تفاصيل الاحكام السجنية الصادرة في قضية "التسفير"    دعما للتلاميذ.. وزارة التربية تستعد لإطلاق مدارس افتراضية    ترامب يبحث ترحيل المهاجرين إلى ليبيا ورواندا    جلسة عمل بين وزير الرياضة ورئيسي النادي البنزرتي والنادي الإفريقي    نصف نهائي كأس تونس لكرة اليد .. قمة واعدة بين النجم والساقية    ملكة جمال تونس 2025 تشارك في مسابقة ملكة جمال العالم بالهند    مهرجان «كنوز بلادي» بالكريب في دورته 3 معارض ومحاضرات وحفلات فنية بحديقة «ميستي» الاثرية    تونس: مواطنة أوروبية تعلن إسلامها بمكتب سماحة مفتي الجمهورية    المانيا.. إصابة 8 أشخاص في عملية دهس    الاتحاد الجهوي للفلاحة يقتحم عالم الصالونات والمعارض...تنظيم أول دورة للفلاحة والمياه والتكنولوجيات الحديثة    تحسّن وضعية السدود    عاجل: بينهم علي العريض: أحكام سجنية بين 18 و36 سنة للمتهمين في قضية التسفير مع المراقبة الإدارية    القيروان: هلاك طفل ال 17 سنة في بحيرة جبلية!    معدّل نسبة الفائدة في السوق النقدية    اللجنة العليا لتسريع انجاز المشاريع العمومية تأذن بالانطلاق الفوري في تأهيل الخط الحديدي بين تونس والقصرين    تحيين مطالب الحصول على مقسم فردي معدّ للسكن    مأساة على الطريق الصحراوي: 9 قتلى في حادث انقلاب شاحنة جنوب الجزائر    عاجل/ أمريكا تجدّد غاراتها على اليمن    تونس تسجّل أعلى منسوب امتلاء للسدود منذ 6 سنوات    عاجل/ تحويل جزئي لحركة المرور بهذه الطريق    عاجل: إدارة معرض الكتاب تصدر هذا البلاغ الموجه للناشرين غير التونسيين...التفاصيل    لماذا اختار منير نصراوي اسم 'لامين جمال" لابنه؟    تونس تستعدّ لاعتماد تقنية نووية جديدة لتشخيص وعلاج سرطان البروستات نهاية 2025    اتخاذ كافة الإجراءات والتدابير لتأمين صابة الحبوب لهذا الموسم - الرئيسة المديرة العامة لديوان الحبوب    النّفطي يؤكّد حرص تونس على تعزيز دور اتحاد اذاعات الدول العربية في الفضاء الاعلامي العربي    عاجل/ زلزال بقوة 7.4 ودولتان مهدّدتان بتسونامي    الشكندالي: "القطاع الخاص هو السبيل الوحيد لخلق الثروة في تونس"    الليلة: أمطار رعدية بهذه المناطق..    جريمة قتل شاب بأكودة: الإطاحة بالقاتل ومشاركه وحجز كمية من الكوكايين و645 قرصا مخدرا    مدنين: مهرجان فرحات يامون للمسرح ينطلق في دورته 31 الجديدة في عرس للفنون    عاجل/ تسجيل إصابات بالطاعون لدى الحيوانات..    غرفة القصّابين: أسعار الأضاحي لهذه السنة ''خيالية''    منوبة: احتراق حافلة نقل حضري بالكامل دون تسجيل أضرار بشرية    سليانة: تلقيح 23 ألف رأس من الأبقار ضد مرض الجلد العقدي    مختصون في الطب الفيزيائي يقترحون خلال مؤتمر علمي وطني إدخال تقنية العلاج بالتبريد إلى تونس    فترة ماي جوان جويلية 2025 ستشهد درجات حرارة اعلى من المعدلات الموسمية    الانطلاق في إعداد مشاريع أوامر لاستكمال تطبيق أحكام القانون عدد 1 لسنة 2025 المتعلق بتنقيح وإتمام مرسوم مؤسسة فداء    حزب "البديل من أجل ألمانيا" يرد على تصنيفه ك"يميني متطرف"    جندوبة: انطلاق فعاليات الملتقى الوطني للمسرح المدرسي    فيلم "ميما" للتونسية الشابة درة صفر ينافس على جوائز المهرجان الدولي لسينما الواقع بطنجة    كلية الطب بسوسة: تخرّج أول دفعة من طلبة الطب باللغة الإنجليزية    بطولة افريقيا للمصارعة بالمغرب: النخبة التونسية تحرز ذهبيتين في مسابقة الاواسط والوسطيات    خطر صحي محتمل: لا ترتدوا ملابس ''الفريب'' قبل غسلها!    