تختتم اليوم الاحتفالات الدينية السنوية في كنيسة الغريبة بقرية «الرياض» جربة وسط إجراءات أمنية مشددة تحسبا لأي طارئ قد يعكر صفو الاحتفالات حيث اصطفّ عدد كبير من الوحدات الأمنية والعسكرية أمام المدخل الرئيسي ل«الغريبة» فيما تمركزت بعض سيارات الاسعاف غير بعيد. ورغم ان عدد اليهود في اليوم الاول كان دون التوقعات (حوالي 200 شخص) فإن المنظمين يتوقعون حضور حوالي نحو 1000 يهودي مقيم بتونس، وحوالي 500 يهودي مُقيم بعدد من الدول الأوروبية منها فرنسا وإيطاليا، الى جانب عدد من اليهود الاسرائيليين. في اليوم الأول، بدأ اليهود منذ الصباح بالتوافد على الكنيسة ذات اللون الأزرق والأبيض والتي تقع فوق هضبة منخفضة داخل «الحارة الصغيرة» و يطلق عليها حاليا «الرياض»، وهي تبعد عدة كيلومترات عن وسط المدينةحومة السوق وتحيط بهذه الكنيسة بعض المنازل والمتاجر المتناثرة هنا وهناك. أمّا «الحجاج» فهم من جميع الأعمار، رضع وأطفال وشيوخ ونساء يرتدين ملابس مزركشة يدخلون مجموعات وفرادى إلى داخل الكنيسة الصغيرة. ويلتزم كل زائر للكنيسة بوضع غطاء على الرأس وخلع حذائه قبل الدخول وفي الداخل يشعلون الشموع ويتوجهون بالدعاء والصلاة ويخطون الأماني على البيض وهي عادة دأب اليهود على ممارستها كل سنة حيث يقومون بكتابة أمانيهم الشخصية على قشرة بيضة مسلوقة أو أكثر ووضعها داخل المغارة ثم بعد ذلك يحتسون شراب «البوخة» وسط الزغاريد والأناشيد الدينية ويتلقون بركة الحاخامات. وتقول الأسطورة ان كل الأماني التي يدونها الزوار على البيض الذي يضعونه في مغارة الكنيسة تتحقق، ما جعل بعضا من المسلمين يعتقدون في «بركة» كنيس الغريبة ويشاركون اليهود ممارسة هذه الطقوس(!!) ويجتمع اليهود في الملحق المقابل للكنيسة للأكل والرقص والغناء ثم يلتفون حول «المنارة» ويجوبون بها ساحة المعبد مهنئين بعضهم بزيارة «الغريبة». علاقتنا جيدة اعتبرت خمسانة زعفرانة، من يهود جربة ( 65 سنة)، ان زيارة «الغريبة» تمنحها الطمأنينة والراحة قائلة « أعيش في جربة منذ ولدت وكل عام ازور الغريبة للدعاء ..انها كنيسة مباركة تحقق الامنيات» مشيرة الى أن علاقتهم بالمسلمين في جربة طيبة وليست بينهم قطيعة قائلة « نشتري منهم ونبيع لهم ..نزور بعضنا البعض في المناسبات والاعياد ونادرا ما تحدث بيننا مشاكل». واشارت زعفرانة انها مسرورة بعودة الاحتفالات الى الكنيسة بعد ان تم الاقتصار السنة الماضية على المراسم الدينية فقط. أما جينيفار فواج ، تونسية يهودية تقطن بمرسيليا فقد بدت مرتاحة وسط الأجواء الاحتفالية خاصة أنها ألغت زيارتها السنة الماضية بسبب الظروف الأمنية مؤكدة أنها « مطمئنة جدا هذه السنة بفضل الحفاوة و التنظيم المحكم والاجراءات الأمنية المشددة..» مضيفة: «رفضت المجيء السنة الماضية بسبب الفوضى و دعوات بعض السلفيين لقتل اليهود ...لكن هذه السنة جئت لأقدم رسالة دعم ومحبة لحجاج الغريبة». قبل ان تختم: «جربة مسقط رأسنا ...والأمور السياسية لا تهمنا ومهما كان حاكم تونس سنزور الغريبة ولن نتخلى عنها». أما « devorah barg» (70 سنة) وهي كورية تزور «الغريبة» لأول مرة، فقد كانت علامات الاستغراب بادية عليها بسبب بعض الطقوس التي لم تستسغها قائلة « اعجبتني الغريبة.. لكن بعض الطقوس بدت لي غريبة وتختلف عن احتفالات اليهود في العالم ...