”آسفني في خلال الأربعين من هذا العصر والمرأة العربية تنهض من خمولها فتتعلم، وتتقدّم، وتدخل الجامعة، وتشارك في خدمة المجتمع، أن تبقى متهمة بالقصور والتخلّف.. وكانت أقلام الأعلام من أدبائنا ترميها بكل نقيصة“. بعد نحو ثلاثة عقود من صدور رواية: ”أروى بنت الخطوب“ أفصحت وداد سكاكيني عن دوافع كتابتها للرواية بما تصدّر من قول لسكاكيني نفسها، وبما يبدو جهراً بمقاصد السرد في نتاجها القصصي والروائي والفكري جميعاً، بل بما هو دالّ ومباشر على أنّ ثمّة مؤرّقاً مركزياً كان يشغلها في مجمل ما أنجزت في حقول الإبداع والنقد والفكر معاً. أي تعرية الوعي البطريركي الشائه الذي يعوّق تحرّر المرأة العربية، ويحدّد حركتها ووجودها في هوامش ضيّقة، وينظر إليها بوصفها هامشاً في، أو استكمالاً لمعادلة التقدم والتطور الحضاريين، لا طرفاً أساسياً أو متناً فيها. ولم تكن سكاكيني، في هذا المجال، نسيج وحدها من النساء اللواتي سبقنها إلى الحياة في نهاية القرن التاسع عشر، أو اللواتي ولدن معها في الربع الأول من القرن العشرين، فالمعارك التي خاضتها كانت امتداداً لمعارك التنوير التي كانت كوكبة من النساء قد أسهمت فيها جنباً إلى جنب المنوّرين العرب آنذاك، أمثال: ماري عجمي، وسلمى صائغ، وهند نوفل، وملك حفني ناصيف، ولبيبة هاشم. ولدت وداد سكاكيني في مدينة صيدا (لبنان) سنة 1913، وتخرّجت في الكلّية الإسلامية ببيروت، وبعد عملها في التعليم لنحو عشر سنوات، تركته لتتفرّغ للأدب، ومن ثمّ لتقترن بالدكتور زكي المحاسني، وتستقرّ معه في دمشق، ثمّ في مصر سنة 1944. وفي مصر التي عاشت فيها، وأسرتها، لسنوات خاضت معارك فكرية وأدبية دفاعاً عن المرأة، وانتصاراً لقضاياها، وأسهمت في الكتابة في صحف ومجلات عدة، منها: ”المكشوف“، و”العرفان“ اللبنانيتان، و”الحديث“ الحلبية. كانت مصر هامشاً رحباً لوداد سكاكيني لتأكيد حضورها على المستويين الأدبي والفكري، ولئن كان لزواجها من زكي المحاسني دور مهم في تعزيز ذلك الحضور وتأكيده، فلقد كان لاستقرارها في مصر دور أكثر أهمية في توطيد صلتها مع الحياة الأدبية العربية آنذاك، التي عدّها وديع فلسطين ”أزهى عصور النهضة الثقافية في بلاد العرب“، بوصفها مرحلة لقاء ”بأكبر القيم الفكرية في أجواء قلّ نظيرها وعياً وتطوراً وانفتاحاً على الشرق والغرب, ومسايرة لتيارات العلم والمعرفة والحضارة في أمصار الدنيا“، حسب فلسطين نفسه الذي وصف تلك المرحلة من حياة سكاكيني وزوجها بقوله: ”ما أحسب عربياً من غير مصر مقيماً أو عابراً أو متردداً, وفّق على دقائق الحياة الأدبية والاجتماعية في مصر كما وفق عليها هذان الزوجان“. أنجزت وداد سكاكيني ما يزيد على واحد وعشرين مؤلفاً، تتوزع بين خمسة حقول: القصة القصيرة، والرواية، والنقد الأدبي، والدراسة الأدبية، والتأريخ. ففي الحقل الأول صدر لها ستّ مجموعات: ”الخطرات“(1932)، و”مرايا الناس“(1945)، و”بين النيل والنخيل“(1947)، و”الستار المرفوع“(1955)، و”نفوس تتكلّم“(1962)، و”أقوى