التونسية (تونس) لم يكن يدور بخلد «الجزّارة» أنّ الآمال التي علّقوها على أولى أيام شهر رمضان في انتعاشة تجارتهم ,سيعصف بها طارئ لم يكن في الحسبان... فدخول أعوان الشركة التونسية للشحن والترصيف «ستام» يوم الأحد 7 جويلية في إضراب بسبب بيع الشركة التونسية لعدد من الأرصفة لشركة دنماركية على حد قولهم , حال دون تزويد السوق بكميات اللحوم المستوردة وبقيت في الميناء «محجوزة»... «التونسية» قامت بجولة في السوق المركزية بالعاصمة وتحدثت إلى عدد من القصابيّن الذين كانوا في أمرهم حائرين ... لم يكن المشهد العام وقتها يوحي لك بأنك «في حضرة» السوق المركزية خصوصا وأن ساعات تفصلنا عن حلول شهر الصيام فالحركية كانت كسولة وحركة المتسوّقين قليلة... أما في «جناح» اللحوم الحمراء , فحضر الجزارة وغاب اللحم... هاتوا السلعة ... ثم سعّروا ! على كرسي خشبي ,جلس متوّسطا المسافة الفاصلة بين دكانيه في تثاقل وفتور... و قد أحبطت الواجهات شبه الفارغة عزمه وأصابته بخيبة موجعة عبّر عنها بتمتمة خافتة : «ماذا عساني أقول؟الشكوى لله وحده !» وبدا زاهدا في الحديث... ثمّ كمن وخزته آلامه ,فصرخ من الوجع بعد طول تجلّد, طفق «عم صادق»يشكو حكايته مع اللحوم قائلا: «أنعم الله علي بحانوتي جزارّة , أعيل منهما عائلتي وعائلات من يشتغلون معي... و لكن الصعود الصاروخي للأسعار قصم ظهورنا, وها نحن اليوم بلا سلعة وقد حلّ رمضان.فالمفروض أنه في مثل هذه المناسبات تنتعش تجارتنا ويكثر حرفاؤنا ,ولكن الإضراب حرمنا من التزوّد باللحوم وقضاء حاجة الزبائن ... و المضحك المبكي أنّ الحكومة سارعت إلى وضع تسعيرة بيع اللحوم ولم تتدّخل لتمدّنا بالسلع العالقة في الميناء, فهاتوا السلعة ... ثم سعّروا». تسعيرة مجحفة بعد أن اعتذر للحريفة عن الاستجابة لطلبها ..لأنه ببساطة لا تتوّفر عنده حاجتها واللحوم قد تأخرت عن موعدها, أعرب الجزّار «صادق بوذراع»عن امتعاضه من بقاء جلّ المحلاّت بلا لحوم والحال رمضان. متسائلا: «أين الحكومة والسلطات المعنية؟وكيف يسمحون أن تبقى المواد الغذائية عالقة في الميناء, أليس لها مدة صلوحية,ألاّ يخافون على صحة المواطن؟». مضيفا أنه لم يتزوّد بحاجته من اللحوم من السوق المحليةّ, لأن ضمان هامش من الربح وعدم مخالفة التسعيرة المجحفة التي وضعتها وزارة التجارة معادلة صعبة وحتى مستحيلة.وأردف قائلا: «هانا قاعدين بلا سلعة... و الوزارة ما هي سريعة كان في الخطايا». التونسي «ما يحبّش لحم البرّا» كان دكانه الوحيد الذي تدّلت من سقفه الذبائح في حين اكتفت بقيّة الحوانيت المجاورة بعرض كتل من اللحوم مختلفة الأحجام أو بعض من مشتقاتها, ويبدو أن هذا المنظر أغرى المتسوّقين فوقفوا يبتاعون حاجتهم, كلّ على قدر أمواله. سألناه أنّى له تلك الذبائح وزملاؤه يشكون غلاء السوق المحلية وتعطّل وصول اللحوم الموردة؟فأجاب «سامي» قائلا: «من يريد أن يعمل,عليه أن يطرق جميع الأبواب.فأنا مثلا لم أبق مكتوف الأيدي بل توجّهت مباشرة إلى الفلاح واشتريت حاجتي من الخرفان والعجول وذبحتها بنفسي... والحمد لله فإن الرزق متوّفر والإقبال موجود رغم فرق في السعر بين اللحوم المحلية والأخرى المستوردة بحوالي 3 دنانير.فالتونسي «ما يحبّش لحم البّرة»... الوسطاء هم رأس الحربة لبّى رغبة حريفه هاشّا باشّا وبكل طيب خاطر رغم أنّ الطلب لم يتجاوز نصف الرطل من اللحم «البقري»,قائلا: «مستعدّون لنبيع كلّ على حسب نقوده... فالأجور الهزيلة والأسعار المحلّقة في السماوات البعيدة,تحرم متواضعي الحال من مائدة مقبولة في شهر رمضان ,فلماذا نحرمهم نحن من تذوّق اللحم ؟» و«أضاف شكري تورخاني» (جزّار) أنّ البيع القليل خير من البيع الكثير الذي يندر أن يأتي, مبرئا ساحة «الجزارة» وكذلك الفلاحين من التهاب سعر اللحوم بقوله: المشكل أن الحكومة في محاولة إرضائها للمواطن تدوس على الجزار بتقييده بتسعيرة معيّنة حتى ولو باع بالخسارة! وتهمل حق الفلاح الذي يكلّفه الإنتاج كثيرا ,في حين تتوانى عن قطع دابر الوسطاء والضرب على أيدي المحتكرين الذين هم رأس الحربة في الغلاء الذي ضرب جل الميادين والمجالات... . كيف حال لحم «الحصان»؟ كان يرصف بضاعته وكأنّه ينفض عنها غبار الكساد الذي علّق بها, فلّعل في تغيير أماكن البضاعة جلب للرزق... لكن الرزق حسب «سالم ناجي» (تاجر لحم حصان ) ,يبقى زهيدا والمدخول قليلا... و عبّر ناجي عن استيائه من حجم الخسارة التي تدهور إليها القطاع بسبب تراجع الإنتاج أمام زحف معضلة تهريب القطيع وغلاء الأعلاف ... مضيفا أن عددا من المواطنين كثيرا ما كانوا يستعيضون بلحم «الحصان»عن لحم «العلوش»أو «البقري»,نظرا لأن ثمنه أرفق, لكنهم اليوم باتوا يتردّدون في الشراء أمام القفز الصاروخي للأسعار ,حيث بلغ سعر الكيلوغرام من لحم الحصان حوالي ستة دنانير. وعلّق هذا التاجر في سخرية تنّم عن مرارة: «كثيرون هم الحرفاء الذين يقصدون دكاني, لكنهم يكتفون بشراء «الفواضل» لإطعام كلابهم... !». «كل قدير وقدرو» «زن لي قطعتين أو ثلاثا من لحم الضأن» قالتها صراحة دون أن يعتريها خجل من تواضع كمية طلبها للحم. ف«القليل خير من لاشيء وكل قدير وقدرو»على حدّ قول السيّدة «ذهبية عرفاوي».وهذه المرأة لم تكن تمثل استثناء, وقد بات التقشف في المصاريف سياسة أغلب العائلات التونسية, وخصوصا مع لحم «العلوش» الذي يكتفي منه البعض بمجرّد «تفويح» الطبق وتذوّق ما استطاعوا إليه سبيلا ويستعيض البعض الآخر في علاقته باللحم عن حاسة الذوق بحاسة النظر فيغازله في حسرة ولسان حاله يقول: «العين بصيرة واليد قصيرة»... ليلى بورقعة