صيف 2025: بلدية قربص تفتح باب الترشح لخطة سباح منقذ    تطاوين: قافلة طبية متعددة الاختصاصات تزور معتمدية الذهيبة طيلة يومين    إيراني يقتل 6 من أفراد أسرته وينتحر    الرابطة المحترفة الثانية : تعيينات حكام مقابلات الجولة الثالثة والعشرين    الأشهر الحرم: فضائلها وأحكامها في ضوء القرآن والسنة    الرابطة المحترفة الأولى (الجولة 28): العثرة ممنوعة لثلاثي المقدمة .. والنقاط باهظة في معركة البقاء    ريال بيتيس يتغلب على فيورنتينا 2-1 في ذهاب قبل نهائي دوري المؤتمر الاوروبي    أبرز ما جاء في زيارة رئيس الدولة لولاية الكاف..#خبر_عاجل    الصين تدرس عرضا أميركيا لمحادثات الرسوم وتحذر من "الابتزاز"    الجولة 28 في الرابطة الأولى: صافرات مغربية ومصرية تُدير أبرز مباريات    صفاقس ؛افتتاح متميز لمهرجان ربيع الاسرة بعد انطلاقة واعدة من معتمدية الصخيرة    "نحن نغرق".. نداء استغاثة من سفينة "أسطول الحرية" المتجهة لغزة بعد تعرضها لهجوم بمسيرة    خطبة الجمعة .. العمل عبادة في الإسلام    ملف الأسبوع.. تَجَنُّبوا الأسماءِ المَكروهةِ معانِيها .. اتّقوا الله في ذرّياتكم    أولا وأخيرا: أم القضايا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



لماذا يصرّ رئيس الجمهورية على خرق الدستور واستعداء الهويّة؟
نشر في باب نات يوم 15 - 08 - 2018


الصحبي صماره
في سياق أزمة عامة متعدّدة الأبعاد تعرفها البلاد، لعلّ أخطرها الأزمة الاقتصادية التي تتجلّى من خلال التراجع المتسارع لقيمة العملة الوطنية والتقلّص غير المسبوق لاحتياطي الخزينة العامة من العملة الأجنبية باعتبارها أداة التوريد الرئيسية، بالموازاة مع تقدّم بطيء وطفيف في قطاعي السياحة والتصدير . بالإضافة إلى الأزمة السياسية التي اتّخذت طابعا عنقوديا طال أهمّ مؤسسات الحكم من خلال تصدّع العلاقة بين رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة إضافة إلى الحرب المفتوحة بين هذا الأخير وحزبه، الذي اختاره وكلّفه برئاسة الحكومة، هذا طبعا بالإضافة إلى التناحر صلب "نداء تونس" حول القيادة فيما يعرف بمعركة الشرعية وما رافق ذلك من توتّر في العلاقة بين حركة النهضة ونداء تونس وتحوّل في علاقة التوافق بين رئيس الجمهورية ورئيس حركة النهضة الشيخ راشد الغنّوشي.
مبادرة متهافتة أشبه بمجاوزة ممنوعة
في هذا السياق المحتدم والذي يساهم في إطالة معاناة شرائح واسعة من التونسيين ويعرقل كلّ مجهود جدّي في البحث عن حلول للمشاكل الوطنية لتساهم في التطوير الحتمي لهياكل الدولة ومؤسساتها التي أصبحت في حالة من الرّكود والعجز، اختار رئيس الجمهورية خلق حالة من التشتّت والفوضى عبر مبادرة غير مدروسة لا تعدو أن تكون تهافتا سياسيا أشبه بمجاوزة ممنوعة بسيارة قديمة متهالكة لتحقيق سرعة قياسية شبه مستحيلة.
