الصين.. روبوت يخرج عن السيطرة و"يهاجم" مبرمجيه!    عاجل/ مجلس وزاري مضيّق باشراف رئيسة الحكومة يقر هذه الإجراءات..    وزير التربية في ابتدائية أولاد بركة بفوسانة...المدرسة آمنة وسيقع التدخل على مستوى السور    تنصيب الأعضاء بمباركة الوزارة...تعاونية الرياضيين مكسب كبير    الاحتفاظ بمنحرف من أجل المضايقة والتهديد بواسطة آلة حادة لإمرأة محصنة..    كشفه التّحقيق مع فنان شعبي شهير: فنانون و«رابورات» ومشاهير متورّطون في تجارة المخدرات    المهدية: اختتام مهرجان الوثائقي الجوّال في نسخته الرابعة: الفيلم المصري «راقودة» يفوز بالجائزة الأولى    في تعاون ثقافي قطري تونسي ... ماسح الأحذية» في المسابقة الرسمية للمهرجان الدولي للمونودراما    أخبار فلاحية.. أهم الاستعدادات لعيد الإضحى وتأمين أضاحي سليمة    عاجل: الجيش الباكستاني يعلن تعرض البلاد لهجوم هندي بعدة صواريخ    البرلمان يصادق على قرض من البنك الإفريقي للتنمية قيمته 270 مليون دينار    وزير الداخلية يلتقي المديرة العامة للمنظمة الدّوليّة للهجرة    كاس العالم للاندية 2025: مباراة فاصلة بين لوس انجلس ونادي امريكا لتعويض ليون المكسيكي    ترامب: الحوثيون في اليمن استسلموا للولايات المتحدة    عاجل/ الحملات الأمنية ضد مروّجي المخدرات: حصيلة جديدة للايقافات    ديوان الحبوب : طاقة التجميع تصل ل 7.6 مليون قنطار    زغوان: امتلاء سدود وبحيرات الجهة بنسبة تتجاوز 43 بالمائة    انطلاق عملية تعشيب ملعب بوجمعة الكميتي بباجة    افتتاح مقر جديد بتونس للشركة السويسرية "روش فارما" بتونس وليبيا    السودان يقطع علاقاته الدبلوماسية مع الإمارات    عاجل/ الحوثيون يتوعّدون بالرد على العدوان الاسرائيلي والامريكي    مجموعة شعرية جديدة للشاعرة التونسية وداد الحبيب    فتحي النوري : 120 دولارًا شهريًا... تحويلات التونسيين بالخارج أقل من المعدل العالمي بكثير!!    عاجل/ وزير اسرائيلي: "سكّان غزّة سيرحلون نحو دولة ثالثة"    نقابة الصيدليات الخاصة تدعو التونسيين إلى الإقبال على الأدوية الجنيسة    قبل أن تحج: تعرف على أخطر المحرمات التي قد تُفسد مناسك حجك بالكامل!    عصام الشوالي:'' ليلة أخرى من ليالي الأبطال.. إنتر وبرشلونة على جوزيبي مياتزا''    ثورة في عالم الموضة: أول حقيبة يد مصنوعة من ''جلد ديناصور''    المهدية: تقديرات بإنتاج حوالي 115 ألف قنطار من الحبوب خلال الموسم الحالي    تظاهرة ثقافية في باجة احتفالا بشهر التراث    اختتام الدورة العاشرة لمهرجان "سيكا جاز"    68 بالمائة من التونسيين يستمعون إلى الموسيقى بصوت مرتفع ويتجاوزون المستوى العادي للاستماع (دراسة)    دليلك الكامل لمناسك الحج خطوة بخطوة: من الإحرام إلى طواف الوداع    الإعلان الرسمي المرتقب عن موعد عيد الأضحى    قابس: وفاة شخصين وإصابة 8 آخرين في حادث مرور    منزل بوزلفة: القبض على قاصر وإحالته على التحقيق بتهمة إضرام النار في معهد ثانوي    وزارة الحج: خفّفوا الأمتعة وتفرّغوا للعبادة في المشاعر المقدسة    450 ألف دينار قيمة المحجوز: تفاصيل عملية احتكار الموز المورّد في نابل    هام/ تطوّرات الوضع الجوي خلال الأيام القادمة..    منزل بوزلفة: الاحتفاظ بتلميذ من أجل إضرام النار بمؤسسة تربوية    بعد نقصها وارتفاع أسعارها: بشرى سارة بخصوص مادة البطاطا..    انطلاق محاكمة المتهمين في قضية "التآمر على أمن الدولة 2"    مؤسسة "فداء" تدعو جرحى الثورة ممّن لم يتسنّ عرضهم على اللجنة الطبية إلى الاتصال بها    سيدي بوزيد: انطلاق أشغال المستشفى الجهوي بمعتمدية جلمة في موفى ماي الجاري    وزارة الرياضة تعلن عن مشروع إصلاحي في علاقة بخطة المديرين الفنيين الوطنيين للجامعات الرياضية    الدورة الثامنة لتظاهرة 'الايام الرومانية بالجم - تيتدروس' يومي 10 و11 ماي بمدينة الجم    العائلة التُونسيّة تحتاج إلى أكثر من "5 ملاين" شهريًا..!!    