من السنين“(1978). وصدر لها في مجال الرواية ثلاثة أعمال: ”أروى بنت الخطوب“(1946) ، و”الحبّ المحرّم“(1947). أمّا في مجال النقد الأدبيّ والدراسة الأدبية، فقد صدرت لها: ”سواد في بياض“(1959)، و”نساء شهيرات من الشرق والغرب“(1960)، و”نقاط على الحروف“(1960)، و”ميّ زيادة في حياتها وآثارها“(1970)، و”شوك في الحصيد“(1981)، و”سطور تتجاوب“(1978). وممّا يترجّح بين الدراسة والتأريخ صدر لها: ”أمهات المؤمنين وأخوات الشهداء“(1945)، و”بنات الرسول“، و”إنصاف المرأة“(1947)، و”العاشقة المتصوفة“(1955)، و”قاسم أمين“(1970)، و”عمر فاخوري“(1970)، و”سابقات العصر وعياً وسعياً وفنّاً“(1986). بدأت سكاكيني، سنة 1935، قاصة، واستطاعت في وقت قصير أن تسطّر اسمها في سجل كتّاب القصّة العرب، إذ حازت، وهي لم تتجاوز النصف الأول من العقد الثاني من عمرها، جائزة مجلة: ”المكشوف“، التي كان شارك فيها تسعة وخمسون قاصاً، وأسهم في تحكيمها أعلام الأدب والنقد آنذاك، أمثال: عمر فاخوري، وخليل تقي الدين، وتوفيق يوسف عواد، ويوسف غصوب، وبطرس البستاني، وفؤاد أفرام البستاني، وفؤاد حبيش. ولعلّ أبرز ما ميز نتاجها القصصي، والروائي بآن، التزامها بقضايا المجتمع، وقبل أن يتعرّف الأدباء العرب إلى فكرة الالتزام، أي ”بوحي من ذاتها وإحساس صادق بحاجات المجتمع العربي“ حسب وصف محمد مندور لها. وقد مثّلت قضايا المرأة العربية ومشكلاتها مكوّناً مركزياً في معظم موضوعات ذلك النتاج وأسئلته، بوصفها قضايا المجتمع ومشكلاته لا قضايا المرأة وحدها، ولاسيما الحرية، والكرامة، والحقوق، والواجبات، التي تحرّر الوعي من العادات والقيم الاجتماعية المعوّقة للتطور والتقدم، والتي تسهم في بناء مجتمع متحضّر جدير بانتمائه إلى العصر. وإذا كان من المهمّ الإشارة إلى أنّ مجموعاتها القصصية الستّ هي أقلّ من خمس في الواقع، لأنّ بعض النصوص التي كوّنت عدداً من المجموعات كانت القاصة أعادت نشره في مجموعات تالية، فإنه من المهم أيضاً الإشارة إلى أنّه يمكن عدّ تلك المجموعات مجموعة واحدة، أو نصاً قصصياً واحداً، بسبب حفاوة القاصة بموضوع واحد، هو العادات والتقاليد الاجتماعية، الذي تناسل عبر تلك النصوص على شكل مؤرقات متعددة حكائياً، وموحّدة دلالياً، أو على مستوى مقاصد القصّ ومغازيه. ويمكن تبيّن ذلك في نصوص مجموعتيها الثانية والثالثة: ”مرايا الناس“، و”بين النيل والنخيل“، اللتين تقدّمان غير مثال لإلحاح القاصة على كتابة مهمومة بشاغل لا يتجاوز مركز الدائرة فيه، أي كتابة تحتفل بتصوير طقوس الخطبة والزواج والولادة والموت، وسوى ذلك ممّا يدور في فلك المناسبات الاجتماعية، وعلى نحو سياحيّ دفع بالدكتور نعيم اليافي، في معرض دراسته للمجموعتين، إلى التساؤل عن ”قيمة القصص التي تقتصر على تسجيل العادات والشعائر والتقاليد“، وإلى وصفه لتجربة القاصة في المجوعتين نفسيهما بقوله: وصورها تمتلئ بالدقائق والجزئيات، بل تكاد تطفح من دون ضرورة باللحظات الميتة من الواقع