فبتاريخ الأحد 13 أوت 2017 الموافق لعيد المرأة أعلن رئيس الجمهورية عن إحداث لجنة الحرّيات الفردية والمساواة التي كلّفها بإعداد تقرير حول الإصلاحات المرتبطة بالحريات الفردية والمساواة استنادا إلى دستور جانفي 2014 والمواثيق الدولية لحقوق الإنسان والتوجّهات المعاصرة في هذا المجال.
وبتاريخ الاثنين 13 أوت 2018 تولّى رئيس الجمهورية توسيم الأعضاء التسعة المكونين للجنة بعد أن ألقى كلمة مقتضبة دعا من خلالها القوى السياسية وخصوصا حركة النهضة، باعتبارها الكتلة الأولى في البرلمان والقوى السياسية التي أبدت تحفّظاتها الرسمية حول محتوى التقرير، إلى دعم مقترحه المتعلّق بالمساواة في الميراث في نوع من التجاهل لما تضمّنه التقرير من فصول أثارت جدلا مجتمعيا واسع النطاق. وعمّقت الشعور العام بعدم الارتياح لما يحصل في البلاد وأكّدت ضبابية الرؤية لدى رئيس الجمهورية الذي أصبح في الآونة الأخيرة كثيرا ما يخلّ بمبدأ الحياد وينخرط في صراعات تمسّ جوهر المنصب الذي يتقلّده باعتباره رئيسا لكل التونسيين.
للتذكير فإنّ مقترح المساواة في الميراث هو مقترح الرئيس نفسه وقد ضمّنته اللجنة صلب تقريرها بما يعني أنّ التقرير برمّته قد تمّ تجاهله وهو ما يؤكّد استنتاجا وحيدا هو فشل اللجنة في تقديم رؤية إصلاحية لقضايا الحريات الفردية مقنعة للرأي العام. هذا الفشل كانت قد استبقت الإعلان عنه الناشطة السياسية بشرى بالحاج حميدة باعتبارها رئيسة اللجنة وذلك بإعلانها منذ أسبوع عن رفض وضع التقرير على ذمة استفتاء شعبي معلّلة ذلك بعدم نضج المجتمع لاستفتاءه حول قضايا مصيرية تتعلق بحريته.
لست بصدد التعليق على تقرير بشرى بالحاج حميدة ولا أعضاء اللجنة الذين في أغلبهم يدورون داخل فلك قيم ثقافية وفكرية خاضعة للرؤية المركزية الأوروبية خصوصا في مدونتها الفرنسية التي تمثّل نموذجا من نماذج الأصولية العلمانية.
ما أودّ تناوله هو هذا الكم الهائل من الوقت الضائع والإمكانيات المهدورة والتجييش الإعلامي الأعرج والممارسات العابثة بانتظارات المواطنين وتطلعات المجتمع. وما يثير الدهشة هو الإمعان في فرض أجندات إلهاء للرأي العام الوطني والنّخب على حد السواء باختلاق معارك ليست ذات أولوية ولا ذات مردودية.
إنّ اللوم الحقيقي يوجه إلى رئيس الجمهورية الذي سخّر جزءا من ميزانية الدولة لعمل بحثي اختارت من خلاله اللجنة التي أنجزته التصادم مع ثوابت مجتمعية وتاريخية لا يمكنها أن تتطوّر إلاّ وفقا لميكانيزماتها الداخلية ومثل هذه التقارير الإملائية ليست إلاّ نوعا من الاستعلاء الثقافوتي الذي يفتقد لأهم شروط البحوث العلمية والتفكير العقلاني وهو شرط الموضوعية.
اللوم أيضا موصول إلى محيط الرئيس الذين لم ينبّهوه إلى ما تضمّنه التقرير من إعلانات حرب على الهوية الوطنية. هده الهوية التي نحتها المجتمع التونسي على مدى قرون من الزمن وضمنها الدستور في فصله الأول وعلى الشعور الجماعي بالانتماء والانحياز إلى القضايا العادلة وعلى رأسها القضية الفلسطينية والتي وجّه إليها التقرير ضربات من وراء الظهر تفتح الأبواب سرّا وعلنا نحو التطبيع مع دولة الاحتلال الصهيوني وقبول ذلك تحت عنوان احترام الانتماء الديني للأفراد بينما تمارس دولة الاحتلال التهجير والتقتيل الجماعي على أساس الانتماء الديني لشعب بأسره.
