عبد الجليل الجوادي و أنت تستمع إلى التحاليل المستفيضة و النقاشات العميقة لكلمة الأستاذ راشد الغنوشي، تشعر بحجم "الحرفية" و "الحياد" التي يتميز بها إعلامنا الموقر. كلمة قالها رجل سياسي عبر فيها عن رأيه الشخصي في الدواعش حين و صفهم بالإسلام الغاضب و امتنع عن تكفيرهم، فقامت الدنيا و لم تقعد. مع أن الدستور التونسي يجرم التكفير و هذا أمر معلوم للجميع، فما الذي نجنيه من ثمرات التكفير و التفسيق غير الفرقة و الإنقسام؟؟؟؟؟ هذا الرجل، اكتوى طيلة عقود من الزمن بنعوت شتى كان يطلقها عليه خصومه من السياسيين داخل السلطة الحاكمة و خارجها من الأحزاب المعارضة شكلا و المنبطحة مضمونا. كانوا يصفونه "بالخوانجي" نسبة إلى الإخوان المسلمين كتنظيم عالمي. كما نعتوه بالإرهابي و السفاح و قتال الأرواح في اتهام صريح له بالتدبير لإغتيال رفيقهم شكري بلعيد و الحاج الإبراهمي. كما سمعنا من المتشددين من الإخوان في مصر و المتشددين الدينيين في تونس تهما تلصق لهذا الرجل. تفسيقا و تكفيرا و تخوينا...الكل يتهمه و الكل يهاجمه و يكيل له السباب و النعال من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار يريدون إقصائه من الحياة السياسية و منهم من طالب صراحة بإرجاعه إلى السجن أو المنفى.... و لكنه لم يظهر يوما غضبا أو تبرما من أحد و لا حتى من ألد خصومه و معارضيه. لم نسمع يوما من هذا الرجل موقفا واحدا هاجم فيه أو تهجم على أشخاص بذواتهم و إنما كان طوال الوقت يناقش فكرا و يؤسس لوحدة وطنية تجمع كل الأطياف دون إقصاء أو تهميش. أنا لست هنا لأدافع عن الأستاذ راشد الغنوشي و هو لا يحتاج أصلا من يدافع عنه و له كل المؤهلات للرد، و لكن أريد أن أكون بديلا عن الإعلام الرديئ قليل الحياد و الحرفية. نريد أن نؤسس معا لإعلام نزيه حر يقول كلمة الحق و يضع الأمور في نصابها بكل حيادية و حرفية بعيدا عن التجاذبات السياسية و الصراعات الحزبية و الإديولوجية. و إذا عدنا إلى قضية الدواعش و أردنا تأصيلها، سنفاجأ ربما بأن هذا الإعلام المتملق للسلطة هو الذي صنع الإرهاب في بلادنا و هو الذي مهد الأرضية لخروج الدواعش. الإعلام الذي كان بوقا يعبر عن رأي السلطة الحاكمة يسمع ما تسمع و يرى ما ترى و يقول ما تقول، هو الذي ساهم في قمع الشباب و منعهم من التعبير عن رأيهم و هو الذي زيف الحقائق في برنامج "المنظار" سيء الذكر لصاحبه المنصف الشلي أيام الجمر... هذا الإعلام هو الذي كان يرصد تحركات الزعيم الملهم فيعرض صوره و هو يسبح في بحر سقانص و يقدم له كلمة مبرمجة تحت تسمية "توجيهات الرئيس" و يرصد ميزانية ثقيلة لتغطية فعاليات الإحتفال بعيد ميلاده المجيد..... و هو نفس الإعلام الممتد بجذوره في الرداءة و الإنحطاط يصور لنا تونس الأمن و الأمان في عهد المخلوع و يصف خصومه بالكلاب الضالة و العصابة المارقة التي يجب على الشعب أن يتصدى لها و لثقافتها و فكرها الغريب عن المجتمع التونسي.... و هو ذاته الإعلام الذي استعمله المخلوع في ضرب خصومه و محاصرتهم عبر سياسة تجفيف المنابع بمنع الدروس الدينية عن