بقلم: د. إبراهيم البَرتاجي أستاذ تعليم عال في القانون العامّ عمّا قريب، سيتساءل البعض ماذا يوجد بين الرّئيسة الأولى للمحكمة الإدارية ورئيس المجلس الوطني التّأسيسي. والأرجح أنّهم سيقولون أنّ ما يوجد بينهما هو أبعد ما يكون عن الودّ الصّافي... فبعد أن أوقفت الرّئيسة الأولى القرارات الصّادرة عن رئيس المجلس والّتي ضبط بمقتضاها منح النّواب (الصّباح، 18 نوفمبر 2012)، هاهي توقف في 14 ماي 2013 السّلّم التّقييمي الممضى من طرف رئيس المجلس، بوصفه رئيسا للجنة الفرز، والّذي ضبط مقاييس دراسة ملفّات المترشّحين لعضوية الهيئة العليا للانتخابات. وقد صدر هذا السّلم التّقييمي في شكل ملحق تمّ إرفاقه بقرار رئيس المجلس الصّادر بتاريخ 20 فيفري 2013 والّذي نصّ على أنّ تقديم التّرشّحات لعضوية الهيئة يتمّ بداية من تاريخ نشره ويتواصل لمدّة عشرة أيّام. والملاحظ أنّه بعد التّمديد في أجل تقديم التّرشّحات إلى غاية 14 مارس 2013، قامت اللّجنة بدراسة الملفّات ونشر قائمة المترشّحين الّذين سيتمّ الاستماع إليهم بداية من 16 ماي 2013. لكن، جاء قرار المحكمة قبل هذا التّاريخ بيومين، فتمّ تأجيل حصص الاستماع إلى أجل لاحق. وقد يتبادر إلى الذّهن أنّ السّلّم التّقييمي تمّ تفعيله وانتهى الأمر، ممّا يكون معه قرار توقيف التّنفيذ دون جدوى. لكن هذا الكلام لا يستقيم بما أنّ لجنة الفرز لم تنه بعد أعمالها. وفي المقابل، هنالك جوانب أخرى في هذا القرار تستحقّ التوقف. في خصوص المصلحة من القيام لقد صدر مطلب توقيف التّنفيد عن مجموعة من المحامين تبيّن أنّهم ليسوا من المترشّحين لعضوية الهيئة، والحال أنّ طعنهم كان موجّها ضدّ قرار فتح باب التّرشّح وقرار التّمديد في أجله. وإن كانت صفتهم للقيام بهذا الطّعن لا تطرح إشكالا، فإنّ عنصر المصلحة يشدّ الانتباه. فبالرّجوع إلى قانون المحكمة الإدارية وإلى فقه قضائها، يتبيّن لنا أنّ شرط المصلحة ضروري في دعوى تجاوز السّلطة وأنّ هذه المصلحة يجب أن تكون شخصية ومباشرة ومشروعة. كما يتبيّن لنا أنّ المحكمة تعتمد في خصوص توقيف التّنفيذ نفس شروط القبولية المعتمدة في الدّعوى الأصلية. واللّافت للانتباه أنّنا نجد ذكرا لهذا في قرار توقيف التّنفيذ محلّ التّعليق. فقد جاء على لسان المحكمة : «وحيث درج الفقه والقضاء الإداريان على تعريف المصلحة في القيام بكونها الحقّ أو المنفعة المادية أو المعنوية الثّابتة والشّخصية والمشروعة الّتي يرمي القائم بالدّعوى إلى حمايتها أو الحصول عليها من وراء رفع دعواه إلى القضاء.» وبذلك كانت النّتيجة المنتظرة منطقيا انطلاقا من هذا الكلام هي الإقرار بعدم توفّر شرط المصلحة في القائمين بها. لكن تفاجئنا الحيثية الموالية بالقول ما معناه أنّه في قضية الحال لا يتمّ التّثبّت من عنصر المصلحة، فهذا الشّرط متوفّر لا محالة بما أنّ الأمر يتعلّق «بتركيبة الهيئة المذكورة باعتبارها رهانا وطنيا ذا أهمية قصوى». وبذلك، بعد أن قبلت الرّئيسة الأولى طعن المطالب بالضّريبة في القرارات ذات الصّبغة المالية، هاهي تقبل طعن المواطن في القرارات المتعلّقة بالرّهانات الوطنية، فاتحة بذلك نافذة على الاعتباطية. فالصّرامة تقتضي الاختيار بين حلّين : إمّا التّمسّك في جميع الحالات بشرط المصلحة بالمعنى المعروف والمستقرّ، وإمّا التّخلّي عن هذا الشّرط في بعض الحالات الاستثنائية شريطة عدم خرق القانون. وكلّ ما خرج عن هذا يترك انطباعا مقيتا بأنّ الحلول النّظرية تتغيّر في كلّ مرّة بحسب معطيات كلّ قضية. فكأنّ المحكمة قالت في هذا القرار : «صحيح أنّ شرط المصلحة غير متوفّر لكنّني قرّرت قبول المطلب!» في خصوص موضوع طلب توقيف التّنفيذ تعلّق مطلب توقيف التّنفيذ بقرارين صادرين عن رئيس المجلس التّاسيسي، وهما القرار الصّادر في 20 