هل تُترجم مبادرة الرئيس نوعا من الانتقام النيروني؟
كثيرا ما خانته المصطلحات وأربكته ذاكرته المرهقة ولكنّه لا يعوزه الذكاء السياسي النابع من خبرة عقود من الممارسة. هكذا هو الباجي قائد السبسي رجل صاحب كاريزما يفتقد القدرة على صياغة الرؤى الاستراتيجية باعتباره ليس رجل فكر وتسيطر عليه نزعة المناورة مع قدرة استثنائية على انتهاز الفرص.
من المرجّح أن يكون السبسي يعيش هده الفترة تحت تأثير عقدة تنافس حزبي ضدّ حركة النهضة التي مثّل فوزها في الانتخابات البلدية زلزالا غيّر معطيات المشهد السياسي في البلاد. فقد مثّل تاريخ 6 ماي 2018 صدمة له ولحزبه ولكافة القوى المنافسة للنهضة وللقوى الإقليمية التي تراهن على ضعفها وتراجعها.
لم يشف غليل الرئيس المؤسس لمعسكر الحداثة المستوردة والهشّة تطمينات حركة النهضة له ولحزبه بتمسكها بالتوافق ولم يطمئن لقرارها عدم الاحتفال بانتصارها على حزبه وعلى ماكينات استطلاعات الرأي ومصانع الدعاية والإعلام المؤدلج.
من الواضح أنّ الباجي قائد السبسي أخطأ الاعتقاد عندما توقّع من حركة النهضة الانصياع التام لرغباته وتوجيهاته وقد يكون مصدوما لتمسّك النهضة بخيار الاستقرار الحكومي لذلك قرّر إيقاف محادثات قرطاج 2 التي كان هو من دعا لها وأنشأها وأشرف عليها وصنع لها هيلمانا معلنا يوم 28 ماي 2018 بعيد الانتخابات البلدية بأيام عن إيقاف العمل بهذه الوثيقة.
وكالعادة وبمجرّد مواجهته لأخطاءه يتراجع ملقيا باللائمة على سواه فبعد عجزه عن الإطاحة برئيس الحكومة الذي اختاره هو بنفسه وكلّفه ودعّمه عقب إطاحته بسلفه الحبيب الصيد ألقى بالمسؤولية على حركة النهضة ووصف حكومة الشاهد "ابنه سياسيا" بأنّها حكومة النهضة.
في قرارة نفسه يمقت الباجي قائد السبسي الشراكة مع أي كان ويرفض معاندته حتى ولو كان ذلك لمصلحة البلاد. وفي الواقع لم يعد من مصلحة النهضة الاستمرار في توافق يتحكم فيه طرف واحد أثبت بعد فترة من الحكم أنّه ضعيف وفضحته نتائج الانتخابات البلدية التي عقبت انتخابات 2014 والتي سيطرت عليها أدوات التصويت المفيد تحت وطأة التخويف والتشويه للمنافس.
قرار السبسي يوم 28 ماي التوقف عن العمل بوثيقة قرطاج كان بمثابة إعلان عن إنهاء التوافق وقد أعقبه تاريخ آخر وهو 28 جويلية والذي اعتقد حزب الرئيس أنّه فرصة ذهبية لتأديب يوسف الشاهد وإسقاطه رمزيا عبر إسقاط مقترح تكليف هشام الفوراتي بوزارة الداخلية. ولكن حزب الرئيس بعد تناقض تصريحات ممثّليه وارتباكهم المفضوح اضطرّ للتصويت تفاديا لهزيمة ديمقراطية جديدة حيث كان الوزير سيمرّ رغم تعليمات قيادة الحزب. لقد كان من الممكن أن يتعرّى بشكل نهائي انقسام كتلة النداء إلى نصفين نصف مع الشاهد وآخر مع الرئيس لو لا أن تغيّرت التعليمات ليدعو الرئيس إلى التصويت وتقفز مجموعته البرلمانية في آخر عربة من القطار وتصوت لفائدة الوزير المقترح بعد أن صفّر القطار للانطلاق من دونهم.
