غالبا ما يملأني شعور بالسعادة عندما أجدني أمام مؤسسة جامعية، والطلبة، والأساتذة يتحركون في فضاءها ذهابا وإيابا، إنها لحظة اعتزاز ونخوة، لحظة أدرك فيها أن أوجه الحياة تبدلت، وأن المجتمع قد طرأت عليه تغيرات في العمق جعلت منه أنموذجا حقيقيا للمجتمعات الحديثة التي يكون فيها العلم والثقافة والمعرفة والتعليم هو السمة البارزة، حتى أن المرء ليجزم أن كل أفراد المجتمع مثقفون واعون مبرزون في اختصاصاته المعرفية. الجامعة، يا للروعة! مؤسسة شامخة عتيدة لافتة للإنتباه، تستوفقك مهما كانت مشاغلك، مهما كان ضغط الوقت عليك، لتلقي نظرة فاحصة، لتتأمل بما توحي به من عظمة وهيبة ووقار، ثم يسرح بك الخيال فتتبع آثار أولئك الذين أسسوا النواة، والذين تعاطوا مهنة التدريس فتخرجت على أيديهم أفواج متعلمة، متعددة المواهب والاختصاصات، نحمل في ملامحها إصرار المؤمنين بالعمل والاجتهاد من أجل عزة هذا الوطن الذي أعطى دون منّ ووهب دون تردّد، فاتحا أحضانه لكل الفئات والشرائح... تتبع آثارهم فلا تملك إلا أن تحمل لهم التقدير والإعجاب، وتعترف لهم بالفضل. الجامعة، يا للروعة! من خلال بلور نوافذها الذي تنعكس عليه أشعة الشمس، وأبوابها التي تفتح على قاعات الدرس وأروقتها وساحاتها، تتبدى لك سلسلة الأقطاب الجامعية هنا وهناك عبر المدن الرئيسية، وإعداد الكليات، والمعاهد العليا، ومراكز البحوث والدراسات، حيثما تقف أحسست برهبة وخشوع أمام عظمة هذه المؤسسات التي تؤسس لعهد التنوير والنهضة. إنها تونس الجميلة تتجمل أكثر بمعالمها، وتزهوا بانجازاتها، هي تونس التي ما فتئت تساهم في رصيد الحضارة الإنسانية بإصلاحات مصلحيها وعلم علمائها، وإنتاج مثقفيها وإبداعات فنانيها، هي تونس الجميلة التي حرصت على الانفتاح على الثقافات، والاستفادة منها دون مركبات أو عقد، هي تونس التي راهنت في مختلف أطوار مسيرتها على الفكر والاجتهاد العلمي والإبداع الأدبي والفني، فلم تقف في وجه التعبير الحر، ولم تضع العراقيل أمام الرأي الآخر، ولم تتعسف على أطروحات العلماء، ولم تحرم البحث في أي مجال، لذلك كانت عملية التأسيس لمجتمع اليوم والغد مركزة وعقلانية آخذة في الاعتبار مكاسب الماضي ومتطلبات الحاضر والمستقبل. هكذا كان البناء صلبا وسويا ومتناسقا. سوف ننتقل دائما بحكم الطبيعة، وسوف نتوقف بين الحين والآخر في أمكنة ارتفعت فيها أعمدة مؤسسات جامعية ومعاهد عليا، وتركزت فيها دعائم المعرفة تلك التي تبنى ولا تهدم، تفتح الآفاق ولا تسدها، تعلي من شأن الإنسان ومنزلته ولا تحط منه ولا منها... سوف نتنقل ونتوقف لنشاهد والعزة تملأ حنايانا، ولنحلم بمستقبل أكثر إشراقا ما دام الحلم حقا من حقوقنا، ولتشتد إرادتنا ويقوى عزمنا ويكبر إيماننا بالطرق السالكة التي اخترناها، ويزداد تعلقنا ببلدنا، بأراضينا بممتلكاتنا، بهويتنا وثقافتنا واختياراتنا. ولنحب أكثر تونس ونقبل ترابها.