المباشر، ومن ثمّ إلى وصف شخصياتها بأنها شخصيات هيكلية، وغير ممتلئة إنسانياً. ومهما يكن من أمر ما انتهى اليافي إليه في هذا المجال، فإنّه لا يمكن تجاهل الدور الريادي لوداد سكاكيني في التجربة القصصية السورية، كما لا يمكن تجاهل دورها في التأسيس للحضور النسوي في تلك التجربة التي كانت، حتى بداية عقد الخمسينيات، وقفاً على الرجال، أي حتى ظهور نتاج كلّ من: منوّر فوّال، وسلمى الحفّار الكزبري، وإلفة الإدلبي، ومن ثم: خديجة الجرّاج النشواتي، وكوليت خوري، وثريّا الحافظ، وغادة السمّان في بداية الستينيات. ولا تكتسب وداد سكاكيني أهميتها ومكانتها من ذلك الدور الريادي للصوت النسوي في تلك التجربة فحسب، بل، أيضاً، من كونها إحدى أبرز قاصات عصرها، على المستوى العربي، في إخلاصها لقضايا المرأة ومشكلاتها، وفي محاولات استنهاضها، عبر الكتابة القصصية وسواها من فنون القول الأخرى التي مارستها سكاكيني نفسها، من حال العطالة التي ظلّت المرأة العربية ترزح تحت نيرها الغاشم لعقود طويلة من الزمن، والتي أمعنت، بآن، في توثين الذكر، وتهميش الأنثى، تحت دعاوى لا رصيد لها في الأصول التي كانت القوى الكابحة لتحرر المرأة تنطلق منها، أو تصدر عنها. وقد عزّزت سكاكيني ذلك في نتاجها الروائي أيضاً، الذي يمكن عدّه تنويعاً على نتاجها القصصي على مستوى الموضوعات خاصة، إذ ظلّت مشكلات المرأة العربية وقضاياها الهاجس المركزي لمجمل أسئلة السرد في نصوصها الروائية، كما في روايتها: ”الحبّ المحرّم“ التي قدّمت فيها نموذجاً للمرأة المثقفة المغلولة إلى أصفاد الأعراف والقيم الاجتماعية الرثّة. فعلى الرغم من بلوغ ”نديدة“، بطلة الرواية، مستوى معرفياً يحصّنها ضدّ تلك الأعراف والقيم، فإنها تواجه إخفاق علاقتها ب”سهيل“ بالتردّد على المشعوذين لتستجديهم كتابة الرقى والتمائم والتعاويذ، معللة ذلك بقولها: ”لئن كنت فتاة مثقفة ومعلّمة، فإنّ عالم الروح يستهويني ويناديني“. كانت نديدة قد تعلّقت بسهيل إلى حدّ لم تعد تجد معنى للحياة من دونه، وحين عارضت أمّ سهيل زواج ابنها منها، بدعوى أنهما أخوان بالرضاع، تنكّرت لكلّ ما ثقفته في حياتها من معارف وعلوم، وحقدت عليها، لأنها، في تقديرها، هي التي أقصتها خارج فردوس الجنس الذي تنتمي إليه: ”أحسّت أنها انحرفت عن بنات جنسها، ولم تكن كأمها أو مثل صواحبها وأترابها اللائي لم تفسد طباعهن المعرفة، ولا شغل حياتهن الحبّ، فكرهت الكتب وأرادت أن تنتقم من الحبّ“. وشأن سواها من الكثير من الروائيات العربيات اكتفت سكاكيني برصد الواقع حولها، أو بنسخه وتصويره على نحو مباشر، لا يتجاوز سطوحه إلى عوامل الكبح المبدّدة لقوى المرأة فيه، وشأن الكثيرات أيضاً واجهت الوعي البطريركي بوعي نسوي مضادّ، يبدو بوصفه قصاصاً من جنس الرجال عامة، لا حفراً في مرجعيات ذلك الوعي على غير مستوى. وليس أدلّ على ذلك ممّا صدّرتُ به هذه الدراسة من قول لسكاكيني نفسها حول دوافع كتابتها لروايتها: ”أروى بنت الخطوب“ التي ألحّت