تنوع الشخصيات واختلافها يثريان حياتنا كثيراً، فكل شخصية تتميز بصفات جسدية وذهنية وسلوكية خاصة بها، نابعة من الجينات الوراثية كالشكل واللون والصوت، أو مكتسبة من المحيط الاجتماعي كلباقة السلوك وأخلاق التعامل. وروعة التنوع بين بني البشر تخلق حالة فريدة من الانسجام بين المختلفين، فكلٌ يرى نواقصه الكامنة قد عولجت عند الآخرين، أو يرى إيجابياته الواضحة قد فقدت عندهم، فحالة الانسجام تتبلور حينما نُشبع حاجاتنا المفقودة بحاجاتهم الموجودة، وبين المفقود والموجود قصة تكامل بين الشعوب منذ قديم الزمان اقتصادياً واجتماعياً أوحتى انسانياً. ومقولة أن الإنسان اجتماعيٌ بطبعه، تثبت حاجة الانسان لأخيه الانسان، إما حاجةً مادية تخلصه من وضعٍ ما أو تعينه على قضاء أمر ما، وإما حاجة معنوية تسد نواقصه المكنونة بتبادل الأفكار واكتساب الآراء والتعرف على الثقافات، فيثري نفسه بلآلئ الآخرين، ويمدهم ما استطاع برصيده المحفوظ. وبعيداً عن المثالية، فمجريات التاريخ الحقيقية لم توافق بشكل تام النظرية الاجتماعية، فهناك حالات تغلب فيها الأنانية والانكماش على النفس، حباً لها أو خوفاً عليها، وفي حالة الخوف تظهر مخالب الدفاع الحادة، فتكون على شكل دفاعٍ مستميت بلا إدراكٍ عقلي، أو تكون هجوماً استباقياً لكل المختلفين أو المخالفين. وفي خضم طفرة التكنولوجيا ووسائل التواصل الاجتماعي، لا زال البعض متمسكاً بذلك السلاح المقيت والأسلوب الرخيص في هجوم مخالفيه، فلا مبررات تفسر فعلهم، ولا براهين ترجح رأيهم، فسيوفهم مسلولة بلا تعين، وقصفهم عشوائي بلا تحديد، وكأني بهم في حلبة مصارعةٍ فكرية، لكماتها سوء الألفاظ، وركلاتها دناءة الأسلوب. ومحصلة كل جولة مجهولة للمهاجم، ففي الغالب كل رفسه ولعنه لا تحرك ساكناً في الطرف المقابل، بل أنهم يمضون في قافلتهم غير مكترثين لزوبعات الآخرين ومطبات الحاقدين، منشغلين بفكرة أرادوا ترويجها بطريقة ما، مبتكرين أساليب ووسائل تسهل مهمتهم، قابلين بهدايا الخصم المجانية بصورةِ دعايةٍ مستمرة، فهم مادة يومية عند خصومهم التقليديين، دون إدراك الأخير لفعله العكسي في صراعه الفكري. وبرزت تلك الصراعات واضحةً في حلبة “تويتر"، كونها تستوعب أكبر عددٍ من المصارعين، وكونها تختصر اللكمات واللعنات بقليل من الكلمات، فتكثر حوارات تصفية الحسابات، وتروج تكميم الإبداع بحجة الدفاع عن الحق بمفهومهم الخاص، بينما تظل الغالبية الصامتة في صمتٍ مستثار، مستمتعين بتبادل اللكمات، منتظرين ردة فعل الآخر. لا أجزم بأن الصامتين هم أكبر المستفيدين، ولكني أرى أن الصورة لديهم أكثر وضوحاً ممن هم في داخل الحلبة، وأجزم بأن الطرفين لا يدركان رأي الصامتين في صراعهم الدائر، وكثيراً ما ينخدع أحدهما بكثرة التهليل والتصفيق ظناً منهم بأنها علامات التأييد والنُصرة، وفي الحقيقة ما هي إلا استثارة لتقديم المزيد من متعة السب واللعن. ومن وجهة نظرٍ خاصة، أرى أن الطرف المتهكم في حواره بتكرار والمستعين بأدواتٍ يراها فتاكة هو الخاسر الأكبر، وإن كان يدافع عن الحق، فالحق لا يحتاج لأسلوبٍ باطلٍ للدفاع عنه، وبسبب هذا الأسلوب قد يُرى الحق باطلاً، أو يُرى الباطل حقاً، فالنفوس بطبيعتها تميل لنصرة الأضعف والمغلوب على أمره، فلا تجعلوا الحق باطلاً والباطل حقاً بأسلوبكم الدنيء في حواراتكم الفكرية. (اللهم أرنا الحق حقاً وأرزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وأرزقنا اجتنابه)