كل ما تريد معرفته عن حفلة ''Met Gala 2025''    المنتخب التونسي في ثلاث مواجهات ودية استعداداً لتصفيات مونديال 2026    نصف نهائي دوري الأبطال: موقعة إنتر وبرشلونة الليلة    عاجل | تشديد شروط التجنيس في فرنسا يُقلق التونسيين المقيمين بالخارج    خبراء يحذّرون و يدقون ناقوس الخطر: ''فلاتر التجميل'' أدوات قاتلة    قليبية: ايقاف المعتدي على النساء بشفرة حلاقة    بطولة روما للتنس :انس جابر تستهل مشوارها بملاقاة التشيكية كفيتوفا والرومانية بيغو    رئيس الجمهورية: يجب فتح باب الانتدابات بعد تخليص الإدارة ممّن تسلّلوا إليها واعتبروا المسؤولية امتيازات وغنيمة    صفاقس : عودة متميزة لمهرجان سيدي عباس للحرف والصناعات التقليدية في دورته31    ملف الأسبوع.. تَجَنُّبوا الأسماءِ المَكروهةِ معانِيها .. اتّقوا الله في ذرّياتكم    أولا وأخيرا: أم القضايا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ما وراء خطاب ماكرون بالبرلمان.. الفرنكفونية وأمن فرنسا مقابل ''المساعدات''
نشر في باب نات يوم 01 - 02 - 2018


بقلم: شكري بن عيسى (*)
لعلّ النواب الذين حضروا لخطاب الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون في مجلس نواب الشعب، وقاموا على بكرة أبيهم وقوفا للتصفيق لمدة فاقت الأربعين (40) ثانية، استبشارا بحزمة "المساعدات" السخيّة التي وعد بها الرئيس الشاب، وبهجة بعبارات المدح والمجاملة المنمّقة التي خصّ بها تونس وثورتها وديمقراطيتها، ربّما سيكتشفون ولو بعد فوات الأوان أن كل ما قدّمته فرنسا على لسان رئيسها ستكون ثماره لفائدتها أوّلا ورئيسيا، وأنّ الأمر كان في اطار استراتيجية هيمنة فرنكوفونية في "لوك" آخر، تديم التحكّم الفرنسي وتجدّد وتحيي ما تداعى منه، وتبقي بلدنا في حالة الاستجداء والتبعيّة المسترسلة.
خطاب منهجي مدروس ومتقن بشكل عالي، قدّم كل ما تحتاجه الطبقة السياسية وخاصة الحاكمة، على امتداد 53 دقيقة كاملة وبكامل الاريحية وبطلاقة كاملة، شرّح الفوارق السياسية والايديولوجية لجميع الحاضرين، وقدّم لكلّ منهم "الطّعم" الذي يمكن أن يوقعه، ويحقّق لهم حالة "امتلاء" قصوى، ليحصد في المحصّلة رضى استثنائي واجماع لافت، يرفع به من شعبيته وصدى بلاده ويحقّق به "ضربة" اشهارية خارقة، والأقصى هو التسويق السياسي والاخراج المشهدي لاستراتيجيته في انجاح مؤتمر الفرنكوفونية الذي سينعقد بتونس في 2020، والذي يمثّل الحدث الفارق في مستقبل فرنسا لاستعادة اشعاعها ونفوذها المتنوّع المتراجع السنوات الاخيرة.
خاطىء من يعتقد أنّ ماكرون متحلّل من الارث الاستعماري والسطوة الثقافية لبلده، بالنظر لخطابه البراغماتي الاخوي العادل الانساني في ظاهره خاصة خلال حملته الانتخابية، وبالنظر ايضا لسنّه وجيله البعيد بشكل كبير عن "الرصيد" الاستعلائي الاستغلالي لبلده، فالرّجل منذ دخوله ماكينة الدولة في المستوى الاسمى فهم المعنى الدقيق ل"الدولة العميقة"، والتي تعني أنّ مصالح فرنسا ومستقبلها بل وجودها مرتبط "عميق" الارتباط بهيمنتها الاقتصادية، التي تمرّ عبر الهيمنة الثقافية وعبر توطيد العلاقات والعقود المختلة لفائدتها في مستعمراتها السابقة خاصة الافريقية، في عالم لا مكان فيه سوى للقوى الكبرى والهيمنة، ولكن في الحاضر بأساليب "ناعمة" وفي اخراج جديد يقطع كثيرا مع المباشرتية الفجّة التي سادت لعقود.