فيها على تصوير بطلتها أروى بوصفها ضحية الرجل دائماً، وبأنّ حياتها متوالية من اعتداءاته المستمرة عليها. لقد كانت أروى، بتعبير الشاعر العربي القديم، حَصَاناً، رزاناً، لا تُشكّ بريبة. امرأة جميلة، وكريمة الخلق، ومخلصة لبيتها وزوجها ”فهي ما مدّت عينيها إلى هفوة أو دنيئة، ولا نصبت شركاً للعقول، ولم يكن لها يد في لهفة الأنظار عليها وحسرة النفوس، بل كانت ثمرة طيبة، على شجرة لا تنال كلّ الأفواه تشتهيها وهي في حصانة وعصمة دونها اقتحام الموت وركوب الخطوب“. وعندما سافر زوجها، في تجارة له، إلى العراق، وائتمن أخاه عليها، فلم يصن الأخير الأمانة، وحاول مراودتها عن نفسها، امتنعت عليه، فحقد الأخ عليها، واتهمها بخيانتها لأخيه. وإمعاناً من الروائية في هجاء الرجل، كيفما اتفق لها ذلك وأمكنها ذلك أيضاً، لم تدع فرصة في الرواية في إقناع القارئ بأنّ الرجال جميعاً شهوانيون، ولا يحفظون الودّ، وأنأى ما يكونون عن قيم الشهامة، والوفاء. ومن أمثلة ذلك الأعرابي الذي وجد أروى في بادية تدمر، وعطف عليها في البداية، لكنه سرعان ما حاول الاعتداء عليها، وخادمه الذي يحاول ما كان سيده قد حاوله، وحين تمتنع عليه، يتهمها بسرقة مال سيده، وكذا الشاب الذي أنقذته من الأصفاد التي كان يرسف بها، والذي ما إن علم بأنّ مخلّصه ليس فارساً بل امرأة ساحرة الجمال، حتى نسي صنيعها معه، وحاول ما حاوله سابقاه، وعندما لم يحقّق ما كان يطمح إليه احتال لبيعها إلى قافلة مسافرة إلى مصر. وكما انتهى اليافي إلى وصف نتاج سكاكيني القصصي بافتعال الأحداث، انتهت إيمان القاضي، في معرض دراستها لتلك الرواية، إلى القول إنّ سكاكيني لا تقنع قارئها في سيرورة الأحداث والشخصيات ”فالأحداث مفتعلة مصطنعة، بعيدة عن المنطق، والشخصيات مقحمة مركّبة لتؤدي غرضاً واحداً: إدانة الرجل وإظهار لؤمه وغدره وخيانته وتهالكه على المرأة وتعذيبه لها، فغرائزه هي التي تتحكّم به، ومن أجلها لا يتورّع عن هدم كلّ القيم والقضاء على كلّ المثل، وارتكاب أبغض المعاصي، وانتهاك أقدس المحرّمات“. ولعلّ ذلك كلّه، وسواه ممّا اتسم به نتاج سكاكيني القصصي والروائي، هو ما دفع الأغلب الأعمّ من المشتغلين بالنقد في سورية إلى النأي عن ذلك النتاج، والاكتفاء بتقديم إشارات عابرة إليه. وبسبب ذلك لم تكن علاقتها بالأوساط الأدبية السورية على النحو الذي اتسمت به علاقتها بالأدباء العرب، غير السوريين، حينما كانت في مصر. وممّا يمكن التمثيل له في هذا المجال، وفيما يؤكّد مواجهتها لما لحق بنتاجها من أحكام نقدية قاسية، بمتابعتها الكتابة والنشر، وبإصرارها على تحدّي إرادات الوعي البطريركي الذي لم يسلم من أذاه بعض المبدعين والنقّاد والمفكّرين، ذلك السجال الحارّ الذي خاضته مع د. عبد الكريم الأشتر، في غير عدد من أعداد مجلة ”المعرفة“ السورية منتصف الستينيات، بعد نشر د. الأشتر لمقال بعنوان: ”وثائق لم تكتب في أدب المهجر“، فتصدّت، إثره، لتصويب ما بدا لها أنه معلومات وآراء غير صحيحة