لقد أردت الصلاة وقراءة التوراة لكن لم أتمكن من ذلك لأني وصلت متأخرة وسيغلقون الكنيسة الآن وهذا أمر غريب». ورغم محاولات المرافقة لها تفسير ذلك لها فإنها لم تقتنع. الأمور تبدو أفضل يقول بيريز كوهين (72 سنة)، الذي يشتغل بكنيس الغريبة منذ 48 سنة كمسؤول عن تلقي الهبات والعطايا، «كنا قبل الثورة نستقبل حوالي 10 آلاف حاج لكن بعد الثورة تقلص العدد إلى حوالي الألف ...ربما ذلك كان نتيجة خوف وقلق البعض من الأوضاع الأمنية في تونس» مضيفا أنه «رغم صعوبة العامين الماضيين... الأمور تبدو أفضل بكثير هذا العام». رسالة دعم وتسامح وقد شهدت الاحتفالات حضور عدد من المسلمين الذين جاؤوا للالتقاء ببعض أصدقائهم اليهود المشاركين في حجّ هذا العام حيث أكدت علياء باهي (60 سنة) التي قدمت خصيصا الى جربة «جئت أحمل رسالة دعم وسلام ... اليهود أصدقاؤنا وجيراننا في المرسى ونستطيع التعايش مع بعضنا دون عنف او إقصاء او قطيعة بعيدا عن التوتر السياسي». لكن علياء بدت قلقة من الحضور الأمني المكثف قائلة «الكثافة الأمنية مقلقة جدا...كل مائة متر هناك حواجز للتثبت من هوياتنا». أما صديقتها زهيرة لكحل، التي كانت تهم بدخول الكنيسة بعد ان ارتدت غطاء للرأس، فقد أكدت انها تريد تغيير صورة المسلمين التي ارتبطت بالعنف والإرهاب.. وانهم جاؤوا للترحيب بأصدقائهم اليهود ولاستعادة ضحكات بعيدة عن التوتر الديني والسياسي». الحضور الأمني ضروري في المقابل، أكد بيريز الطرابلسي، رئيس الطائفة اليهودية في جربة انه لا مثيل ل «الغريبة» في العالم لان بداخلها حجرا مقدسا لا تمتلكه بقية الكنائس معتبرا أنها كنيسة مباركة يحج اليها اليهود منذ حوالي 200 عام لإقامة طقوسهم الدينية واحتفالات «الهيلولة» مشيرا الى أن التعزيزات الامنية الكبيرة مهمة جدا وتبعث برسالة طمأنة لليهود في العالم وهي ان تونس تحميهم وتؤمن لهم زيارة ناجحة» مؤكد ان اليهود سيعودون بالآلاف في العام المقبل . وأكد الطرابلسي أن الطائفة اليهودية في جربة تعيش بسلام مع المسلمين وليست لديها أية تخوفات أو ضغوطات مشيرا الى أن هناك حوالي 1600 يهودي يقطنون في جربة وتونس العاصمة. وأكد بيريز الطرابلسي أن احتفالات هذه السنة تشهد مشاركة حوالي 20 من اليهود الاسرائيليين الذين سمحت لهم السلطات التونسية بالدخول بعد أن رفضت العام الماضي واشترطت عليهم جوازات سفر تونسية. وتعتبر الطائفة اليهودية التونسية إحدى أهم و اكبر الطوائف اليهودية في الدول العربية رغم أن عددها تراجع بشكل كبير على مرّ السنين وذلك اثر استقلال تونس عام 1956 للإقامة خصوصا في فرنسا وإسرائيل ولم يعد عددهم يزيد حاليا عن 1600 نسمة تقريبا حيث يقيم معظمهم في جربة وتونس العاصمة. وحسب روايات يهود جربة ترقد في كنيس الغريبة الذي استخدمت في بنائه قطع حجارة من هيكل سليمان الأول وهو ما لفت انتباهنا عند دخولنا الي الكنيسة الصغيرة لافتة معلقة مكتوبة بأربع لغات (العربية والإنقليزية والفرنسية والألمانية) تقول «يرجع عهد هذا المقام العتيق والمقدس المعروف بالغريبة إلى عام 586 قبل الحساب الأفرنجي أي منذ خراب الهيكل الأول لسليمان تحت سلطة نبوخذ نصر ملك بابل وقد وقع ترميمه عبر العصور ويعتبر هذا المكان مركزا روحانيا لقراءة التوراة وعبادة الله».