وراء كلّ نزيل حكاية... "عشرة".. والعفو حلم الجميع معاناة مشتركة بين السجّان والسجين..ووزراء في الاستماع على قمة الجبل المطل على شواطئ مدينة بنزرت يقضي قرابة 500 سجين عقوبات تتراوح بين 15 سنة سجنا والمؤبد. نزلاء سجن الناظور وان اختلفت نوعية الجرائم المورطين فيها فإنها تشترك في الخطورة فأغلب المتواجدين خلف اسوار السجن محكومون في قضايا حق عام تعلقت إما بالقتل أو بالاغتصاب أو بترويج المخدرات . «التونسية» دخلت عالم هذا السجن في «اليوم الدولي للحقيقة» الذي احيته مؤخرا وزارة حقوق الانسان والعدالة الانتقالية لتكتشف أسرار عالم المساجين والسجانين وكيف يقضي «المرابيط» عشرات السنوات وراء القضبان والأسوار العالية. قبل الدخول إلى بهو السجن أكد لنا العقيد مكرم عمّار مدير «الناظور» أن التعامل مع نزلاء السجن الذي يشرف عليه يكتسي طابعا خاصا باعتبار أن جلهم يقضون عقوبات طويلة وهو ما يجعلهم يعيشون حالة من الاحباط والتوتر الدائم وأنه رغم صعوبة مهمة السجانين، تحرص الإدارة على توفير أجواء طيبة تخدم مصلحة الطرفين ممّا يولد علاقة شبه أسرية بين طاقم العاملين والمسجونين . كما قال العقيد عمّار أن السجن يوفر معاملة خاصة لما يقارب 10 وضعيات إنسانية وصحية يعاني أصحابها من الأمراض المزمنة والإعاقة والتي لم يعد يرى شخصيا أي موجب لبقاء اصحابها وراء القضبان باعتبار أن جلهم قضوا أكثر من ثلثي المدة ولا يمثلون في وضعياتهم الحالية أي خطر على المجتمع ، وقد عرض مدير السجن هذه الوضعيات على وزيري العدل وحقوق الانسان طالبا فتح ملفاتهم وتمتيعهم بالسراح في أقرب الآجال . تعبنا وتُبنا والعفو أملنا الوحيد من زنزاناتهم كانت أصوات المساجين تتعالى بصوت واحد: « تعبنا وتُبنا والله يغفر ويسامح... فلماذا لا يسامحنا البشر؟» وقد أكد المساجين الذين خاطبوا «التونسية» من وراء القضبان أن عددا كبيرا منهم قضى أكثر من ثلثي المدة وأنهم ينتظرون في كل مناسبة وطنية أن يشملهم عفو رئاسي غير أن السنين تمر ولا شيء يتغير وهو ما جعلهم يحسون بالغبن وكأنهم نسيا منسيا ولا تنطبق عليهم صفة المواطنين. واعتبر عدد من السجناء أن المقاييس المعتمدة في العفو العام غير عادلة وغير واضحة مؤكدين أن العديد من رفاقهم لم يقضوا حتى ربع المدة وتمتعوا مؤخرا بالعفو وهو ما يرسخ لديهم القناعة بأن لا شيء تغير وأن المحسوبية والمعارف لا تزال قائمة كما عبر العديد منهم عن أسفهم وتوبتهم مؤكدين أن فقدان نعمة الحرية أعادهم إلى الجادة وأن طيش الشباب والشيطان والظروف الإجتماعية كانت وراء المآسي والجرائم التي ارتكبوها . لم أتنصّل من العقاب نزيل السجن محمد الثاني ميلاد الذي خاطب «التونسية» من شباك زنزانته قال إنه تورط في جريمة قتل زوجته وأم ابنتيه التي كانت تعمل قاضية بالمنستير. وأنه رغم امتلاكه للجنسية الفرنسية ورغم أنه كان بإمكانه الفرار فإنه لم يتنصل من العقاب وأنه بعد إرتكابه الجرم في لحظة غضب حمل زوجته إلى المستشفى وظل معها إلى أن فارقت الحياة وحوكم بعد أن تم القبض عليه بالسجن مدى الحياة قضى منها إلى حد الآن 13 سنة. محمد يطمع اليوم بعد أن تقدم به السن وأمضى شبابه وراء القضبان في عفو يستعيد به حريته. حتى يتمكن من رؤية ابنتيه اللتين حرم منهما منذ دخوله السجن . عائلة متنفذة وراء مأساتي زميله في نفس الغرفة قال إنه أمضى أكثر من عشر سنوات من العقاب ولكنه يصر بعد انقضاء هذه المدة على براءته مؤكدا أن عائلة خطيبته المتنفذة كانت وراء مأساته بعد أن اتهمته بقتلها رغم افتقار ملف القضية حسب كلامه لدليل الإدانة . سجين آخر قتل زوجته «دفاعا عن شرفه» دخل السجن عام 1986 وترك ابنته الوحيدة التي يبلغ عمرها عاما عند والدته العجوز. لم تزره ولو مرة واحدة. يقول لأن الثورة بعثت داخله أملا جديدا قد يمنحه فرصة أخرى للاندماج في المجتمع بعد أن قضى أكثر من ربع قرن في الزنزانة وأنه بعد انقضاء أكثر من سنتين من اندلاع الثورة بدأ يفقد الأمل لأنه يحس أن لا شيء تغير . كان بإمكاني الفرار ولكن .... من زنزانة مجاورة خاطبنا نزيل آخر قال إنه أمضى أكثر من 18 سنة في السجن بعد أن حكم عليه في قضية إغتصاب فتاة