بقلم: شكري بن عيسى (*) بعد يوم كامل على العملية الدموية في بولعابة، التي راح ضحيتها اربعة اعوان حرس في دورية ليلية تبعها حرق سياراتهم بما فيها الجثث بطريقة وحشية والاستيلاء على الاسلحة والعتاد والملابس وبطاقات الهوية والعمل، يحق ان نقيّم الامر ونستخلص الدروس لاضاءة المستقبل بعيدا عن التشنج والغوغائية والمزايدات التي طغت على اغلب وسائل الاعلام من محللي القنوات الاعلامية. الكارثة التي رجّت البلاد وان شابهت سابقاتها في اطرافها وضحاياها وطريقة التعامل الاعلامي والحزبي والحكومي والنقابي والشعبي فان سياقها كان مختلفا، اذ جاءت في مناخ سياسي ووطني واقليمي محتد، طغت عليه الاحتجاجات والاضرابات الاجتماعية والنقابية والجهوية خاصة في بن قردان والذهيبة والتعليم الثانوي، وتأخر وارتباك في تسلم الحكومة السلطة وانطلاقها والقصف الجوي العسكري المصري لليبيا على خلفية خبر تصفية "داعش" ل 21 قبطيا مصريا. لا نعلم يالضبط ارتباط هذا السياق بكل عناصره بتنفيذ العملية، ولكن الثابت ان التوقيت كان مختارا بعناية لاحداث الاثر "الصادم" وتحقيق الضجة الاعلامية والصدمة الشعبية، ولا نظن ان تزامن العملية مع الاضطرابات الحاصلة بالجنوب واضراب الاساتذة وانطلاق تركيز حكومة الصيد لم يكن مخططا، كما ان ارتباط الامر بالايقافات العديدة للداخلية لعديد العناصر المرتبطة بها شبهة الارهاب كان واضحا، في حين تظل العلاقة مع ما حدث بليبيا محل تساؤلات معقدة. ولئن كان مؤكدا استغلال حالة الاحتداد الحاصلة في ليبيا وتوجه اغلب الاهتمام الامني والعسكري التونسي نحو الحدود الليبية ربما ما احدث ثغرات في مناطق "النار" في القصرين، فان ما لا يمكن الجزم به هو ما يخص ارتباط المجموعة المنفذة لعمليات القتل الوحشية ببولعابة المنسوبة لكتيبة "عقبة بن نافع" المرتبطة بتنظيم "القاعدة لبلاد المغرب العربي" بمجموعات "داعش" بليبيا باعتبار عدم وجود وحدة تنظيمية مؤكدة. يبقى هنا الاستفهام الاكبر حول امكانيات وجود علاقات مع ما حصل في ليبيا في خصوص ارتباط الجماعة المنفذة لقتل اعوان الحرس باجندات استخبراتية اقليمية او دولية لاحداث الاضطراب والفوضى في تونس من اجل الدفع بفرض التدخل العسكري المصري او العربي او الدولي وفتح جبهة واسعة في ليبيا بعد حصول رفض تونسي لكل تغيير خارج العملية السياسة وتوافق الجوار وتدخل الاممالمتحدة في تحقيق المصالحة الوطنية الليبية. في كل الحالات حصلت عملية القتل الوحشية والخسائر كانت فادحة في صفوف امنيينا، ووجب طرح الاستفهامات المستوجبة حول الثغرات المتواصلة في منطقة "النار" بالقصرين بعد الاخفاقات الظاهرة التي تكررت، خاصة وانه في كل مرة تظهر معطيات تؤكد وصول معلومات استخباراتية للداخلية كما في مرة سابقة للقوات العسكرية لم يقع اخذها في الاعتبار، ما يثير شكوكا جدية حول وجود تنظيم دقيق وتخطيط محكم واستعلامات فعالة في مواجهة الاخطار والتهديدات. من ابرز الاستفهامات هو ما ارتبط بجولان دورية واحدة باربعة امنيين فقط في منتصف الليل في منطقة تهديد عالي الدرجة، وما يرتبط بذلك من اشكاليات الكفاءة والجاهزية والمعدات، وايضا اشكاليات التنسيق القيادة والاتصال والانتشار والنجدة والاسناد، والبعض في كل مرة لا يتردد في الحديث عن ثغرات استعلاماتية قاتلة وحتى تسريبات من داخل الجهاز الامتي ذاته، الذي لا يخفى وجود اختراقات حزبية ودولية وحتى من التنظيمات الارهابية داخله. ردود الفعل الاعلامية والنقابية