حول ذلك الأدب، وقارعت الحجة بالحجة، والدليل بالدليل، بندّية لافتة للنظر، وفيض من المعرفة جدير بالتقدير. لقد كان لتعدّد اشتغالات سكاكيني في غير جنس أدبيّ، وفي غير حقل كتابيّ، ولمواقفها الناجزة من العالم حولها، دور مركزيّ، في تقديرنا، في عدم إتقانها لنصّها على المستوى الفنّي، شأن معظم كتّاب العقود الخمسة الأولى من القرن العشرين، الذين دأبوا على استثمار مختلف أشكال القول للجهر بآرائهم وأفكارهم في قضايا الوجود والحياة، وفي آليات تقدّم مجتمعاتهم وتطوّرها، وإلى حد تجلّت أعمالهم الأدبية معه بوصفها معرضاً للأفكار أكثر من كونها أعمالاً أدبية بالمعنى الدقيق للتعبير من جهة، وبوصفها وسائل للجهر بتلك الأفكار أكثر من كونها أسئلة من جهة ثانية. ولعلّ ذلك ما يعلّل امتلاء نصّ سكاكيني السردي، قصاً ورواية، شأن أولئك أيضاً، بحوارات مطوّلة تفصح عن رسالة النصّ أكثر ممّا تبدو منبثقة من داخل النصّ نفسه، أو من حركة الأحداث والشخصيات فيه. لم تكن سكاكيني، فيما كتبت في حقل الإبداع القصصي والروائي، تُعنى بتقنيات السرد، بل كان جلّ ما يشغلها الرسالة التي يجب أن يؤديها نصها السردي، ولذلك ظلّ إبداعها أسير تقاليد وقيم فنية كلاسيكية، تتقدّم فيها مقاصد السرد، وغاياته، وأهدافه، على وسائل صوغها الفني لذلك كله. ولذلك أيضاً لا يمكن اكتشاف أيّ تطوّر في تجربتها في هذا المجال، بل ما يمكن عدّه عطالة فنّية تستجيب للوظيفة التي يجب أن ينهض النص بأدائها، لا للبناء الذي يتجلّى ذلك النص معه ومن خلاله بوصفه إبداعاً قبل أن يكون فكراً. ولا يمكن مغادرة الحديث عن سكاكيني أديبة من غير الإشارة إلى إسهاماتها في حقل النقد الأدبيّ الذي لم تدخر جهداً في الإدلاء بدلوها فيه، ولعلّ أبرز ما يمكن الانتهاء إليه من أطروحات لها في هذا المجال، وممّا تضمّنه كتابها: ”نقاط على الحروف“، وممّا يحيل على سواها من أعلام النقد لا على نفسها، قولها إنّ النقد الأدبيّ علمٌ يرتكز على أسس، وليس هوى ومزاجية، وأنه هادف وموجّه، وعليه تسديد الخطا والدعوة إلى الإتقان وأخذ العدة المرتكزة على ثقافة واسعة ومراس. وسواء اتفق المرء مع نتائجها النقدية، أو لم يتفق، فإنه من غير الصواب تجاهل الدور الذي نهضت به في محاولات التنظير لقيم وتقاليد في النقد الأدبي العربيّ الحديث، ومن أمثلة ذلك تأكيدها على أنّ النقد الأدبيّ عامة، لا العربيّ وحده، يتطلّب حوامل مركزية ثلاثة: معايير واضحة ودقيقة, وثقافة عميقة شاملة, وأهداف إنسانية رفيعة. ودعوتها، في معرض سعيها إلى التأصيل لكتابة نقدية بريئة من الأهواء والأغراض الشخصية، إلى التخفّف من المناهج والنظريات الوافدة، وإلى إنجاز نقد منبثق من الإبداع العربيّ، لا مستورد من خارجه. تناولت وداد سكاكيني في نقدها الأدبيّ مختلف الأجناس الأدبية الحديثة، ولاسيما القصة القصيرة والشعر، ومن أبرز آرائها فيما يخص الأولى قولها إنّ القصة في الأدب العربي المعاصر لا تزال مضطربة ولم تكتمل عناصرها الفنية بعد, وإنّ ذلك