أيمن عبيد ألمانيا لا ريب أن الإعلان عن تعليق وثيقة قرطاج 2، ليس بحال من الأحوال إيقافا لها و لا هي صفارة إنتهاء نهج الحوار و التوافق الوطنيين، مثلما أوردت بعض الأطراف الإعلامية و السياسية إيحاء و تلميحا، أو تصريحا فضيحا كما فعلت المملوكة الإذاعيّة السابقة لسرين بنت المخلوع، معبرة عن خلطة كريهة، من إدمان النزوع إلى التلبيس و التحايل على الرأي العام بإستغلال تشابه الألفاظ، و علّة الهذيان و الحلم بصوتٍ عالٍ التي أصابت أعداء الربيع التونسي. كما يظهر أن هذا الإعلان لا يعكس فقط المراد المعتاد، من فسحة إستراحة تتخلّل الأشغال المضنية للمباحثات أو مجرّد نسمة عليلة تشقّ الأجواء المشحونة للمفاوضات، فتنفض عن المتفاوضين غبار الإنفعال و الإرهاق و تفتح أمامهم فرص التداول و التشاور في أطر أكثر أريحيّة، بنفس غائية رفع الجلسات في المحاكم أو إستراحات القهوة و الشاي أثناء الإجتماعات و المؤتمرات بإختلاف أنواعها، حتى يسهل بعدها الركون إلى قواعد العقل و إعلاء صوت الحكمة و التراضي، قبل أن ينفرط عقد الإجماع. بل إنه من الأرجح، أن رئيس الجمهورية الموقن بأن غموض موقفه من هيبة شخصه و مركزه، و العليم بكواليس الأزمة و ماهية عناصر التعقيد فيها، قد وقع رأيه على الترفع عن ترجيح احدى الكفتين على الأخرى و التعفف عن دنس صراعات زعامتية ضيقة، لا تسمو إلى مقامه و رمزيته الجامعة في البلاد و الحزب، بالمرور إلى سياسة الضوء البرتقالي، فتراجع أمام تضخّم و تصادم المطامع الشخصية لنجله و قريبه، مفسحا أمام كليهما مضمار التسابق على رضاه، ليتقدم كل منهما في معركته الشخصية على مسؤوليته الخاصة، عملا بقاعدة من تغلّب و ظهرت شوكته وجبت تزكيته و البقاء للأفضل فقط. و تلك سياسة بورقيبية بإمتياز، كان يلجؤ إليها الزعيم الراحل كلما حمي الوطيس بين رجال دولته، فيسافرخارج البلاد متعلّلا بالعلاج. فمن ناحية، و بتوالي الهزيمة الإنتخابية الثانية التي يجرّ إليها النداء بقيادة حافظ السبسي و عصبته في أقل من ستة أشهر، لم يجد هذا الأخير من بدّ، للإستعانة على فقدانه للشرعيتين الإنتخابية و التأسيسية في تزعمه للحزب الحاكم، إلا بالإستغاثة بنسبه بعد أن أبطأ به عمله. فنجد أن صفحات الحزب الرسمية، بعد أيام فقط من الإعلان عن النتائج البلدية، تحثّ الخطى في نشر مقالات مواقع إلكترونية مقربة، حاملة لعناوين من قبيل "نجل الرئيس..." و "ابن السبسي... "، ليُلبِس كل تململ أو إستنكار لسياساته، من الهياكل و القيادات تهمة العداء لنهج الرئيس المؤسس، و يوهم قواعده بأنه كان و مازال يد أبيه و ظلّه و إرادته النافذة في الحزب. و لا يستبعد أن من وسوس إليه بهذه المشورة الساذجة، متناسيا أن الرئاسة كالملك ليس لها أبناء، قد أوهمه أيضا أن الطريق الأسهل لتألف قلوب المنظمات الإجتماعية و الفلول الندائية المنشقّة، يكون أولا بالشطط في إستعداء حركة النهضة و مخالفة كل توجهاتها سواء أصابت أم أخطأت، بالإضافة إلى تبني مواقفهم المنادية بإسقاط