فيفري 2013 والمتعلّق بفتح باب التّرشّح لعضوية مجلس الهيئة العليا المستقلّة للانتخابات والقرار الصّادر في 6 مارس 2013 والمتعلّق بتمديد آجال التّرشّح. وهما قراران ما كان بالإمكان توقيف تنفيذهما لأنّهما نفّذا بعد، باعتبار أنّ أجل تقديم التّرشّحات انتهى يوم 14 مارس 2013 وطلب توقيف التّنفيذ قدّم بتاريخ 26 مارس 2013. لكن ما تمّ توقيف تنفيذه هو السّلّم التّقييمي وهو أمر لم يطلبه المدّعون. صحيح أنّ السّلّم التّقييمي جاء شكليا في صورة ملحق للقرار الأوّل الصّادر عن رئيس المجلس، لكن هذا لا ينفي عنه ذاتيته من حيث الموضوع ومن حيث السّلطة المختصّة بإصداره. فإن كان قرار فتح باب التّرشّح يتعلّق بتقديم التّرشّحات وهو من اختصاص رئيس المجلس، فإنّ ضبط السّلّم التّقييمي يتعلّق بدراسة الملفّات وهو من اختصاص لجنة الفرز، كما ينصّ على ذلك الفصل 6 من قانون 20 ديسمبر 2012 المتعلّق بالهيئة العليا المستقلّة للانتخابات. والملاحظ في هذا الشّان أنّ الطّاعنين عبّروا عن بعض المآخذ تجاه السّلّم التّقييمي عند مناقشتهم للقرارين المطعون فيهما. لكن هذا القدح غير المباشر، وبقطع النّظر عن مدى وجاهته، لا يمكن أن يؤدّي إلى اعتبار أنّ الطّعن موجّه مباشرة ضدّ السّلّم التّقييمي حتّى يتمّ توقيف تنفيذه، فضلا عن أنّ قابلية هذا السّلّم للطّعن المباشر ليست أمرا بديهيا. في خصوص شرعية السّلّم التّقييمي ينتمي السّلّم التّقييمي إلى صنف التّوجيهات الّتي توضع لتأطير ممارسة الهياكل الإدارية لسلطتها التّقديرية. فقد أوكل الفصل 6 من قانون الهيئة سلطة تقديرية للجنة دراسة الملفّات وفرزها لاختيار 36 مترشّحا يتمّ تقديمهم للجلسة العامّة للمجلس. وبيّن نفس الفصل أنّ الاختيار يتمّ بالرّجوع إلى شروط العضوية المقرّرة في القانون وإلى مقتضيات حسن أداء الهيئة لمهامّها وبالاستناد إلى سلّم تقييمي يضعه أعضاء اللّجنة بالتّوافق بينهم. وباعتباره مجرّد توجيه، لا يمثّل السّلّم التّقييمي قرارا إداريا قابلا للطّعن ولإيقاف التّنفيد، إلّا إذا تبيّن أنّه أضاف قواعد جديدة بالمقارنة مع ما نصّ عليه القانون وقرار فتح باب التّرشّح، وهو ما اعتبرت المحكمة أنّه متوفّر في قضية الحال. فقد رأت المحكمة أنّ السّلّم التّقييمي «أضاف شرط المؤهّلات العلمية واعتمد ترتيبا رقميا بخصوص المشاركة في المجال الانتخابي، كما تضمّن بخصوص شرط السّنّ ترتيبا رقميا حسب الأصناف وحسب الشّرائح العمرية...». لكن كلّ هذا لا يمثّل في الحقيقة قواعد جديدة، إنّما يتعلّق بكيفية تطبيق اللّجنة لشرط الكفاءة والخبرة الوارد بالقانون. ومهما يكن من أمر، وجب التّأكيد على أنّ وجود القواعد الجديدة لايعني بالضّرورة أنّها مخالفة للقانون، على عكس ما توحي به بعض عبارات القرار المعلّق عليه. وقد انتهت المحكمة في هذا الشّأن إلى اعتبار أنّ السّلّم التّقييمي خرق مقتضيات الفصل 7 من قانون الهيئة، وهو الفصل الّذي ضبط شروط العضوية، كما أخلّ بمبدإ المساواة وتكافؤ الفرص. واعتبرت في هذا السّياق أنّ تطبيق السّلّم التّقييمي «يفضي إلى إقصاء العديد من المترشّحين الّذين تتوفّر فيهم الشّروط القانونية». هذا الكلام تصعب مجاراته، باعتبار أنّ السّلّم التّقييمي لا يحمل في ذاته أيّ معطى إقصائي. فإن كان المقصود منع اللّجنة من وضع معطيات تساعدها على ممارسة سلطتها التّقديرية، فهذا أمر يأباه القانون. وإن كان المقصود هو اعتماد التّصويت في خصوص جميع المترشّحين الّذين تتوفّر فيهم الشّروط الموضوعية، فذاك أمر يتعلّق بعمل اللّجنة ولا بكنه السّلّم التّقييمي. إنّ المغرمين بالمحكمة الإدارية هم مغرمون أساسا بصرامتها الّتي جعلتهم يقتنعون يوما بعد يوم أنّ القانون الإداري هو من العلوم الصّحيحة. فليت المحكمة الإدارية تنتبه أكثر إلى عشاقها...