لم اجد "كلمة" اكثر تعبيرا من هذه العبارة " نعم الثورة انصفتني " فتونس ما قبل الثورة هي ليست تونس ما بعد الثورة و هذه حقيقة جلية و واضحة للكل و لا أحد يشكك فيها. و لكن ما الذي تغير بعيدا عن ما هو سياسي ؟ تعرضت لتجربة مؤلمة وجميلة في نفس الوقت أدركتها حينها أن الثورة التونسية لم تكن ثورة كرامة و فقر و ثورة ضد الظلم والدكتاتورية طلبا للحرية فقط ، هي كذلك ، و لكن هي أيضا ثورة تصحيح للمفاهيم و تصحيح للصورة التي حرص المخلوع على ترويجها : تونس التحضر الانفتاح إلى درجة أن البعض كان يضن أن تونس لا تتكلم العربية و أنها ليست دولة عربية إسلامية . هذا الشعب المسكين الذي شوه صورته المخلوع و روّج لتونس على أساس أنها "باريس الصغيرة" حتى صرنا لا نعرف في وسطنا العربي الاسلامي . منبوذين ينظرون إلينا و كأننا كفار و هذه تجربة عشتها شخصيا مع إحدى الأخوات العربيات ، التي كانت تتحاشى التعامل معي فقط لأنني تونسية ، فقط لأننا " شعب منفتح و أنه لا دين لنا و لا ملّة " نعم كانت هذه العبارة التي استعملتها ، عبارة نزلت على رأسي نزول الصاعقة عندها أدركت أن الثورة التونسية لم تكن فقط ثورة خبز و كرامة بل أيضا ثورة مصالحة مع الناس و ثورة إنصاف لشعب ظلم و غيّب و شوّهت سمعته بسبب نظام دكتاتوري كان كل همه أن يرضي حلفائه فرنسا وأمريكا . لم يكن الكثير يعرف تاريخ تونس الحديث و أن هذا الشعب قتل و عذب و شرد بسبب راية الإسلام ، و بسبب كلمة لا الاه الا الله وبسببالحجاب و اللحية . هذا المخلوع أراد للتونسية أن تكون سلعة رخيصة ينظر إليها القاصي و الداني حرمها من نعمة الإسلام . أجبرها على نزع حجابها و أي نوع من غطاء الشعر أي نوع . هذا المخلوع الذي راقب الشباب و ضيق عليهم حتى في بيوتهم هم غير آمنين يصلون خفية . هجّرهم بن علي من بلادهم . و أجبرهم على هجر المساجد . من يصلي الفجر حاضرا في وقته لا يعود الى منزله بل يذهب مباشرة الى السجن والتحقيق والتنكيل دون علم من أهله . من أرادت أن تخرج متحجبة تجد نفسها في مراكز الشرطة يحققون معها و يهينونها ويعبثون بكرامتها و في الاخير ينزع حجابها وتخرج من المركز دونه، هذا الحاكم الجائر الظالم الكافر و السارق نهب هو عائلته ثروات البلاد والعباد . ماذا قدم لنا نحن كتونسيين غير الذل و الهوان و صورة مشعة لدى الغرب و قاحلة مقرفة داخليا ولدى العرب . صور تونس جنة على ارض الله في حين أن السّوس ينخر أطرافها فقر و هوان وذل و غربة عن الدين و الوطن. و ازداد نفس الشعور داخلي في أنها ثورة إنصاف عندما فازت حركة النهضة المحسوبة على الشق الاسلامي بأغلبية المقاعد في المجلس التأسيسي. فيستغرب الكل وجود الاسلامين في تونس و يطفوا التيار السلفي بقوة اعلاميا ليستغربوا اكثر وجود مثل هذا التيار في تونس .و سوآءا فشلت ثورتنا أم نجحت تبقى محاولة للثورة و للغيرة على الدين ، ولن يرضى الشعب التونسي مرة اخرى التفريط في هذا المكسب بالذات . قلت لها لا تستغربي الكم الهائل من الشباب المسلم بأطيافه المعتدل و السلفي فذاك ما كان ينقصه هو أن يمارس دينه في الملأ دون خوف على عرضه و ماله و ولده . تونس اخواني جميلة بأهلها و ناسها الطيبين و ليس بحاكمها المخلوع و زمرته . تونس بلد فقير لكنه غني بدينه و باعتزاز أهله و إصرارهم على بناء تونس الكل الاسلامي و العلماني و كل الاطياف . بالعكس التيار العلماني كان الأكثر استفادة من غيره في فترة حكم بن علي أرانا الله فيه عجائب صنعه، هو في مزبلة التاريخ مهما فلت من العقاب هو في مزبلته و حتى "الزبالة" لا ترضى ان تحمل أمثاله الكثر. نعم إنها تونسالقيروان التي