جدل صاخب في تونس لمدّة نحو شهر بشأن تقرير أعدّته لجنة الحريات الفرديّة والمساواة التي شكّلها رئيس الجمهورية الباجي قائد السبسي قبل سنة، جدل لامس المضمون وحتّى الأشخاص الذين ينتمون إلى لجنة رافقها الجدل منذ الإعلان عن تركيبتها في البداية ثمّ الإعلان عنها ك"لجنة سياسية" في الرائد الرسمي للجمهورية التونسيّة وصولا إلى تقريرها الختامي الذي تضمّن توصيات كثيرة. مسيرة شعبيّة حاشدة أمام مجلس نواب الشعب وأخرى على نقيضها في قلب شارع الحبيب بورقيبة بالعاصمة ترفض الأولى مضامين التقرير وتساندها الثانية، جدل حدّ التناقض حذّر كثيرون من إحتمال أن يكون مقدّمات كافية بعودة الإستقطاب الثنائي الذي شهدته البلاد سنة2013 قبل أشهر من إنتخابات تشريعية ورئاسية في سنة 2019 القادمة غير أن كلمة رئيس الجمهورية الباجي قائد السبسي بمناسبة عيد المرأة وضعت كثيرا من النقاط على الحروف في خصوصه. تناول كثيرون خطاب رئيس الجمهورية في ظاهره وعملوا جاهدين على تحويله إلى هجوم يستهدف حركة النهضة قبل أن تتدخّل رئاسة الجمهورية نفسها على لسان الناطق الرسمي باسمها لتدحض ما روّج عن تشكيك الرئيس في مدنيّة حركة النهضة،غير أن الثابت بالبند العريض أن مضمون الكلمة التي ألقاها السبسي في إحتفال القصر بعيد المرأة وبحضور أعضاء اللجنة المذكورة قد حدّد مراجع النظر الثلاث متمثّلة في الدستور والبرلمان والشعب. رئيس الجمهورية الباجي قائد السبسي أكّد بوضوح أنه الساهر على حماية الدستور وأنّه لا يعمل على خرقه مشيرا إلى أن كلّ المقترحات التشريعية تمرّ وجوبا بالسلطة التشريعية المنتخبة من الشعب وبأنّ مواضيع خلافية كثيرة يحسمها الشعب نفسه بنفسه أو عبر ممثليه المنتخبين معلنا عن مبادرة تشريعية ستوجه إلى مجلس الشعب تتعلّق بالمساواة في الإرث. موقف رئيس الجمهوريّة بدا واضحا أنه محاولة لمسك العصا من المنتصف فهو لم يساند التقرير ولم يرفضه بل طالب باللجوء إلى المؤسسات والشعب ليكونوا حكما بعيدا عن المباراة بالشارع كما حدث في الأيام الأخيرة بين شقين يراوحان ما بين الرفض التام والإسناد التام لمضامين تقرير لجنة الحريات الفرديّة والمساواة. خطاب رئيس الجمهورية في عيد المرأة الذي تضمّن موقفه من تقرير ما بات يعرف ب"لجنة بشرى" إستحضر نفس الموقف الذي تبنّته حركة النهضة من التقرير والقاضي بترك المسائل الخلافية الكبرى للمجتمع وممثليه المنتخبين مع التشديد على ضرورة تمكين المرأة من المناصب القيادية وخاصة على تثبيت الحرية عموما كما ينص على ذلك دستور الثورة الأكثر ديمقراطية في الوطن العربي. رغم أن الحبيب بورقيبة وحتى المخلوع زين العابدين بن علي لم يجرؤا على فرض بعض "الأخلاق الخصوصية" على المجتمع إلاّ أن فئة واسعة من النخبة تعمل ضمن ذلك المضمار وقد باتت اليوم معزولة لا فقط مجتمعيا بل وسياسيا بعد خطاب رئيس الجمهوريّة أمّا حركة النهضة فيحسب لها بوضوح أن رئيس الجمهورية قد إنحاز إلى موقفها للمرّة الثانية هذه الصائفة بعد أن خيّر سابقا نفس الموقف من مسألة منح الثقة لوزير الداخلية والحفاظ على الإستقرار. بشكل من الأشكال وبطريقته الخاصة إختار رئيس الجمهورية أن يحافظ على شعبيته بعدم إنسياقه تماما وراء دعوات إقرار توصيات لجنة الحريات الفردية والمساواة بشكل تعسّفي مثلما دعت رئيسة اللجنة التي رفضت تمرير التوصيات إلى الإستفتاء بحجّة أن "الشعب غير واع"، وإنتصرت حركة النهضة أيضا بعد أن تشبّثت بالموقف المسؤول أمام الرأي العام دون الإنجرار وراء ردّ الفعل خاصّة في قضايا بات الشعب فيها صاحب القول الفصل بشكل مباشر أو عبر ممثليه المنتخبين. صحيح أن رئيس الجمهوريّة قد كرّم أعضاء لجنة الحريات الفردية والمساواة بوسام الإستحقاق ولكنّه إنحاز للشعب هذه المرّة باعتباره قد إمتلك حقّ تقرير مصيره بصريح النص الدستوري تماما كما إنحازت حركة النهضة إلى نفس الموضع من التقرير الذي أثار جدلا واسعا وصل حدّ الإنقسام والحديث عن عودة الإستقطاب الثنائي.