التاريخ الآخر ولا أضنه الأخير أو الأحرى الهزيمة الجديدة هي يوم 11 أوت الجاري حيث أفصحت البلاد عن ولادة مجتمع مدني محافظ ومخلص لهويته ولا يراهن على المعلبات الفكرانية والمعايير والقيم المستوردة. فقد غابت حركة النهضة رسميا كحزب سياسي عن التظاهرات الرافضة لفرض نمط مجتمعي مستورد من خلال حصان طروادة الجديد ممثلا في تقرير لجنة الحريات. في المقابل حضرت حركة النهضة بشعاراتها وتوجّهاتها وقد ساهمت كقوى سياسية أولى في البلاد في تنقية الموقف الأغلبي العام من شوائب الأعلام السوداء منحازة للراية الوطنية ومؤكّدة على اختيارها "الإسلام الوطني" لتغطّي بكثافة أنصارها المساحة الفاصلة بين باب سعدون وساحة باردو في انسجام مع الهويّة والراية الوطنية. وقد أوردت إذاعة موزاييك بتاريخ 14 أوت سبرا للآراء كشف اختيار أقل من 3 بالمائة من الرأي العام الانحياز لتقرير الحريات الفردية المستوردة بينما دافع قرابة 97 بالمائة عن هوية مجتمعهم.
تراجع جديد ومناورة أخرى
حكاية نيرون مع روما معروفة جدّا فقد خيّر هذا الإمبراطور حرق المدينة بأكملها بدءا من خشبة المسرح التي كان يعتليها للتمثيل وممارسة هواياته. اعتقد نيرون أنّه بعملية الإحراق البشعة يحقّق حلما راوده بإعادة بناء المدينة وفقا لما أوحت له الأحلام أو الأرجح الأوهام. هذه الحكاية تشبه كثيرا مسيرة رئيس الجمهورية في العديد من النقاط.
ففي هذا الإطار التاريخي بما تضمّنه من وقائع وتبعا للسياق السياسي الذي يتمحور حوله أطلق رئيس الجمهورية خطابه يوم 13 أوت أي بعد مضي عام عن تأسيس لجنة الحريات الفردية والمساواة ليؤّكد عجزه عن إقناع الرأي العام الوطني بحزمة المقترحات التي توصّلت إليها وأثبت فشل هذا المشروع في التحوّل إلى مجلّة للحريات الفردية.
هذا ما جعل الرئيس يقتصر بإعلان دفاعه عن حرّية وحيدة وهي حرّية صاحب الثروة أو الميراث في توزيع ثروته على أبناء وبناته بالتساوي. بما يعني حرية الاختيار بين القانون المدني والشريعة الإسلامية. وهو بذلك قد اعترف بأن التخيير هو المقابل للشريعة ومعناه أن الرئيس لم يطرح مبادرته على أنها اجتهاد من داخل الشريعة كما فعل بورقيبة من خلال لجنة المشايخ التي قدمت له مبادرة الأحوال الشخصية، ولا يبدو أنه حريص على ذلك ، والحقيقة أن اللجنة ذاتها التي اختارها الرئيس لم تحرص ولا هي جادّة، رغم التوابل بلا رائحة التي بثتها في التقرير، في أن تقدم له اجتهادا من داخل الشريعة وإنما "اجتهاد"! أو رأي من خارجها ومقابل لها.
هذا ما يعني أيضا أنّ الرئيس لم يدرك الورطة التي أوقعته فيها اللجنة لأنها لم تتحدث بمصطلحات الفقهاء والأصوليين إذ ليس في مواجهة حكم الله خيار للمسلمين ف"ما كان لهم الخيرة من أمرهم"، وهو ما أظهر رئيس دولة مسلمة في مظهر من يستسهل تقسيم مجتمع مسلم بين من يختار اتباع الشريعة وبين من يختار مخالفتها.
فهل نجح خطاب الرئيس في توحيد المجتمع ؟ لا للأسف . بل وضع الأساس القانوني لتقسيمه قانونيا بين أتباع الشريعة ورافضيها، وهو ما عملت القوى السياسية وخصوصا حركة النهضة على توقّيه خلال الجدل المحتدم الذي دار حول الفصل الأول من الدستور سنة 2013 والذي تمركز حول إدراج الشريعة أو الاكتفاء بالنص على الإسلام وقد اختارت النهضة رغم سيطرتها على المجلس التأسيسي آنذاك الخيار الثاني لتجنّب تقسيم المجتمع بين راضٍ بالشريعة ورافض لها، وجنّبت البلاد استنبات خطاب التكفير.