قاصر، هذا السجين الذي قال أنه من ولاية القصرين أضاف أنه كان بإمكانه الفرار من السجن بعد الثورة غير أنه يعرف أن الهروب ليس حلا وأنه سيقضي بقية حياته في سجن ثان أو مطاردا وأنه لم يفقد الأمل من أن يشمله العفو في القريب العاجل أو أن يقع التخفيف من العقاب المسلط عليه ،وهو مطلب كل المساجين الذين كانوا يطالبوننا بتبليغ أصواتهم حتى تتم مراجعة أحكامهم والتخفيف منها خاصة أنه لم يبق في أعمار بعضهم الكثير ومنهم من لم يعد قادرا على الوقوف على قدميه إلى جانب وجود حالات لسجناء مصابين بالسرطان والتهاب الكبد الفيروسي بل وهناك حالات قال اصحابها أنهم حتى لو تركوا السجن، فإن المرض لن يتركهم . أعوان السجن... معاناة ومسؤولية المعاناة داخل أسوار السجن لا تتعلق بالمساجين فقط ولكنها تنسحب كذلك على السجانين باعتبار أنهم ليسوا في معزل عن ذلك المحيط الذي يؤثر في نفسياتهم وفي سلوكهم. وقد أكد لنا العديد منهم أن ظروف عملهم جد شاقة خاصة من ناحية طول حصة العمل التي قد تصل إلى 24 ساعة في بعض الأحيان إلى جانب عدم تمكينهم من وسائل الحماية في الحالات التي يتولى فيها أعوان السجون حراسة المساجين المرضى في المستشفيات مما يجعلهم عرضة للعديد من المخاطر ومحاولات تهريب السجناء من قبل ذويهم . كما اعتبر اعوان السجن أنهم ليسوا بمنأى عن العقاب في حالة فرار أي سجين وطالب العديد منهم بتحسين ظروف عملهم وتمكينهم من الازياء الخاصة بهم وإعادة إلحاقهم بوزارة الداخلية مؤكدين أن وضعيتهم المهنية تدهورت بدرجة كبيرة منذ إلحاقهم بوزارة العدل. كما طالبوا أيضا بضرورة توفير الحماية القانونية لاعوان سلك السجون والاصلاح وكذلك التجهيزات والمعدات اللازمة لاداء واجبهم المهني معبرين عن رفضهم المسّ بهيبة واستقلالية المؤسسة الامنية ورجالاتها. علاقات انسانية وهدايا رغم قساوة ظروف العمل، تحدث أعوان السجن عن الجانب الانساني لعملهم مشيرين الى ان وراء كل سجين حكاية أو ربما ظروف اجتماعية واقتصادية صعبة جعلته يحيد عن طريق الصواب ويدفع ثمنا باهظا لزلة قدم. وقد أشار أعوان سجن الناظور إلى أن طول فترة إقامة المسجونين جعلت لهذه المؤسسة نواميس خاصة فإدارة السجن تسمح لهؤلاء النزلاء بالطبخ بمفردهم وتوفر لهم بالإضافة إلى ما يوفره لهم ذويهم خلال الزيارات ما يطلبونه من مؤونة حتى أصبح العديد منهم يتقن بل يجيد فنون الطبخ وهم يتقاسمون في العديد من المرات وخاصة في شهر رمضان ما يطبخونه مع أعوان السجن وهو ما ولد بينهم علاقات انسانية و «عشرة» . ومن طرائف العلاقات التي تولدت بين أعوان «الناظور» والسجناء أن عون سجن أقدم خلال الصائفة الماضية حسب ما رواه زملاؤه على تقديم هدايا للسجناء حيث وفر لهم ما يزيد عن 100 «شلاكة» وقد لاقت هذه المبادرة رغم تواضعها استحسانا كبيرا بين المساجين . وزراء في الاستماع وخلال زيارتنا للسجن أصر النزلاء على تبليغ أصواتهم ومطالبهم إلى وزير حقوق الانسان سمير ديلو ووزير العدل نذير بن عمّو وقد استجاب الوزيران لمطالب المساجين وتحولوا إلى غرفهم للإطلاع عن كثب على مطالبهم. وقد أكد السيد سمير ديلو ل«التونسية» في هذا الصدد أن الأمر لا يتعلق بقضايا يتم النظر فيها بصفة مجردة ولكن الوزارة ستتخذ ما يمكن اتخاذه في إطار القانون وبعد النظر في ملفات المساجين والاطلاع على وضعياتهم الانسانية . القبو : شاهد على التاريخ زيارة سجن الناظور في «اليوم الدولي للحقيقة» لا يمكن أن تمر دون المرور بالقبو الذي سجن فيه معارضو بورقيبة من اليوسفيين أكثر من 11 عاما قضوها في ذلك المكان المظلم مقيدين بالأغلال وقد أكد المناضل «عم علي بن سالم» أن من مروا بذلك القبو شهود على التاريخ مصرا على أنه من المغالطة أن يصر البعض على إقحام الباجي قائد السبسي في قضية تعذيب اليوسفيين لأن تلك المجموعة حوكمت في جانفي 1962 في حين تولى الباجي وزارة الداخلية بعد عام من تلك المحاكمة ، غير أن رواية علي بن سالم لم ترق للعديد ممن جاؤوا للناظور للمساهمة في إحياء يوم الحقيقة حيث اتهمه المناظل قدور بن يشرط الذي سجن معه في تلك الفترة بتزييف الحقائق والانحياز للباجي قائد السبسي وحزبه والتنكر لنضالات رفاقه.