بقلم: شكري بن عيسى (*) بكلّ صدق تفاجأت بقوّة من اقتضاب الردّ الذي قدمه مرشّح الشاهد لخطة محافظ البنك المركزي، ومن عمومية أجوبته ازاء القضايا الحارقة المتعلقة بالسياسة النقدية الى حدّ الضحالة، كما تفاجأ على الاغلب جلّ النواب الذين كان تفاعلهم باردا بعد انتهاء كلمته، ولولا "الانضباط" الحزبي خاصة من احزاب الائتلاف الحاكم، لربّما كان مصير هذا الترشيح الرفض. والشخصيّة التي تمّ النفخ فيها طويلا سابقا، بالحديث على رفضها تولي وزارات اقتصادية في حكومات الشاهد، واشتراطها ادماج الوزارات المرتبطة بالاقتصاد للقبول، ظهرت "خاوية على عروشها"، ولم تقدّم أيّ برنامج ولا رؤية ولا حتى تصوّر عام على رأس السلطة النقدية في هذا الظرف الدقيق، ولا كذلك مجرّد عناوين عامة بمحاور كبرى واضحة. والحقيقة أن الرجل باستثناء ترؤسه البنك الدولي بليبيا لا يمتلك كفاءة عالية في المجال النقدي تؤهله لهذا المنصب المحوري في البلاد، وخطابه أمام المجلس على امتداد قرابة 27 دقيقة (منها 4 دقائق ثناء على سلفه) أثبت عدم المام دقيق بالوضع المالي والنقدي والاقتصادي بالبلاد، كما اثبت أنّه لا يمتلك الحلول الواضحة للوضع المتأزم، وخاصة فيما يتعلّق بالانهيار الساحق للدينار والتضخّم الصاروخي، واكتفى بأنّ "محاربة التضخم مع عجز ميزان الدفوعات هما رأس اولوياته". العباسي غرق في التأكيد على صعوبة المهمّة، والاشارة الى أنّ كل الأرقام الاقتصادية "مخيفة جدّا"، متسائلا أنه في ظل عجز ميزان الدفوعات الذي وصل ل10% وعجز الميزانية الذي يتراوح بين 6,1 الى 6,2% "كيف للاقتصاد أن يتعافى!؟"، والحلّ "الوحيد" للتخفيض في الاسعار وتعديل الميزان التجاري وميزان الدفوعات لن يكون سوى في "العمل" و"الانتاج" و"خلق الثروة" و"اتحسين الانتاجية"، ولا بد في النهاية من "تظافر جهود الجميع"، معرّجا عما حقّقه في الديوانة من تخفيض في "آجال تصريح البضاعة في ميناء رادس" (الذي كان في 2000 بين 22 و23 يوم) الى 3 أيام في 2010، ولكن دون أن يشير الى أن تلك السنة انتهت بثورة الشعب على بن علي.. لم يشر لها في موضع لاحق سوى بشكل سلبي قائلا "وقت اللي صارت علينا ثورة".. قبل أن يتدارك ويقول "صارت الثورة".. بحذف كلمة "علينا".. المحافظ الجديد بعهدة ست (6) سنوات (اذا لم تحصل عملية اعفاء او استقالة تحت الضغط) لم يطرح شيئا في خصوص الانهيار العميق للدينار، مركّزا على أنّ الدينار يمثّل حصيلة (resultante) لعجز التجارة الخارجية وركود النمو وركود الاستثمار، وأنّ قيمته تعكس الاقتصاد الفعلي (Economie réelle)، وهي كلها خارجة عن تحكّم البنك المركزي، كما أنّ موضوع الاقتصاد الموازي "لا بد من البحث له عن حلول" دون تقديم اي خيط في الصدد، ملقيا في سلّة المهملات سيناريو تغيير العملة الوطنية، منوّها أنه لا يمكن حل مشكل التضخّم ومشكل الدينار بنمو في حدود 2% الذي وجب رفعه، والمخرج في جزء منه بتطوير سلسلة القيم والتوجه نحو الاقتصاد الرقمي، والحل لا يمكن أن يلقى على البنك المركزي لوحده ووجب ان يكون "مشتركا". والحديث عن "اجراءات استثنائية" لظرف "خارق للعادة" لم يتبعه أي تفاصيل، وبقي في حدود الكلام العام المرسل الذي تعوزه الدقّة، والرجل "رمى بالحبل على الجبل"، مشيدا بأن أهم الاصلاحات تمت خلال "برنامج الاصلاح الهيكلي"، مستخلصا أن "الحالة صعبة وليست مستحيلة يمكن الخروج منها ولكن يجب تغيير التفكير ب180 درجة"، وكالعادة دون "مفاتيح" مكررا حكاية أولوية التركيز على التحكم في التضخم وتخفيض عجز ميزان الدفوعات، وحتى حكاية 3 C التي كررها مرات coperation / communication / coordination ظلت تراوح العموميات الجوفاء، وحتى حكاية "اقتصاد الذكاء" التي ختم بها بقيت باهتة. وستظلّ على الأكثر حسب ما قدّمه دار لقمان على حالها، والخيبة الحقيقة عميقة عمَّ قدّمه ليستوجب المصادقة على ترشيحه، سوى هذا الكلام المحبط الذي قدّمه البحيري ويكرره في كل مرة، بأنهم سيصوتون ايجابا حتى لا تنهار البلاد متمنيا "حسن النية" و"عاقدا الثقة" في المعني، وهي عملية تتكرر لكي لا تجلب سوى الجدب والقحط، والثابت أنّ الرجل لا يبشّر سوى مزيد تطبيق سياسات صندوق النقد الدولي الخاربة، فقد امتدح "برنامج الاصلاح الهيكلي"، ولم يشر لا من بعيد ولا من قريب للتدخل في تعديل الدينار، الذي يعتبر خطا أحمرا بالنسبة للصناديق المالية الدولية، وهو ما تم تضمينه في قانون البنك المركزي لسنة 2016، والتزمت به وزارة المالية والبنك المركزي في ماي 2016، من اجل ترك الدينار عائما (نحو الانهيار المدمّر) دون تعديل. وبالتالي فالوضع لن يتغيّر لان التعويم يتواصل في ظل انهيار اقتصادي وهو ما سيزيد في الغرق، وسيعمّق ارتفاع التضخّم الذي يمثل التوريد جزء كبير من هيكلته، كما سيعمّق العجز التجاري الذي ارتفع بما يقارب 3 مليار دينار بين 2016 و2017، وسيعمّق عجز الميزانية الذي يمكن أن يقترب من 7% في 2017، والمحافظ الجديد لم يقدم سوى الالتزام بمرجعيات وبرنامج البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، الذي يطبّق حاليا بالنتائج السلبية الحاصلة، ولم يلتزم بأي نسب أو أرقام أو آجال، ولا ندري كيف ستتغيّر النتائج مع سياسات أكثر "أرثودكسية" وغرق في النيوليبرالية، التي لا يهمها سوى الالتزام بالمبادىء التحررية الاقتصادية لا غير!! (*) قانوني وناشط حقوقي