يعيدنا اليوم مقترح الرئيس إلى نفس المربع فيحمل التونسي على الاختيار بين الشريعة وبين رفضها. كما يفرض عليه الاختيار بين المدني والديني بينما هو كان في حلّ من ذلك. فإذا رغب المورّث في تنفيل فرد من أفراد عائلته بنحلة ، ففي الشريعة مداخل شتّى لذلك. بل إنّ أسوأ ما يمكن أن ينجرّ عن مقترح الرئيس هو مخالفة الدستور والتناقض معه حيث سيؤدّي ذلك الاقتراح إلى جعل ما تنصّ عليه الشريعة ليس هو الأصل وفق ما يقتضيه الفصل الأول من الدستور وإنما هو الاستثناء أي في صورة توفّر لوصية صاحب الثروة (المورّث) وإلا تركت الشريعة وتم العمل بما يخالفها.
فهل نجحت هذه المبادرة التراجعية، التي انطوت على مناورة جديدة من لدن رئيس الجمهورية، في قراءة الدستور قراءة شاملة متماسكة؟ للأسف قد فشلت المبادرة الرئاسية في قراءة الدستور في شموله إذ فصلت بالكامل بين الفصل الأول والفصل الثاني من الدستور فأفرغت الأول من أي مضمون تشريعي وهمشته بالكامل لحساب الفصل الثاني بما جعل الفصل الأول دينيا مفرغا من كل محتوى تشريعي ومعه التوطئة وانبثاثات الدين في أنحاء الدستور . كما جعلت المدني(الفصل الثاني) علمانيا مفرغا من كل محتوى ديني.
كلّ هذا فجّرته مبادرة الرئيس في خطابه الأخير بينما طالما تحدّث الباجي قائد السبسي عن مفهوم دولة مدنية لمجتمع مسلم، وهي صياغة مناسبة لولا إنها ظهرت في خطابه مفرغة من المعنى التشريعي، ليغدو وجودها وعدمه في قراءة الرئيس للدستور بلا معنى في حين أن الإسلام وما في معانيه من هوية وقيم قد تكرّر في ثنايا الدستور مرّات كثيرة بما يؤكد وزنه التشريعي في كل المجالات ومنها التشريع التربوي في الفصل 39 وفي غيرها وبالخصوص في المقدمة.
في الخلاصة ظهر الخطاب في الجملة مهتزّا محاولا التوحيد فنجح في التفريق وليس في الجمع. غازل النهضة لاستدراجها للتصويت لمبادرته، ولكنه غازلها بما ترك وليس بما أخذ. وما أخذ يمثل خرقا في جدار الإسلام أي بالإتيان على ما استبقاه السبع من الشريعة بلا سابق في التاريخ ولا مشابه في الحاضر، وبلا عمق نظري ولا رشد سياسي. فقد مهّد لصراع جديد سيترتّب عنه أن يكون المدني مناقضا للديني وسلطة الشعب في مواجهة سلطة الدين وسلطة الله.
هو قاموس مغترب بالكامل عما أنجزته الحركة الإصلاحية منذ أكثر من قرن في مشروع إحيائي رهانه الجمع بين مفاهيم الحداثة ومفاهيم الإسلام. لقد قفز خطاب الرئيس بمبادرته الهجينة فوق كل المنجز الإسلامي وزج بِالبلاد مجددا في صراع الهوية الذي حسبنا أنّه ولى وانتهى ليثبت الباجي قائد السبسي عكس ذلك بالرغم من كل كلمات المجاملة والتزويق حول مساواة منفصلة عن العدالة.
مجدّدا فشل خطاب "رئيس كلّ التونسيين" في إقناع عموم التونسيين بأن الدولة التي تراد لهم، منهم وتشبههم. ونجح في مزيد تعميق معاناة الشعب الذي تاق إلى حرّيات تمثّله عبر ابتداع حريات تقوّض وحدته وتؤرّقه.
الأمر في أمس الحاجة إلى الكثير من الصبر والمثابرة لمعالجة هذا المشكل الجديد الذي ألقى به رئيس الجمهورية إلى المجتمع وإلى مجلس نواب الشعب فليس من الهيّن حقّا معالجة هذا الخرق الواضح للدستور وهذا التصادم التدميري مع روح الإسلام المبثوثة في ثنايا الدستور وفي حياة الأغلبية الساحقة للتونسيين.
إعلامي تونسي


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.