الحكومة سلفا، مما سيوفر له بعد ذلك حزمة من الحقائب الوزارية و ما وراءها من مناصب، توزّع كعطايا ثمنا لولاء كل مستاء و معارض، و بعدها فقط يسعه المضي في ما أعلن عنه، من نية إجراء المؤتمرات الجهوية و الوطنية و قد خضعت له النفوس بعد أن أشبعت البطون. فيكون قربان الشاهد و حكومته، حجرا واحدا و ضربة معلّم، تسقط كل عصافير الغاب في جيبه. إلا أن هذا الأخير قد بعثر كل أوراقه بخطاب الثلاثاء، الذي حمل شكلا و مضمونا رسالة مفادها، أنه خصم عنيد مستميت، في معركة مفتوحة لن تنتهي إلا بنهاية المستقبل السياسي لأحدهما أو كلايهما. فمن حيث الشكل فقد كان الخطاب قصير المدة، بما يجعله ذا قابلية كبيرة للإنتشار على مواقع التواصل الاجتماعي، كما أنه قُدّم في وقت ذروة يجتمع فيها أغلب التونسيين حول التلفاز للسمر و متابعة الأعمال الدرامية، ضامنا بذلك أعلى نسب المشاهدة الممكنة، إضافة إلى رمزية القناة الوطنية التي أذاعته، و كأنه يلوح بأن عصا المؤسسات الرسمية مازالت له طيّعة و أنه لن يتوانى عن توظيف إمكانيات الدولة في صراعه هذا. كما إستعمل لهجة دارجة بكلمات بسيطة و صريحة مباشرة، حاول جاهدا من خلال إثرائها بتقنيات التواصل الغير لفظي، مستعملا الإشارات الجسدية المعبرة و نبرة الصوت الهادئة، للإيحاء بعفويتها و إستغنائه عن التلاوة من الأوراق، حتى لا تشوب صورة المستوثق الصادق المقدام التي ظهر بها أو أراد، أية شائبة. أما مضمونا، فقد حرص عن الإعلان على أن هامش مناورته يفوق كل التوقعات و أنه أَحسن إعداد العدّة و الخطة للمضي قدما في المناجزة حتى آخر رمق سياسي. فعلاوة على أن إقرار ما كان يتداوله المتابعون و بعض الخصوم من أن رأس الداء و البلاء في البلاد و النداء هو حافظ السبسي، على الملأ و من رأس السلطة التنفيذية بالذات، يغلق كل إمكانيات الصلح أو العمل المشترك في المستقبل. فقد فاجأ الجميع بإختياره الهجوم كخير وسيلة للدفاع، ملوّحا بنقل المعركة إلى حمى خصمه و بين مضاربه، إذ أَدخل من خلال المطالبة بالإطاحة بحافظ من منصبه، رافعا شعار ضرورة إصلاح الحزب، عنصرا جديدا في معادلة المقايضة. كما أن خطابه ذاك، كان أشبه ما يكون بالبيانات التأسيسية للأحزاب، محتويا على محاورها الأساسية الثلاث؛ فإستهلّه بتوطئة تصف السياق العام للنشأة، متخذا من حديّة الأزمة السياسية و ما خلّفته رعونة قيادة النداء من ويلات التشرذم و التشتت على العائلة الديموقراطية، دوافعا تبرر لإيجاد مشروع بديل منقذ. ثم إنتقل إلى عنصر المهام، للإجابة عن السؤال المعهود: "ماذا نريد و إلى ماذا نطمح؟" و التي لخصها في: تحقيق التوازن كضمانة للإستقرار السياسي،و إنجاز الإصلاحات الكبرى، و محاربة الفساد. و إختتم بطرح نظرة إستراتيجية تشمل وسائل تحقيق المهام، و التي تمثلت في إصلاح الصناديق الإجتماعية و المؤسسات العمومية، و التحكم في كتل الأجور، متعهدا الإلتزام بالتوافق السياسي و التحرك في إطار مخرجات الحوار الإجتماعي. و في ذلك تطمينات