فوجئت امرأة بتوقف زوجها عن ارتياد المقهى الذي اعتاد الذهاب إليه كل يوم منذ عشرين سنة، قضتها تخاصمه بسبب هذا الموضوع، وتلومه على إدمانه لعب الورق في المقهى على حساب أشياء أخرى تهم عائلته.. وعرفت في الأخير أن زوجها» فر» من المقهى ومن جلسته اليومية مع أصدقائه لأن جلساتهم أصبحت غالبا ما تنتهي بخصومة لأنهم يتحدثون في السياسية ولا شيء غير السياسة، وهو ما لم يعد يطيقه ويتحمله، ليقرر في الأخير مقاطعة المقهى. وعلى أمواج إحدى الإذاعات توجه مواطن تونسي بنداء إلى التونسيين دعاهم فيه إلى عدم الاكتراث بالسياسة مستقبلا، والاهتمام بالغناء والمسرح والسينما والرياضة، ليرفهوا عن أنفسهم، وهم الذين فقدوا الابتسامة تقريبا وأصبح العبوس يعلو وجوههم باستمرار. اجتاحت السياسة حياة التونسيين، وأصبحت تلاحقهم في كل مكان... في المقهى وفي البيت وفي السيارة وفي وسائل النقل العمومي... وأصبح لها نصيب الأسد في البرامج الإذاعية والتلفزية وفي صفحات الجرائد.. وحتى خلال النوم أصبح التونسيون يعيدون وقائع اليوم السياسية، ويعيش الكثير منهم الكوابيس... لأن بعض ما يحدث في المشهد السياسي الوطني لا يمكن وصفه إلا بالكابوس. بعد عقود من التصحر السياسي، وبعد أن كان الاهتمام بالسياسة أو حتى الحديث فيها - خارج الأطر التي ضبطها الحاكم - يعد «جريمة» قد تؤدي بمرتكبها إلى السجن أو الملاحقة، أصبح شغف التونسيين بالسياسة كبيرا، ولكن يبدو أن هذه الظاهرة تحولت إلى حمل ثقيل ينوء به التونسيون، الذين بدؤوا يكرهون السياسة، ويعود « الفضل» في ذلك للسياسيين أنفسهم. لأن التونسيين لم يروا منهم سوى الخصومات والعراك والاتهامات .. أحد مفاهيم السياسة في الأصل، هو خدمة الشعب، ولكن السياسة لم تغير شيئا تقريبا من واقع التونسيين. بل أن أحوال أغلب الناس ازدادت سوءا على سوء: تدهور في القدرة الشرائية... تقهقر في محيط الحياة...والأخطر من كل ذلك هشاشة أمنية أدت إلى تسرب الأسلحة إلى بلادنا، وإلى الاغتيالات السياسية. ورغم هذا الواقع المتردي لأغلب التونسيين، وتدني معنوياتهم وتفاقم خيبتهم، فإن السياسيين يواصلون خصوماتهم وعراكهم على شاشات التلفزة وعبر الصحف وأمواج المحطات الإذاعية، بل وحتى تصفية حساباتهم على صفحات المواقع الاجتماعية، رافعين في كل مرة من حدة جدلهم العقيم الذي لا ينتهي، ونازلين بمستوى الخطاب السياسي إلى الدرك الأسفل، وهو ما نفّر المواطنين من السياسة. وحتى حين يتكلم السياسيون عن مشاكل التونسيين، فغالبا ما يكون ذلك بهدف إحراج خصم، أو تحقيق مكسب سياسي، وليس لتقديم حلول لما تعيشه البلاد من مشاكل. لا أحد تقريبا من السياسيين قام بعملية نقد ذاتي، وقال على الملأ أن حزبه أخطأ في مسألة ما.. ولا أحد منهم اعترف بارتكاب أخطاء، أو اعتذر عن عدم إنجاز وعود أطلقت، أو عن مهمات لم تنجز.. هم يتكلمون في كل شيء، ولهم إجابات عن كل الأسئلة.. ويتصرفون وكأنهم يملكون الحقيقة كل الحقيقة. النتيجة المباشرة لهذا السلوك، هو أن آخر استطلاعات الرأي التي قامت بها مؤسسات مختصة، تشير إلى أن ثقة المواطنين في السياسيين - حكومة ومعارضة - قد تراجعت. ويتوقع العديد من الخبراء أن نسبة المشاركة في الانتخابات القادمة قد تتراجع، وهي التي لم تبلغ نصف عدد من يمكنهم التصويت في الانتخابات السابقة، أي في أوج الفرح الشعبي بالثورة، وحماس التونسيين للمشاركة في أول انتخابات حرة في تاريخ بلادهم. وهذا يعني أن عدم الثقة في السياسيين أخذ منحى تصاعديا. ومن المفروض أن يدفعهم ذلك إلى مراجعة حساباتهم .. إلا إذا كان البعض منهم يسعى لأن يكره التونسيون السياسة. وهو ما تعتقده مواطنة تدخلت على أمواج الإذاعة نفسها التي توجه من خلالها المواطن بندائه الذي دعا فيه التونسيين للابتعاد عن السياسة والاهتمام بالفن، حيث عقبت قائلة «إياكم والابتعاد عن الاهتمام بالسياسة.. فهذا ما يبحث عنه السياسيون، حتى يفعلوا ما يشاءون في غفلة من الشعب».