القنوات الرسمية للدولة و استبدال الشيوخ الصادقين و الوعاض المهتدين بآخرين لا صلة لهم بالدين غير التزلف للحاكم. هؤلاء هم الذين خلقوا في ربوع هذا الوطن جيلا متصحرا دينيا. و جد ضالته في القنوات الفضائية ليستمع لشيوخ من الغلاة المتشددين. فجنح للتفسيق و التكفير و فهم الجهاد فهما خاطأ فكان فريسة سهلة الوقوع بين براثن العصابات الدولية التي تمول الإرهاب قصد زعزعة الأمن الدولي و من ثم تمرير سياساتها الخبيثة لمزيد التغلغل و التحكم في مصير الشعوب. و ها نحن اليوم نرى نفس الماكنة القديمة تهرول لتلتقط سقط الكلام و عثرات اللسان من السياسين في حزب حركة النهضة لتأول و تحلل و تزمر و تطبل على طارها القديم الجديد. و يحضرني في هذا المقام بيت للشاعر المتنبي يقول فيه أَنامُ مِلءَ جُفوني عَن شَوارِدِها ******وَيَسهَرُ الخَلقُ جَرّاها وَيَختَصِمُ لو أن أي سياسي آخر غير الذين ينتمون إلى حركة النهضة قال مثل هذا الكلام أو أشد منه لما تحرك لهؤلاء ساكن و لمرت المسألة مرور الكرام. و قد قالوا و يقولون أشد من هذا بكثير. ألم يهدد شاعرهم بأن يلقي بقلمه و يحمل سلاحه في حال فوز النهضة في الإنتخابات؟ فمن تجرأ و حاسبه حيا أو ميتا؟ ألم يهدد آخر بقطع أوصالهم و تشريدهم و إرجاعهم إلى السجون و المنافي؟ لا يتسع المجال لسرد آلاف التهم و التهديدات الصريحة فلم نر من إعلامنا عينا ترمش و لم نر من رجال النهضة غير الصبر و التصبر... حتى حين أعتدي على الأستاذ عبد الفتاح مورو بالضرب و جرح في وجهه من بعض الشباب المتشددين، صبر و تمالك نفسه و لم يشتك و كان بوسعه أن يفعل و هو أستاذ القانون و المحامي القدير.... و أكثر ما لفت انتباهي في تحليل إعلامنا الملهم، هو استنكارهم الشديد لموقف الأستاذ الغنوشي الرافض لتكفير الدواعش. و هنا يظهر التناقض صريحا في ثقافة هؤلاء. من جهة هم يحاربون و يعارضون النهضة لأنها حزب ديني. حين كانت تسميتها الإتجاه الإسلامي، قالوا هذه التسمية لا تصح في بلد إسلامي.. فإن كانوا هم إسلاميون فهل بقية الشعب كفرة؟؟؟ منطق سليم و لا شك. فما كان من أبناء الحركة إلا أن غيروا تسميتهم إلى حزب حركة النهضة. ثم أقروا في خطوة جريئة بأنهم حركة سيباسية مدنية و أنهم ليسوا أوصياء على الدين و أنهم ليسوا متكلمين باسم الدين في هذا البلد. و لكن رغم كل ذلك، لم يستطع إعلامنا أن يتخلص من موروثه القديم و ضل يتعامل مع تصريحت رجال النهضة من زاوية دينية فقط. الحقيقة أن الموضوع في ذاته لا يستحق الكثير من النقاش و يكفي تنزيله في إطار حرية التعبير المتناغم مع روح القانون، و لن ينهض بنا توصيف الناس و توزيع النعوت جزافا و تكفير الشباب الضال و المضلل. و بدلا من إهدار الوقت و الجهد و المال العام في تصيد العثرات و الهفوات، كان جديرا بنا أن نناقش مواضيع الساعة الحارقة و نحن مقدمون على مناقشة ميزانية الدولة لسنة 2017 ،فلربما أمكن للإعلام أن يسهم بجدية في إنارة الرأي العام و تسليط الضوء على الزوايا المظلمة في هذا القانون في ضل التوتر الحاصل بين السلطة و الأطراف الإجتماعية.