لا ينفي وجود قصص ناضجة مستوفية للشروط، وليس أدلّ على ذلك، في تقديرها، من أنّ ثمّة عدداً من تلك القصص تُرجم إلى غير لغة. وأمّا في حقل مقارباتها لتجارب بعض الشعراء العرب المعاصرين لها، فإنّ من أهمّ ما يخلص المتتبّع لتلك المقاربات إليه ترجّحها بين حدّين لا ثالث لهما: التبخيس، أو التمجيد، ومن دون قرائن علمية دالّة على ما كانت تعتقده، أو تنتهي إليه. ولكي لا يظلّ ذلك التوصيف لنقد سكاكيني معلّقاً في الفراغ، يمكن الإشارة إلى نقدها الفادح بنتاج شفيق جبري، وإلى إعجابها، الفادح أيضاً، بنتاج عدنان مردم بك الذي رأت في ديوانه: ”نجوى“ شعراً جزلاً، وزاخراً بالعواطف الوطنية والصور الفنّية، التصاوير بتعبيرها، وكذا بنتاج إيليا أبي ماضي الذي وصفته ببلبل الروض الذي يترك في القلوب صدى تغريده الجميل, وبأنه فلسف الحياة بالأمل والتفاؤل، ونظر إلى الأمور من وجهها الضاحك, وبأنه نقل خياله المجنح إلى آفاق مفعمة بمفاتن الطبيعة وسحر الحضارة. وبعد، ومهما يكن من أمر القيمة الفنية لإبداع سكاكيني، والقيمة العلمية لنقدها، فقد شغلت، طوال ستة عقود من حياتها الأدبية، القرّاء والمبدعين والنقّاد والمفكّرين الذين وجدوا في نتاجها جميعاً ما يليق به من أسئلة وأسئلة مضادة. ومهما يكن أيضاً من أمر اتفاق أولئك، أي: القرّاء والمبدعين والنقّاد والمفكّرين، حول دورها ومكانتها وأهميتها في الحياة الثقافية العربية خلال ما يزيد على ستة عقود، أو اختلافهم، فإنّه من الإنصاف تثبيت ما وصفه وديع فلسطين بها، في كتابه: ”وديع فلسطين يتحدث عن أعلام عصره“، أي قوله إنها في ”صدارة الصدارة من المشتغلات بالأدب في عصرنا الحديث“، وبأنها كانت عربية العقيدة والاتجاه، وإنسانية النزعة، والحفيظة في جميع كتاباتها على مكارم الأخلاق ومفاخر المبادئ ومناقب الضاد وقيم الدين. رحم الله وداد سكاكيني التي رحلت عن عالمنا سنة 1991، بعد حياة تكاد تكون رغدة على المستوى الاجتماعي، مضنية على المستوى الأدبي، وبعد أن أنجبت ثلاثة أولاد: زكوان، وزكاء، وسماء، وقبل ذلك كلّه بعد أن قضت ما يزيد على عشر سنوات أسيرة الوحدة، والتجاهل، ومترفّعة عن اللهاث وراء وسائل الإعلام، أو المؤسسات الثقافية الرسمية التي لم تكلّف نفسها عناء المشاركة في نعيها، أو في رحيلها إلى مثواها الأخير. لقد أقضّت سكاكيني مضاجع الجهل والتخلّف والتهميش، التي كانت تهدهد واقع المرأة العربية، طوال نصف قرن من الزمن، ولم تأبه لمحاولات نفيها خارج فردوس الإبداع، بل تحدّت مجمل ما كان يعترض مسيرتها من عقبات، وتابعت الكتابة والنشر إلى أن وجدت نفسها، من دون إرادة منها، رهينة منزلها لنحو عقد من الزمن. وبعد، فلعلّه من المهمّ، ومن الدالّ بآن، الإشارة أخيراً إلى أنّ سكاكيني غالباً ما كانت تتجنّب الإشارة إلى انتمائها إلى قطر عربيّ محدّد، وإلى أنه كثيراً ما كان يصعب عليها أن تقول للآخرين ما إذا كانت لبنانية، أو سورية، أو مصرية، إذ لم يكن ذلك يعنيها قطّ. وبعد أيضاً، فلعلّ المقبوسات