قدرة القادر من الموت المحقق، وقد كانت تلك السفينة على مسافة ثلاث ساعات من جزيرة لامبادوزا أين قام الطاقم بتسليمي إلى السلطات الإيطالية. نعم نجوت، لم أصدق أني على اليابسة ولم يصدق من سبقوني في النجاة أني حي أرزق عندما دخلت إلى المعتقل في حدود الساعة الثالثة بعد الزوال. كنت في حالة إعياء شديد وأعلمني بعض الناجين أنهم أخبروا أهلي بأني متّ، وذلك قبل أن تمكنني السلطات الإيطالية من بطاقة هاتفية للإتصال بعائلتي وعرضي على الطبيب لأن شدة الإعياء منعتني من الأكل. في الأثناء تولت السلطات في لمبادوزا القيام بالإجراءات القانونية من أخذ البصمة والتصوير وغيرها ... المعتقل والمصير المجهول يضيف محمد الطاهر: «بقيت في معتقل لمبادوزا قرابة الشهر وثلاث أيام كانت كلها متشابهة، كنا نقضي الوقت في الحديث في ما بيننا عن أحلامنا ووضعياتنا الاجتماعية وكان العديد من وفود المنظمات الإنسانية تزورنا للاطلاع على وضعيتنا وظروف الإقامة التي كانت عموما متوسطة واحيانا دون المتوسط، كما زارنا عدد من السياسيين التونسيين وخاصة منهم الأستاذ أحمد نجيب الشابي الذي أبدى تعاطفا كبيرا مع وضعياتنا وكذلك السيد حسين الجزيري كاتب الدولة للهجرة الذي إطلع على كل تفاصيل الرحلة وظروف اقامتنا ووعد بإيجاد الحلول سواء بتدارس الأمر مع الجانب الإيطالي لتمكيننا من أوراق وقتية للإقامة أو العودة إلى تونس لمن يرغب في العودة ولكن توالت الأيام ولم يتغيّر شيء.. كنا نغالب الوضعية بلعب كرة القدم في ملعب المعتقل ونقفز أحيانا من السور لنقوم بجولة في المدينة ،كما تمكن عدد منا من الفرار بعد الإتصال بذويهم المقيمين هناك، وكانت الأنباء تتواتر عن إمكانية تمكيننا من الأوراق وهو ما يبعث فينا الأمل ويبدد بين الفينة والأخرى ذلك الإحساس الرهيب بالضياع في غياهب المجهول بسبب شح المعلومة الدقيقة والصحيحة. كتانيا 7 «بعد شهر وثلاث أيام من الإقامة في معتقل لمبادوزا تم نقلنا إلى معتقل كاتانيا 7 بسيشيليا كعقاب على شجار كاد أن يكون دمويا بين مهاجرين غير شرعيين تونسيين وأفارقة، لكن على خلاف ما توقعناه كانت الإقامة في المعتقل الجديد أحسن بكثير سواء من حيث النظافة أو نوعية الأكل. هناك تمكنت من كسب عدة صداقات مع إيطاليين يعملون في المعتقل بسبب خذقي للغة الإيطالية وقد أبدى الإيطاليون تعاطفا كبيرا معنا ولكن القرار كان بيد السلطات وتواصل مسلسل الحيرة والمصير المجهول وكثر الضغط النفسي لأني اشتقت إلى عائلتي وخاصة ابني الصغير، وبدأت فكرة العودة تراودني خاصة وأن كاتب الدولة للهجرة وعدني شخصيا بمساعدتي في الحصول على مورد رزق قار وتعهد بملفي بعد أن أطلعته على كل تفاصيل وضعيتي الإجتماعية . لكن صبري لم يدم طويلا ولم أقدر على مجابهة ضغوط زوجتي التي كانت تصر على عودتي فأعلمت السلطات الإيطالية أني قررت العودة وتمت الترتيبات وغادرت معتقل كتانيا بعد أن ودعني الأصدقاء بحفاوة ومكنوني من الهدايا لي ولعائلتي». العودة إلى مربع الصفر «اليوم مضت على عودتي حوالي شهرين، يقول محمد الطاهر حاولت خلالها الإتصال بالمسؤولين في عدة مناسبات وبقيت أتردد على كتابة الدولة للهجرة لعلي أحظى بمقابلة السيد كاتب الدولة الذي وعدني سابقا بتبني ملفي ولكني لم أجد آذانا صاغية ولم أحظ إلا بالتسويف والمماطلة. فقط مكنوني من منحة بمائة دينار، وأنا لا أطلب منحة أو صدقة أنا أبحث من مورد رزق قار يضمن لي قوت عائلتي ويمنعني من التفكير في «الحرقة» ثانية خاصة أن عددا ممن بقوا في لامبادوزا تحصلوا على إقامات وقتية وهو ما يضاعف إحساسي بالندم لأني أشعر اليوم أني «وصلت للعين وما شربتش». «فالسلطات التونسية تنكرت لوعودها بمساعدتي وعلمت انه تم حفظ ملفّي أي أني عدت إلى مربع الصفر خالي الوفاض ..... وقد «أحرق» ثانية لأن البحر بأهواله أرحم من الإحساس بالغربة بين أهلك وذويك وانت عاطل عن العمل تنتظر الشفقة من هذا أوذاك ... رغم أن العديد من الأحزاب المعارضة اتصلت بي وأرادت المتاجرة بملفي ولكني رفضت ذلك لأني اعتبر نفسي صاحب حق في أرضي وفي وطني ولي من مسؤوليها وعود هم الأقدر على تحقيقها بجرة قلم».