اورد الشيخ راشد الغنوشي على صفحته الرسمية بمناسبة الذكرى الثانية والثلاثين لولادة المشروع السّياسي للحركة الإسلامية في تونس و في ما يلي نصها: "تمرّ هذه الذكرى وقد منّ الله جل جلاله على البلاد والعباد بأعظم المنّة بعد الاستقلال الذي لم يواكبه تحرر المواطن من الاستبداد ولا تعززت به هوية البلاد العربية والإسلامية وزاد الطين بلّة انحراف مشاريع التنمية بين الجهات عن نهج العدالة فكان الاختلال فادحا حتى استحال جبره بما هو معتاد من وسائل الإصلاح، فكانت الثورة المباركة هي الحل جوابا عن جملة انحرافات دولة تحولت جهاز استبداد و فساد و تفسخ و كان مفهوما أن يولي الشعب ثقته الأعظم للجهة الأكثر تعرضا للقمع طيلة الثلث القرن الأخير والالتصاق بهويته العربية والإسلامية، فكانت حركة النهضة سليلة حركة الاتجاه الإسلامي التي تمر هذه الأيام الذكرى الثانية والثلاثون لتأسيسها في السادس من جوان العام الواحد والثمانين وتسع مائة وألف، ولم يسعفها نظام القمع البورقيبي أزيد من شهرين حتى يوافي مطلبها في اعتمادها حزبا ينشط في نطاق القانون والشرعية بحملة اعتقالات واسعة شملت خلال ثلاث سنوات أزيد من خمسمائة من قيادييها وأعضائها البارزين ،ومنذئذ وحتى انفجار الثورة المباركة وحرب النظام الهالك لا تكاد تهدأ حتى تندلع أشد استعارا، فما هي أهم الدروس والعبر التي يمكن استخلاصها من هذه الملحمة التي قادت نظاما سليل الحركة الوطنية مجهزا بأضخم آلة بوليسية متوحشة ومدعومة دوليا إلى انهيار مريع على يد شباب أعزل إلا من إرادة الفعل والتضحية وأن تحل محله حركة إسلامية مستضعفة وحلفاؤها؟ 1-إن أضعف الأنظمة هو النظام الدكتاتوري مهما بدا الأمر على خلاف ذلك لا سيما في غياب تركيبة طائفية تسندها كما هو الحال في تونس 2-إن الأفكار والعقائد أصلب من عصي أنظمة القمع مهما بلغت عتوا، لقد صمد تحت أعتى السياط مناضلو شعبنا من مدارس مختلفة طيلة أزيد من نصف قرن وكان أطولها مدة وأشدها اتساعا نصيب مناضلي النهضة،التحية اليهم جميعا وإلى أسرهم. 3- لقد مثّل الإسلام في صيغته الوسطية السمحة وفي شموله دينا ودنيا وفردا ومجتمعا ودولة المرجعية العقدية والقيمية الأعلى لحركة النهضة في كل أطوارها منذ تأسيس هذا التيار ، في تفاعل متطور مع واقع المجتمع التونسي وتراثه ومشكلاته ومع واقع أمة العرب والمسلمين ومع ثقافة العصر وتحدياته . الإسلام هو الفضاء العام الذي تجول فيه الحركة ولا تتعداه والسقف الذي يُظلها ولا تمسه والطاقة المحركة لكل فعلها. لا اختلاف على الإسلام في الحركة.."ان الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء" وإنما الاختلاف حول تنزيله في الأرض أي هو اختلاف في السياسة، في تشخيص الواقع بمختلف أبعاده وما يطيق ، فذلك شرط التكليف: الوسع، "لا يكلف الله نفسا الا وسعها" وفي الصحيح.."من راى منكم منكرا فليغيره بيده ، فان لم يستطع فبلسانه ،فان لم يستطع فبقلبه" وبلغة أخرى هو اختلاف في تقدير الموقف ، في قراءة موازين القوة، في فقه الواقع لا في فقه الدين، في السياسة ، حيث طالما زلت أقدام ونكبت جماعات وانهارت جيوش وسقطت دول. وطالما نبّه ابن خلدون إلى ضعف بضاعة الفقهاء في هذه المجال، ما عرّضهم إلى ارتكاب أشنع الحماقات. 