الثلاثة التالية من بعض مقالاتها، وخطبها، تضيء جوانب ممّا سبقت الإشارة إليه. - ”طريقنا إلى المجد النسوي المنشود أن نكون خير الأمهات والزوجات, وأخلص المديرات والمربيات للبيوت والأبناء وأوفى المجاهدات للعروبة والوطن, وعلى أن لا نهجم على زهد النهضة هجوم الجياع على القصاع. فما كل امرأة ينبغي أن تكون زعيمة أو معلمة، ولا كل سيدة يجب أن تصير طبيبة أو موظفة. فكل من النساء لما خلقت له من أمومة أو زعامة, من تدبير للمنزل أو تمرّس بالفنون, أو القضايا الاجتماعية والإنسانية“. - ”مهما شاقنا الجديد، وأخذنا بطرافته وروعته، فإننا لا نستطيع أن نخلص من القديم، إذ إنّ في مطاويه الزاد والذكرى، وفيه الذخيرة والأحداث. والماضي حقيبة كل إنسان. إنه القطار المشحون الذي نجرّه وراءنا كما تجرّ هادية القطار قافلة الحديد وراءها، كذلك نحن الفانين لا نعيش من غير ماضينا فهو ملتصق بلحمنا ودمنا، ماثل في عاداتنا وتقاليدنا، في آثارنا الفكرية والفنية“. - ”والمرأة بحسب تركيبها العضوي ونزوعها إلى السماحة والرحمة وإيثار السلامة والعافية، كانت أقرب للتقوى من الرجل الذي ازدحمت على بنيته الشديدة وتبعاته الثقال وتجاربه المرهقة عوامل عديدة كان من تأثيرها اضطراره إلى المادية والأنانية التي قد تتجافى عنها التقوى أحياناً، ومتى شعّ في قلب المرأة ذلك الجوهر الأبدي فقد سارت على هداه وكان دليلها في تحقيق ذاتها وتهذيب شخصيتها وذوقها وفاقاً لما التمسه لها علماء النفس والتربية فيما يلائم طبعها ورسالتها في رعاية الأسرة والأمومة واستغلال الموهبة فيما يرفع شأنها ويعزز بيتها وأنوثتها ويدل على خصائصها وتقدمها. فتقوى المرأة هو الملجأ الروحي لضمان سعادتها في بيتها والمجتمع الذي تعيش فيه، ومتى جفت ينابيعه في نفس المرأة هبت من أغوارها لفحات الجحيم. ومن نكد الدنيا على الإنسانية أن تصطنع التقوى نساء فيهن سم الأفاعي ونيوبها، فإذا سدرت بالفكر من أجل هذه الظاهرة الخبيثة رأيت خطرها الاجتماعي يستتر كالبارود حتى إذا مسته النار نسف البناء وما فيه وأضر ما يتسلل إلى عالم المرأة هذه الآفات المقنعة بشتى الأشكال والألوان“. _____________________________________ مراجع البحث: 1- مؤلفات وداد سكاكيني. 2- د. عمر الدقاق. ”تاريخ الأدب الحديث في سورية“. جامعة حلب 1976. 3- ببليوغرافيا أعضاء اتحاد الكتّاب العرب. منشورات اتحاد الكتّاب العرب، دمشق 1997. 4- وديع فلسطين. ”وديع فلسطين يتحدّث عن أعلام عصره“. دار القلم، دمشق 2003. 5- د. نعيم اليافي. ”التطوّر الفنّي لشكل القصة القصيرة في الأدب الشامي الحديث“. اتحاد الكتّاب العرب، دمشق 1982. 6- إيمان القاضي. ”الرواية النسوية في بلاد الشام: السمات النفسية والفنية“. دار الأهالي، دمشق 1992. 7- د. بثينة شعبان. ”مئة عام من الرواية النسائية العربية“. دار الآداب، بيروت 1999. 8- محمد حبيب الرياحي. ”الرواية في سورية منذ الاستقلال حتى منتصف السبعينات“. رسالة ماجستير مخطوطة، جامعة دمشق 2002.