فرنسا بعد كل الذي حقّقته وبعد الهيمنة الاقتصادية والعسكرية والسياسية لعقود، وبعد السطوة الفرنكوفونية الواسعة في عديد البلدان وفي الثقافة والعلم والتكنولوجيا لاجيال متعاقبة، اليوم تختنق في ظل استحكام السيطرة للقوى الكبرى وصعود قوى دولية جديدة مثل الصين والهند، وحتى توسّع قوى اقليمية اصبحت معنية بالتمدّد والغزو الجديد مثل قطر وتركيا والامارات والسعودية، كلها لم تعد طموحاتها تقتصر على الاقتصادي والتجاري، بل تمتد ايضا للعسكري والجيوسياسي بامتياز كما انّها لا تخلو من الثقافي المباشر او المرتبط بالنموذج السياسي، ومعركة التحكّم في الثروات بشكل او باخر على الدول في طريق النمو تتجدّد اليوم وتحتد بين القوى القديمة والوليدة.
وماكرون بدا بارعا جدّا في استيعاب المشهد وخصوصياته واستحقاقاته، وتونس شكّلت المحطّة الرئيسية لافريقيا التقليدية، لالتصاقها بليبيا وثرواتها المنصوبة عليها كل الاعين من ايطاليا الى امريكا الى روسيا وحتى الامارات، والمحطة الاساسة الى افريقيا ما بعد الصحراء وثرواتها التقليدية، واضافة فتونس لها فضلا عن خصوصية الموقع الجغرافي والارتباط التاريخي الوثيق بالفرنكوفونية، لها رمزية الثورة والانتقال الديمقراطي ومنظومة الحريات والحقوق الجديدة، وكان لا بد من تقديم عرض مغري ولا ترفض غوايته باخراج ماكر، مع التعتيم على المغزى البعيد، وهذا هو جوهر الفعل السياسي الذكيّ باقناع "الشريك" بنقاوة الاهداف ونبلها.
تونس اليوم في الفوهة بأزمة اقتصادية خانقة وانهيار اجتماعي وهشاشة امنية وتقهقر حقوقي، والحاجة للمساعدات الاقتصادية والمالية عظيمة جدا، وفرنسا لا يعني لها شيئا (بالرغم من صعوباتها الاقتصادية) بعض مئات مليارات اليوروات على امتداد ما يزيد عن خمس (5) سنوات، والقرار بتقديم "الدعم" تم اتخاذه في مقابل استحكام الهيمنة وضمان الامن والمصالح الاستراتيجية، بقي فقط طريقة واخراج الامر بشكل لا تظهر معه الغايات الحقيقية، فكان لا بد من استدعاء مصطلحات من نوع أنّ فرنسا لها "مسؤولية" وان "الفشل التونسي هو فشل لفرنسا"، والتسويق بالفعل كان مدروسا بعناية ومتميزا جدّا، ومن يتصفّح تسجيل الخطاب الرئاسي على صفحة ساكن الايليزيه لا يجد في تعاليق التونسيينالتي كانت بالالاف في اغلبيتها الساحقة سوى "Bravo" و"Vive la France".. الخ.
ماكرون استعمل كل وسائل التأثير والحماسة والهاب المشاعر لتمرير رسالته، أو بالاحرى لاخفاء الغايات البعيدة من "مساعدات" بلاده لتونس، حتى أنّ البعض خاله تونسيا في دمائه العميقة ومشاعره المفعمة، فمن يبحث عن الانتماء العميق تحدث له عن "قرطاج" وحضارتها ومن هو حقوقي تحدث له عن سبق تونس لفرنسا بسنتين في تحرير الرق، ومن هو مهووس بالمساواة المطلقة بين المرأة والرجل تحدّث له عن مبادرة السبسي للمساواة في الميراث واقرار حرية زواج التونسية من غير التونسي، والبورقيبيون تحدث لهم على الاستقلال واستثمار بورقيبة في التعليم، والعمال والاعراف والمحامين تحدث علهم عن "نوبل"، والاسلاميين اعطاهم "حلوى" تفرحهم متحدثا عن القيروان العاصمة الاسلامية، وعن تكذيب قول أنّ "المجتمعات التي يوجد بها اسلام الديمقراطية لا تتلاءم معها"، قبل أن يستدرك لارضاء الطرف المضاد بالحديث عن "تكذيب من يريدوا ان يقنعونا أنّ الاسلام هنا لحكم الدولة، وأنّ الفصل لم يكن ممكنا"، بعد أن تحدّث عن تكريس الدستور لمدنية الدلة، وبعد أن مجّد الثورة والانتقال الديمقراطي لمن يبحث عن القيم والمبادىء الكبرى السامية.