4- لقد مثل مطلب الحرية باعتبارها مقصدا عظيما من مقاصد الشريعة المدخل الرئيس لمشروع الحركة السياسي ، إيمانا بمكانتها العظمى في الإسلام ومناط التكريم الإلهي للإنسان والشرط الذي لا بديل عنه لكل إصلاح، وحوله دندنت أدبيات الحركة، فكان مطلب الحرية المحور الأساسي لبرامجها ،حرية لا تستثني أحدا، فطالما سرنا على حكمة وشريعة قائدنا ومعلمنا عليه الصلاة و السلام ، إذ استنكف قومه من اتباع دعوته فعرض عليهم خيارا بديلا.. "خلوا بيني وبين الناس" ومعناه ضمان الحريات للجميع وترك الخيار بين البدائل للناس، وهو خلاصة حلف الفضول الذي أقره قومه في الجاهلية تركا للمظالم تمنى لو حافظوا عليه، وهو صورة من مواثيق حقوق الإنسان والديمقراطية. ولا يعني ذلك تفريطا في الشريعة أو تنازلا عنها وإنما باعتبار الحرية وضمان حقوق للإنسان من أعظم مقاصد الشريعة ومن أوسع أبوابها فإنما جاءت الشرائع تكريما للإنسان... خلال ندوة مقاصد الشريعة سألني شاب ماذا طبقتم من الشريعة وانتم تحكمون منذ سنة ونصف؟ فأجبت :أصبح انعقاد هذه الندوة بمشاركة علماء وطلبة من مختلف مناطق البلاد ومن خارجها ممكنا، وكان محظورا ، أوليس فتح هذه الحقول الواسعة لخدمة الوطن والدين جزء من الشريعة و مقصدا عظيما من مقاصدها؟. لماذا لا يكاد ينشغل بعض الدعاة بغير التفكير في الحظر والعقاب ، بينما ذلك أضيق أبواب الشريعة المطلوب درء إيقاعه ببذل أقصى الجهد في محاربة أسبابه. 5-لقد نقلت الثورة المباركة ليس المجتمع التونسي وحسب من حال العبودية والخوف من القمع والظلم إلى حال الحرية والمشاركة في صنع القرار حاكما كان أم معارضا يتفنن في الضغط على الحاكمين، بل نقلت الحركة الإسلامية نقلة لا تقل عن ذلك ، من هامش الأحداث ، من غيابات السجون والقهر والملاحقة اليومية والتشرد والغربة المقيتة إلى قلب العملية التاريخية، وهي نقلة لم تُهضم من الكثيرين سواء ممن استمرؤوا التمتع والانفراد بالسلطة لعقود متتالية، أو من المنافسين السياسيين والإيديولجيين ممن لا يفتؤون يَرجُّون الأرض من تحت الأقدام رافعين شعارات الصدام حتى سقوط النظام، دعوات لا يجوز الاستهانة بها تصدر عن جماعات متوترة فوضوية غير محكومة بغير الأحقاد وتحقيق الغايات بكل وسيلة متاحة، وهو ما يجعل مهمة توطيد الحريات وتوسيعها وضمان استمرارها وترسيخها حتى تتحول ثقافة عامة في مجتمعنا باعتبارها مفتاح التقدم والنهوض وتحقيق كل أهداف الثورة في العدل والتنمية ووحدة الأمة وتحرير أراضيها. إن الفراغ من سنّ دستور مؤسس على قاعدة الحريات من أهم أهداف الثورة المباركة ومقاصد الشريعة، آخذا في الحسبان أن الثورات التي نجحت في الإطاحة بدكتاتوريين كثيرة غير أنّ القليل هو من نجح في إقامة ديمقراطيات مستقرة، وكل المتابعين لثورات الربيع العربي ممن يرجون لها النجاح تعقد آمالهم على التجربة التونسية أن تقدم أول وأنجح نموذج للديمقراطية في بلاد العرب ، فإذا هي فشلت لا سمح الله فغيرها يبدو كأنه من باب أولى بسبب ما يتوفر من أسباب نجاح هنا من مثل سلمية الثورة وتمازج المجتمع واعتدال وديمقراطية النهضة. فأي شرف أكبر من هذا وأي فرصة تاريخية أعظم تضعهما الأقدار أمام البلاد والحركة، فليعرف الجميع قدره ومسؤوليته ففرص التقدم متوفرة إلا أن إمكانات التدهور لا تقل عنها " ربنا عليك توكلنا واليك أنبنا واليك المصير" «