والسياسية لم ترتق للمستوى المطلوب بالدعوة للوحدة الوطنية والتضامن الداخلي وتقوية الحبهة الوطنية في مواجهات التهديدات الداخلية والخارجية الاقليمية، والبحث عن الحلول الجذرية للتوقي في المستقبل من حصول قتلى وتهديد للامن الداخلي، واجراء الاصلاحات الفورية والجذرية المستوجبة للغرض، والعديد اندفع لتصفية الحسابات او تحقيق مكاسب ضيقة والهروب كان دائما للامام، والبعض نادى حتى بخرق حقوق الانسان وبعض الاعلاميين تم الاعتداء عليهم من بعض اعوان الامن واتهامهم بالتحريض على الارهاب. وسائل الاعلام التي سقطت اغلبها في الاثارة والتهويل والغوغائية لتحقيق نسب المشاهدة، في الوقت الذي تعاملت فيه القناة الوطنية العمومية كعادتها بجمود جليدي مع سقوط قتلى الامن، ودفعت بالمواطن التونسي لتلقي الخبر من القنوات الاجنبية التي تنقل بعضها للحدث على الفور، وما يسجل بايجابية في الصدد هو استنكار نقابة الصحفيين للامر، وادانتها للاعتداء على الصحفيين الذي وصل الى حد اشهار السلاح في وجه احدهم من احد الامنيين، وتمسكها ودفاعها عن "الحرية وعدم الخضوع للضغط" طالبة الداخلية ب"تحمل مسؤوليتها في تأطير اعوانها" ل"ضمان حق المواطن في الاعلام". الحكومة في سابقة ايجابية كما تعهدت بفتح تحقيق في عملية بولعابة للوقوف على الثغرات وتحديد التقصير والانطلاق في معالجة فعالة، التزمت بفتح تحقيق في الاعتداءات الحاصلة في حق الاعلاميين متعهدة بضمان حرية التعبير، لكن ما تم تسجيله من تأخر في تسمية الحكومة بعد قرابة 100 يوم كاملة من الانتخابات التشريعية، وما رافقها من تجاذبات سياسة ومحاصصة حزبية، وتأخر اجتماع مجلس الامن القومي بعد تسلمها الحكم، وغياب خطة واضحة في المسألة الامنية هو ما ساعد ربما في حصول ما حصل، وهو ما يعمق الانشغال. بيان مجلس الوزراء طغت عليه اللهجة الانفعالية والشدة، في حين كان الاصل ان يبعث برسائل الطمأنة بتأمين المستوجبات الضروية للتوقي من تكرر عمليات القتل، ووضع الاصبع على افتقاد الجهاز الاستعلاماتي الفعال، والاخلالات التنظيمية، وافتقاد الحاضنة الشعبية الفعّالة لمقاومة الارهاب، خاصة في ظل ضعف شرعية الدولة الشعبية باتساع الفجوة التنموية وتنامي الفقر وتصاعد البطالة وضعف المشاركة السياسية. اليوم الاطراف التي يفترض (لها مصلحة) او ثبت استعمالها العنف الدموي ضد امنيينا هي متعددة ورهاناتها في الصدد عالية، منها المخابرات الدولية التي تعمل على اجهاض الثورة التونسية لاستمرار تحكم دولها في القرار والمقدرات الوطنية، الاطراف الاجرامية المتمعشة من التهريب والمخدرات والدخان والاسلحة التي لها مصلحة في ارباك الامن للافلات من المراقبة، وبعض عناصر المنظومة النوفمبرية التي تبحث عن الفوضى لتعطيل الانتقال الديمقراطي للافلات من المحاسبة، والمجموعات الدينية ذات القراءات المغالية للدين التي ترى فيما تفعله واجبا دينيا. والمعالجة اليوم وجب ان تكون شاملة عميقة ومتعددة الابعاد، لا تهمل علوية القانون وحقوق الانسان، التي يسبب اهمالها اعادة انتاج العنف، وتأخذ بالاعتبار ارساء حكم شرعي رشيد له قبول شعبي واسع يحقق مستوجبات تشريك الجميع في السلطة والثروة ويرسي التنمية العادلة ويقضي على الفساد والمحسوبية والتمييز والتهميش، والاهم هو ارساء على المدى المتوسط منظومة تعليمية وثقافية واعلامية تنير العقول وتضيء الافكار. وبدون رسم افق للامل تظل المقاربة الامنية قاصرة سواء على المدى المنظور او البعيد.