بقلم: شكري بن عيسى (*) هذه المرة لم تطلق الكلمات المشككة والمستهجنة صوب العدالة من الكافرين بالدولة والديمقراطية او الرافضين للجمهورية او الدستور، هذه المرة الهجمة كانت واسعة ومتعددة وحادة ايضا، وأساسا من قبل الاحزاب القانونية بما فيها الحاكمة والتي ترفع لواء مدنية الدولة، على خلفية حكم جنائي في قضية تعود وقائعها لسنة 2006. حكم قضائي صدر الجمعة بتاريخ 3 مارس الجاري عن الدائرة الجنائية الرابعة للمحكمة الابتدائية بتونس، في القضية التي تعرف ب"حفلات ماريا كاري"، يقضي بسجن المسؤولين عن الحفلين (عدد من اعضاء الحكومة السابقين اضافة لبن علي وصهره) الذين اقيما في سنة 2006 وتم الانحراف بعائداتم ولم تذهب لصندوق 26-26 بست (6) سنوات سجن نافذ تضاف اليها خمس أخرى بالنسبة لعماد الطرابلسي، لم تتأخر بعده البيانات والتصريحات المستنكرة بكل التعابير المباشرة والضمنية. أحد أبواق المخلوع الذي عاد منشطا بقناة "التاسعة" خرج على حسابه على شبكة التواصل الاجتماعي للتحذير، من أن المسألة "ليست مجرد أحكام قضائية مكسية بالنفاذ العاجل" وانما هناك "اعتمالات حقيقية للتخطيط لدى البعض وبسذاجة لدى آخرين لدفع تونس لسيناريو" لاستجلاب ما سماه "منقذ على خطى سيسي مصر"، والحقيقة فاننا لا ندري بالضبط هل الامر مجرد انطباع ام تلميح ام هو معرفة بمعطيات دقيقة... ارعاب أدبي وفكري واضح ولعب على الايحاءات التي تحمل اقوى التأثيرات، واستعمال للمخيال الشعبي الحساس واستثارة لغريزة الخوف، ولكن هذا ليس الا لوحة من عملية القصف المتسلسلة وتعزيزا (بالمنطق البيداغوجي) للعملية الشاملة، فأغلب الاحزاب المرتبطة عضويا بالتجمع في تبني منهجه او استيعاب رموزه "انتفضت" على الحكم القضائي، ابتداء من "مشروع" محسن مرزوق الى "نداء" حافظ وصولا الى "افاق" ياسين ابراهيم مرورا بالحر الدستوري والمبادرة، وحتى الغنوشي حسب احد المواقع (الشروق) فقد دخل على الخط بالاتصال باحد المدانين (كمال حاج ساسي)، ولم يكن منشط "التاسعة" في الحقيقة سوى تخريجة ادبية باخراج فني لاستكمال المشهد. الهجمة كانت قوية ومتناغمة ومتسلسلة، ومسودة الحكم القضائي لم تكتب بعد، ما يعني ان الحيثيات لا تزال مجهولة، وبالتالي فالعملية لم تدر بمنطق النقد والتحليل والتمحيص والتفكيك وانما بمنطق النفي والشيطنة، اي الرفض المباشر بمنطق "المصادرة على المطلوب"، بالانطلاق من مقدمة أن الحكم المنتظر يجب ان يبرّأ المتهمين، وبالتالي فان كل حكم مخالف لهذه "المصادرة" هو شكل من اشكال "الباطل"، والكل ركّز بالاساس على التداعيات "الخطيرة" من هكذا احكام قضائية والبعض وصل الى حد "كارثية" التداعيات، والمنطلق هو "تأثيم" القضاء في احكامه. واستراتيجيا القصف الحاد كانت بمكر ودهاء عالي، فانتظار صدور نص الحكم سيغرق المجموعة في نقاشات واراء قانونية قد لا يكون لها نفس الاثر، ولكن منطق "التأثيم" من منطلق "المخاطر" ومن منطلق "مصادرة" "براءة" المتهمين ستكون ذات فعالية حاسمة، خاصة اذا كانت مسترسلة واسعة النطاق ومضخّمة عبر ابواق الاعلام الموالي، ولذلك كان الانطلاق في الهجمة المتناسقة منذ صدور الحكم الجمعة وباقوى المضامين لاحداث الرجة المرجوّة. البعض ادخل القضية تحت لحاف "محاسبة الموظفين السامين" في الدولة الذين طبقوا الاوامر، والبعض الاخر دخل على خط تفعيل "العدالة الانتقالية"، والعديد استنهض معاني ومضامين واستحقاق "المصالحة"، والبعض تعلل بعدم تحمّل الوضع الامني الهش والوضع الاقتصادي المتدهور والانتقال السياسي الشاب هكذا احكام، ومجموعة اخرى دخلت على خط الدفاع عن استقلالية القضاء و"الخشية" من غرقه في "التشفي" و"الانتقام"، ولكنها في النهاية سواء المباشرة او الضمنية او الايحائية او التخويفية او التهديدية فكلها تصب في وضع القضاء تحت القصف، وبالتالي التدخل في شؤونه بشكل او باخر. ودون الاشارة الى ان العدالة الانتقالية والمصالحة لا تعني الافلات من المحاسبة (الفصل 15 من قانون العدالة الانتقالية)، فمضامين البيانات ومصطلحاتها الحادة ورسائلها الشرسة المتناغمة تعتبر، خاصة "دون الاطلاع على الحيثيات والمام بملابسات ووقائع الملفات ووثائقها واسانيدها" في "تدخلا صارخا في القضاء" و"اعتداء على الدستور"، حسب ما دونه القاضي وعضو هيئة مكافحة الفساد محمد العيادي على صفحته، والتدخل في الشأن القضائي هو في الحقيقة بقدر ضربه لاستقلال القضاء فهو انتهاك لمبدأ فصل السلط. والحقيقة ان من يدينون البعض ممن لا يؤمنون بالدستور والديمقراطية صاروا هم في طليعة من يدوسون النظام الجمهوري ويقوضون الديمقراطية التي تنبني على فصل السلط ويضربون المعيار القانوني الاعلى: الدستور في جوهره، ويخرقون بذلك قانون الاحزاب الذي يفرض الالتزام بالقانون ودستور البلاد، والحقيقة ان استباحة القضاء صارت اليوم صارخة في ظل سلطة تنفيذية مناهضة واحزاب اغلبها مرتبطة بمنظومة الفساد، ويبدو ان ضرب اخر قلعة من قلاع الجمهورية سيقوّض كل النظام السياسي ويسقط الخيمة على الجميع!! (*) قانوني وناشط حقوقي