بقلم: شكري بن عيسى (*) الاخفاق الحكومي المتواصل بتعطّل كل محرّكات التنمية، وتعمّق عجز الميزان التجاري وعجز الميزانية وانهيار الدينار، وتزايد نسبة البطالة والتضخّم الصاروخي، اضافة للتصنيفات المتتالية في القوائم السوداء، قابله على مستوى القصبة "اتصال حكومي" دعائي مكثّف، عبر زيارات ميدانية للجهات من رئيس الحكومة لملىء الفراغات الرهيبة، ولكن أيضا عبر اخراج صورة تزويقي يلعب على زرع نموذج "الزعيم الفذّ"، خاصّة وانّ الامر راسخ في المخيال الشعبي، والاستعداد للمقبولية في خصوصه عالي. فبورقيبة عبر التاريخ عمل على نحت صورة تسبق "انجازاته"، وشيّد صورة عميقة في الوجدان الشعبي، انطلقت مع ذلك المشهد السينمائي الذي ارتبط ب"النصر المجيد"، وهو قادم على الحصان يوم 1 جوان 1955، لوحة تاريخية مفعمة بالمعاني والدلالات صارت فيما بعد "تمثال" في قلب شارع بورقيبة، قبل أن يقع نقلها في عهد المخلوع لتعود بعد الثورة في استثمار مقيت وتنشر في عديد الولايات، وبعده السبسي سوّق لنفسه صورة "تلميذ" بورقيبة حامي الدولة و"هيبتها"، ولو انه يطرح نفسه النموذج البورقيبي "الديمقراطي" الممزوج ب"الثورة"، وفي كل الحالات فصورة "الرئيس" و"الوهرة" كانت أساسية في خطته الاتصالية. الصّيد الحقيقة رئيس الحكومة السابق كان انسانا تلقائيا الى حد كبير، ولم يعمل على تسويق صورة اتصالية ذات "جاذبية"، باستثناء تسريحة الشعر التي تحسّنت وايضا الشارب، فالرجل لم تكن له طموحات "توسّعية" ويكفيه انه تقلّد رئاسة الحكومة، التي لم يكن يحلم بها لا في اليقظة ولا في الخيال، أمّا الشاهد وان لم يكن قبل سنوات يحلم أن يكون شخصية عامة، فقد مثلت الفرصة "التاريخية" التي منحها له السبسي (بدافع لا يخلو من القرابة الشخصية) منطلق للترويج لصورة "رجل المستقبل"، بطموحات شبه مرضيّة، وساعده في ذلك مكتب اتصال في القصبة يعمل على الترويج والماركيتينغ و"التعليب" على حساب "المنتوج"، متواضع الجودة ان لم يكن قريب من الرداءة (سياسيا). الشاهد من البداية انطلق مع فريق COM متمكّن من قواعد اللعبة، والتركيز استغلّ الصورة بشكل كثيف، خاصة وان "فيزيونوميا" و"فيزيك" الرّجل تسمح بمجالات واسعة لجني الفوائد السياسة، ومدار او مركز الصورة كان الرجل "الصارم" و"قائد الفرقة"، عكس صورة الصيد الرجل التلقائي ضحية التطاول من وزرائه، وكانت جملة "يلزمنا ناقفو لتونس" التي وقف معها كل المجلس فارقة، وبقيت راسخة بالرغم انها ظهرت جوفاء فارغة ك"فؤاد أمّ موسى"، ولكنها بقيت تؤتي ثمارها السياسية، فساكن القصبة بالرغم كل اضواء لوحة القيادة الحمراء فهو الوحيد الذي يمتلك نسبة "الرضا" العالي حسب كل الاستبيانات، وهي مفارقة عجيبة لا يمكن تفسيرها الا عبر لعبة "الكوم" رهيبة النتائج. واليوم في عالمنا التسويق السياسي على أشدّه، يستثمر أدوات الدعاية السياسية التقليدية التي تمتد على قرون، ويضيف اليها آخر "الفتوحات" العلمية في المجال النفسي والسوسيولوجي والاتصالي والخطابي ولغة الجسد، ويستغلّ الفجوات النفسية والعاطفية والغريزية واللاشعور داخل الشخصية، في ظلّ انتشار "ثقافة" التدجين والتغييب والتخدير والتصحير السياسي مع اكتساح ايديولوجيا الاستهلاك كل المساحات، مثلما حدّثنا نعوم شومسكي عن "غسيل الادمغة في مناخ الحرية"، وكيف أن "الصحف يتمّ شراؤها - ال"وول ستريت جورنال" في الولاياتالمتحدة، وال"إيكو" في فرنسا - من قبل رجالٍ أثرياء تعوّدوا أن يطوّعوا الحقيقة حسب مصالحهم؛ والإعلام يستخدم بشكلٍ سافر لإبراز السيّد نيكولا ساركوزي؛ والأخبار تبتلعها أنباء الرياضة، والطقس والأحداث المتفرّقة؛ وكلّ هذا ضمن إفراطٍ من الإعلانات: هكذا أضحى 'التواصل' هو وسيلة الحكم في الأنظمة الديمقراطيّة"، وهو لها ما للبروباغندا لدى الديكتاتوريات. شومسكي في ما قام به من بحوث مع ادوارد هرمان، وصل الى استنتاجات جدّ قيّمة حول أهمّية وسائل الاعلام في "صناعة الرضى" la fabrication de consentement، والتأثير يزداد مع تقدّم نسب التعليم والثقافة، والقصف الاعلامي المتواصل يحفر في الاحجار الصمّاء، واللّعب كله على زوايا العرض والاخراج، باقصاء زوايا بأكملها والتركيز والنظر من زوايا أخرى بعينها، حتى