لكل الفاعلين على الساحة. بما يوحي بعلو سقف سيناريوهات التصعيد، التي لن تنتهي بإسقاط الحكومة و لا حتى بنجاح غريمه في الدفاع عن مكتب البحيرة. فقد تتطور الأمور إلى فرض عزلة خانقة عليه، بإستنزاف رصيده القاعدي و إستمالة هياكل و نواب من كل ربوع البلاد، سبق و أن تواصل معهم الشاهد و بلّغوه إستياءهم أثناء جولاته. و لم يفته أيضا الإشارة إلى ما أبرمه من أحلاف و ما إستجلبه من دعم، حيث أثنى على عدد من مراكز القوة الداخلية و الخارجية، كذكره للساحل، المعروف بالسعي الحثيث للوبياته لإستعادة ما سلب منها من جاه، و شكره لأصوات الحكمة، التي تقترن عادة بصفات الشيوخ، كما لمّح عن موقف اللاعبين الدوليين المساند لبقائه، و هو ما صرح به فعلا السفير الفرنسي منذ أسبوعين، إثر لقاء جمعه و سفراء الدول السبع الكبار برئيس الحكومة، بدار الضيافة في مشهد أشبه "بالكوميسيون" المالي الذي قرأنا عنه في سيرة خير الدين. و بما أن أحجام الصراعات السياسية تكون بأحجام أهدافها، فإن هذا الصراع الذي يقوم في أدناه من أجل تزعّم الروافد الدستوتجمعية و في أقصاه من أجل خلافة قصر قرطاج، لن تفي بالتأكيد الهراوات الميليشياوية بالقضاء فيه، على شاكلة مؤتمر الحمامات. و لئن كان الحسم فيه مازال مفتوحا على كل الإحتمالات، و يبقى رهين الموارد و الإمكانيات المتوفرة لكلا الطرفين، فإن دافع ثمن إستفحاله و إستطالة مدته، ستكون لا محالة الحلقات الشعبية الأضعف. و لا رجاء ممن أسس وجوده و تنافسه السياسي على فرضيّة الخداع المصطنع و ليس على الحقيقة الموضوعية، في السعي لتنقية الأجواء الوطنية، ترفقا بالبلاد و طمعا في إسترداد شيء من ثقة العباد. فقد ترسخ إنقطاع الأمل من الناس في عقيدتهم الإستبدادية، و نمت معهم قناعة بأن المحرك الأسرع و الأنجع للجماهير، إما الفزاعات و عصيّ التخويف من الخلف كالقطعان تهشّهم، أو لقمة طريّة في مكان الوجهة تجذبهم. و لا ريب أن مثل هاته العقليات الإستبدادية الضيّقة الأفق، لا تتعايش طويلا مع قواعد اللعبة الديموقراطية، فقدرهما أن يفشل أحدهما الآخر. و أغلب الظن أن رئيس الجمهورية، و هو الذي أبعدته السياسة و التفاني في خدمة الدولة -كما صرحت عقيلته المصون- في مقتبل عمره عن معرفة أولاده، قد يلجأ اليوم مجبورا إلى إبعاد إبنه عنها بعد أن عرفه، فلا أحسبه سعيدا برؤية إبنه يراكم الخيبات و يسير إلى ما لا تحمد عقباه، و لا هو يرضى بإختتام مسيرته الحافلة بعار الخروج من بوابة خلفية بجريرة ولده، خاصة و قد أتيحت له فرصة تاريخية، للأبوة الروحية، لأول ديموقراطية عربية. و لئن كانت طأطأة حافظ الخجولة و إرتباكه أمام أبيه في إجتماع قرطاج الأخير و في المقابل ظهور التناغم في صور الإستقبال البروتوكولي من رئيس الحكومة لرئيس الجمهورية على مدرجات الطائرات، تدعم هذه القراءة و التأويل إلا أنها لا تقتضيه حتما. فهل يختار رئيس الجمهورية أبوة التونسيين جميعا على إبنه؟ و هل يتركه إقتداء بالزعيم، لمصير بورقيبة جونيور؟