تعرف باسم رابعة الثلاث بعد مكةالمكرمة و المدينةالمنورة و القدس الشريف ، أقدم و أول مدينة إسلامية و قد بناها المجاهد عقبة ابن نافع لتكون قاعدة لنشر الاسلام في المغرب العربي وافريقيا . لكن المخلوع جعل منها منارة سياحة يدوسها القاصي والداني من الاجانب لا منارة الإسلام و الحلقات و الذكر ، تونس الزيتونة التي أخرجت من رحمها الدعاة والشيوخ الذين قمعوا و هجّروا و جعل منها المخلوع مرتعا لليسار , لكن يمكرون و يمكر الله والله خير الماكرين و ما نراه اليوم من حراك داخلي إنما هي انتفاضة شعب يريد أن يكون عربيا إسلاميا قلبا وقالبا لا مجرد تصنيف. فما نعيشه اليوم من حراك فكري عقائدي أمر طبيعي جدا مهما اختلفت ألوانه وتشعبت أطيافه و تشددت تياراته إلا أنه يعكس الغليان الداخلي للذات البشرية المقموعة ، للشاب التونسي الذي استقى تعاليم دينه من قنوات دينية ازدحم بها الفضاء الرقمي والافتراضي بعد ان جففت جميع المنابع داخليا و كمّمت الافواه و حلقات العلم و المنابر الدينية فطبيعي أن نجد مثل هذه النقاشات و طبيعي أن نجد صدام بين مجمل أطياف المجتمع و خاصة اولائك الذين لم يتعودوا سماع خطاب ديني أو نقاش فقهي. إن ما تشهده تونس هذه الايام من مظاهرات تطالب بتطبيق الشريعة ليس بالامر الغريب على مجتمع مسلم عاش غربة في الدين و في الفقه . و المتخوفين من تطبيق الشريعة هم أناس يحصرون الشريعة في أنها مجرد أحكام متعلقة بحد السرقة والزنى واحكام الزواج والطلاق و يتناسون او ربما يجهلون أن الشريعة الاسلامية هي منظومة حياة متكاملة أسسها صالحة لكل زمان ومكان و أحكامها متغيرة بتغيرهما و شاملة لكل ما هو اجتماعي و أخلاقي و ثقافي و اقتصادي و سياسي . لكن السؤال المطروح هل يمكن تطبيق الشريعة فعلا الآن في تونس بعد نصف قرن أو اكثر من التغريب و الانفصام؟ من وجهة نظري المتواضعة تطبيق الشريعة الآن و بصفة كلّية فيه ظلم للشريعة في حد ذاتها و هو اعلان لفشل المشروع الاسلامي، و حسب رايي ، و لست متفقهة لا في الدين و لا في الشريعة، التدرج في هذه المسالة أمر واجب و ضروري للارتقاء بالمجتمع الى درجات الاستيعاب و الاستعداد للشريعة و أعتقد أن هذا هو نهج دينينا في أنه دين يسر ، و سنة رسولنا الكريم الذي قال "إن هذا الدين متين فأوغلوا فيه برفق ولا تبغضوا إلى أنفسكم عبادة الله، فإن المنبت لا أرضا قطع و لا ظهرا أبقي" و في شرح الامام الغزالي لهذا الحديث انه قال :" أراد بذلك أن لا يكلف نفسه في أعماله الدينية ما يخالف العادة، بل يكون بتلطف وتدريج، فلا ينتقل دفعة واحدة إلى الطريق الأقصى في التبدل، فإن الطبع نفور، و لا يمكن نقله عن أخلاقه الرديئة إلا شيئا فشيئا حتى تنفصم الأخلاق المذمومة الراسخة فيه، و من لم يراع التدريج و يتوغل دفعة واحدة، يرقى إلى حالة تشق عليه فتنعكس أموره فيصير ما كان محبوبا عنده ممقوتا، و ما كان مكروها عنده مشربا هنيئا لا ينفر عنه. و المنبتُّ هو الذي انقطع به السير في السفر وعطلت راحلته و لم يقض وطره، فلا هو قطع الأرض التي أراد، ولا هو أبقى ظهره، أي دابته التي يركبها لينتفع بها فيما بعد." وهكذا من تكلف من العبادة ما لا يطيق، ربما يملُّ ويسأم، فينقطع عما كان يعمله. ونحن لا نريد ان نمل ممارسة الشريعة الحق بل نريدها مشروعنا نعمل على التقرب منه و التوغل فيه شيئا فشيئا حتى نصل الى درجة المنهاج و المنهج و بذلك نكون قد قدمنا النموذج الاسلامي القابل ان يكون قدوة للكل و خاصة النموذج السياسي و نموذج الدولة المدنية القائمة على أساس شرعي. هذا البريد محمى من المتطفلين. تحتاج إلى تشغيل الجافا سكريبت لمشاهدته.