لا تكاد ترى الاّ الجزء من العالم الذي يركّز عليه الاعلام، وهو ما استغلّه فريق الشاهد الاتصالي الذي يبرز رئيس الحكوم في صورة "رجل الحكم" القوي. أستاذ علم النفس بجامعة كاليفورنيا ألبرت مهرابيان كان أوّل من وصل الى نتائج فتحت الباب لظهور منهج لغة الجسد body language، ووصل الى نتيجة او قاعدة 7 - 38 - 55، والتي تؤكد أهمية الاتصال غير اللفظي، بمعنى آخر تعطي القيمة الأساسية للاتصال الجسدي، فالتأثير الاتصالي ينقسم بين 7% تأثير لفظي و38% تأثير نبرة الصوت، والبقية أي 55% كاملة تأثير الجسد والحركة، وهو ما استثمر فيه الشاهد بقوّة الذي لا تبرز صفحته في تحركاته وزياراته ولقاءاته مع وزراء حكومته والولاة سوى صورته الكاسحة، مقابل صور باهتة ضبابية وهامشية للبقية. ورئيس الوزراء يضع ذلك تحت عنوان "التضامن الحكومي"، اي "وحدة" و"تناسق" و"تناغم" الحكومة التي اطلق عليها السبسي اسم "الوحدة الوطنية" حتى في غياب المضمون والتركيبة والافق الوطني، وساكن القصبة القادم على اعقاب الصيد الذي طالته عديد السهام الكلامية بنى حوله "هالة" من الخشية من فريقه الحكومي، خاصّة وانه انطلق بدعم مطلق من قرطاج التي استمد منها "سرديته" المصطنعة، والشاب الأربعيني قوي الحركة وشديد البنية الجسدية ولون الوجه الابيض اكتسح المشهد، على حساب فريق أغلبه وضع في موضع "الكمبارس"، والصورة الاخيرة في توزر مع والي الجهة ظهرت معبّرة للغاية في الخصوص، لتمرير "البروفايل" الامبراطوري لشخصه. فالسلطة كما أكد بن خلدون وهذا راسخ في المخيال العربي، لا بد لها من "الشوكة" والعظمة والقوّة، وهو نفس الشيء الذي أكّده Thomas Hobbes في كتابه "اللوفياتان" Léviathan، في ارسائه قاعدة "هيبة الدولة" التي تضع على الحاكم مسؤولية "الأمن" في مقابل سطوه على حرية الشعب، ورمزية "القوة" و"الهيبة" أساسية هنا في ممارسة الحكم وترسيخ السلطة، وترسيخ صورة "السلطان" في المخيال الشعبي تمر باظهارها أوّلا مع الطاقم الحكومي والولاة، واللعب على الرمزية بدا قويا والايحاء بصورة "الواحد" المهيمن بدا شديدا، والصورة التي تصدّرت موقع رئاسة الحكومة ظهر فيها الشاهد كاسحا والوالي هامدا منبهرا. "لغة الجسد" كانت معبّرة في الصورة شديدة الاخراج، فالشاهد ظهر مندفعا متحركا متكلما ثاقب النظرة، متوجها بنظره نحو الجمهور أي لاقط الصورة، والوالي بدا متأملا مندهشا في حركة المتكلم، وما زاد في تعبيرية الصورة التي ظهرت كاريكاتورية، هو أن الشاهد ومساحته يحتل قرابة 80% والوالي لا يحتل سوى 20%، والي توزر بدا واجما مستكينا متقهقرا، في مقابل القادم من القصبة مالىء اللوحة، التي يظهر فيها قبالته باقة الورد وبجانبه الراية بالرغم ان باقة الورد في الاصل تتوسط الرجلين، لكن زاوية اتقاط الصورة جعلتها امامه، كما يظهر في الصورة شكلين اسودين لخيال رجلين، زادا في تفخيم صورته. الزيارة كباقي الزيارات ركّزت على توزيع قروض صغرى بمعدّل 10 مليون دينار اغلبها قديم، وعديد الاجراءات الاخرى العديد منها مجتر مع وعود سابقة غير منفذة، ومن يطّلع على القائمة يرى سلسلة طويلة من الاجراءات، جلها ان لم يكن كلها مبرمجة في الميزانية، فقط تستغل لاحداث الاستعراض الفلكلوري، ولالتقاط هذه الصور الدعائية وتلك الجلسة التي كتب في عنوانها [تحت "سامي" اشراف]، لاظهار سطوة الرجل والنفخ في شكله، وكأنّ الثورة لم تحدث وكأن بن علي لازال قائما، بالفعل الصورة مذلّة ليس لوالي توزر بالذات بل لصورة الوالي بشكل عام، الذي بدا في "شكل" باهت خاصّة وانه اعان بشدّة "ماكينة الدعاية" في شكله المستلب الراهب. وطبعا آن للشاهد أن يلعب على العواطف والصور والمخيال والبسيكولوجيا واللاشعور، ما دامت ماكينة البروباغندا قوية فعالة، وما دامت الحاشية متقهقرة لاهثة وراء المناصب، ساعية في تمجيده وتعظيمه، واسلوب التغطية على الاخفاقات العميقة متواصل، ولا ندري الى متى سيظل بيع هذا "المنتوج" المغشوش، الذي يشبع حاجيات وهمية في مقابل حاجيات حقيقية غير ملباة، ومتى ستسقط هذه الصورة المركّبة المزيفة القائمة على استغلال ضعف المتلقي، بالاستثمار في وسائل الهيمنة الرمزية والنفسية بادوات المكر والخداع!! (*) قانوني وناشط حقوقي