الرئيس الشاب عدّد "المساعدات" وفصّلها بين الاقتصادي والشبابي والامني والمؤسساتي، ولكنّه لم يسقط في تمرير اشعار التونسيين بالاستجداء ولم يسقط في المنّ والاذى، بل اعتبر أنّ الكثير "يجمع" البلدين والشعبين والحضارتين الذين بينهم عمل مشترك وحياة مشتركة، والاسلوب فيه الحقيقة مستوى عال من الدهاء والذكاء السياسي والاتصالي الاعلامي، والامر وصل الى وضع تونس ليس مجرد صديق بعيد او صديق قريب بل ك"أخ"، وانّ فرنسا "ليس لها من خيار سوى أن ترى تونس تنجح"، والتخدير الخطابي وصل الى مداه قبل ان يخلص الى جوهر الموضوع، وهو الأكاديمي والثقافي والشبابي وخاصة ببناء جامعة فرنكفونية موجهة لافريقيا والمتوسط، ونشر عديد المؤسسات الفرنكفونية بالجهات، وبالتأكيد على "المصير" المشترك في خصوص الفرنكفونية، وربط الأمر بمصلحة البلدين في الصدد، في اسلوب موارب يلتقي مع قاله الاقتصادي الفرنسي الشهير والمنظّر لسياساته جاك اتالي قبل ايام في تونس، حول ابرز عناصر قوة تونس التي صنّف بينها "الفرنكفونية".
وعرض "المساعدات" ظهر أنه مقابل اعادة الاعتبار للفرنكفونية التي تتهالك، ولكن بوضعها في خطابه في اطار "التطلعات المشتركة"، وانجاح الملتقى الفرنكفوني في تونس في سنة 2020 سيكون نجاحا مبهرا لماكرون واختراق استراتيجي يعيد الألق للفرنسية من مسرح "الربيع العربي"، وماكرون انتقل باستمرار الوصاية الثقافية الفرنسية من اسلوب "المقايضة" الى واقع "الرضا" من منطلق "المصلحة المشتركة"، ولكن لا يخفى اسلوب المغالطة والغش في انتزاع "القبول" عبر اسلوبه التخديري التنويمي، مستغلا في نفس الوقت وضع البلاد المتداعي والحاجة للدعم، والسذاجة السياسية للطبقة السياسية الحاكمة وحتى المعارضة، الاولى بانخراطها المطلق فيما خطّط له والثانية في عدم التفطّن للالغام والفخاخ المنصوبة وتفكيكها، كما ظهر أنّها (اي المساعدات) مقابل حماية أمن فرنسا، كحامي للسواحل الفرنسية سواء في اطار الهجرة غير النظامية (السرية)، او في اطار تنقلات الارهابيين القادمين من ليبيا خاصة، وذلك بتركيز منظومات استعلامية متقدّمة بتونس.
الأسلوب الماكر بميزاته الاتصالية القوية لماكرون حقّق كلّ غاياته تقريبا وبشكل بارع، فقد حقّق "صدمة" ايجابية عميقة لفائدته، ومرّر "حقنة" الفرنكفونية بطريقة ليّنة وديعة، وقام بالدعاية ل"مساعدات" بلاده دون ان يتعرّض للنقد بعد أنّ غلّفها بغايات "سامية"، ودون أن نعرف هل الارقام المقدّمة 1,2 مليار يورو بين 2016 و2020 كلها مساعدات ام فيها القروض والاستثمارات، وكم تم صرفه منها في سنتي 2016 و2017 وكم مازال، خاصة وأنّ اغلبها مكرّرة مجترة من عهد سلفه هولاند، وهل ال 500 مليون يورو بين 2020 و2022 سيتم صرفها فعليا، كما نجح في النجاة من الاسئلة الرئيسية الاشكالية التي تصبغ العلاقات التاريخية الثنائية، المتعلّقة بالجانب الانساني في خصوص التأشيرات وحرية التنقّل للاشخاص من اجل العمل، وايضا القديمة-المتجدّدة المتعلّقة باعتراف بلاده عن جرائمها الاستعمارية بتونس والتعويضات المترتبة عنها وايضا مراجعة العقود الاقتصادية المجحفة، ورفع الحجب عن الوثائق السرية في تاريخ العلاقات بين البلدين..!!
(*) قانوني وناشط حقوقي


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.