نزار بولحية القدس العربي كثيرا ما يقول خصوم حركة النهضة عنها إنها كانت وما زالت تفضل الحكم من وراء الستار، وإن الوضع الذي تطمئن له أكثر من غيره وتجده لائقا بها هو أن تضع رجلا في السلطة وأخرى في المعارضة. وكثيرا ما يردد هؤلاء أيضا أن الحركة لم تعد تميل بعد أن أخذت الدرس واستخلصت العبرة من تجربة الترويكا في السنوات التي تلت هروب الرئيس الراحل المخلوع بن علي إلى المخاطرة بالبروز من جديد في الصورة والظهور بمظهر من يمسك بدفة القيادة أو حتى بالنزول بثقل وراء الحكومات التي تكون شريكة فيها، لعلمها بصعوبة وحساسية الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية التي تمر بها تونس وخشيتها من أن تدفع وحدها بالنهاية ثمن أي هزات أو انتفاضات أو ردات فعل شعبية قد تحصل جراء قرارات وسياسات تلك الحكومات، ولرغبتها أيضا في أن تترك هامشا أو نافذة قد تتيح لها في وقت ما فرصة التخلي أو التنصل من الخيارات التي وضعتها أو ساهمت في وضعها. لكن الحركة ظلت تنفي دائما وأبدا ما تعتبره محض مغالطات وافتراءات وتحامل عليها وتقول بالمقابل إنها وبقدر ما لا تفضل اللعب على حبلين فإنها تعتبر نفسها حزبا للحكم لا يتهرب أبدا من تحمل أعباء المسؤولية لكن على قدر ما يمنحه الناخبون له من أصوات. ولعل ذلك هو مربط الفرس والجزء الظاهر من مصدر اللبس في فهم دور الحركة وموقعها في الساحة السياسية المحلية. فالتشريع الانتخابي التونسي فصل بشكل لا يسمح لأي حزب بالحصول على الأغلبية المطلقة التي تخوله تشكيل الحكومة منفردا. وهذا ما يجعل الحاجة لعقد التحالفات والتوافقات أمرا ضروريا لا مهرب منه. ولأنها تصدرت نتائج تشريعيات العام الماضي، فقد كانت النهضة هي المطالبة قبل غيرها بالبحث عن شركاء. ولم يكن العثور على هؤلاء بالأمر الهين. ولحسابات أو لتقديرات أو حتى لتوجهات معينة، فقد سقطت أو أسقطت تلك الحكومة التي رشحتها الحركة وقيل وقتها إن الترتيب النهضوي لذلك لم يكن جادا أو قويا بما يكفي لتمريرها في جلسة منح الثقة البرلمانية، ووجدت بعض القيادات النهضوية أن رفع السقف عاليا سيكون مفيدا فأعلنت حينها أنها لا تمانع في الدعوة لإعادة الانتخابات إن لزم الأمر وأن يتم الاحتكام مجددا للصناديق إن وصل مسار تشكيل الحكومة لطريق مسدود. ثم لم يعرف بعد كيف وقع اختيار الرئيس قيس سعيد بحكم ما خوله الدستور له عند فشل المحاولة الأولى لعرض حكومة على البرلمان على إلياس الفخفاخ ليكون مرشحا جديدا لتشكيلها. ولكن ذلك ألقى بظلال كثيفة داخل الحركة نفسها. ولم يكن الاختيار وحده هو سبب قلقها وريبتها بل كان كل المسار الذي انتهجته طوال الانتخابات موضع تساؤل وربما حتى تشكيك في الجدوى منه أو محصلته النهائية. لقد عاد البعض ليشير إلى التسرع وسوء التقدير الذي رافق عملية اختيار الشيخ مورو مرشحا للانتخابات الرئاسية وللجدل الصاخب الذي أثارته عملية اختيار القوائم التشريعية، ثم لحرص رئيس الحركة الشيخ الغنوشي على رئاسة البرلمان والمغزى من وراء ذلك. ولم يتصدع جراء كل ذلك البيت النهضوي أو تظهر فيه تشققات بارزة أو تغمره موجة استقالات كبرى. غير أن إعلان أسماء وازنة ومعروفة مثل القيادي المخضرم عبد الحميد الجلاصي وأمين عام الحركة الشاب زياد العذاري في أوقات مختلفة عن الانسحاب من موقعيهما كان مؤشرا قويا على أن هناك حالة من القلق لم يعد ممكنا تجاهلها وأن مياها كثيرة باتت تسري في البيت. ولكن هل كان بإمكان النهضويين أن يفعلوا شيئا آخر غير ما فعلوه منذ فوزهم بتشريعيات العام الماضي؟ وهل كان في مقدورهم أن ينتهجوا خيارات غير التي انتهجوها؟ وحده التاريخ قد يحسم في ذلك. لكن السؤال الآن هو كيف يلوح مستقبلهم؟ ليست التحديات التي تواجههم بالهينة أو بالبسيطة. وهي وعلى قدر تعقدها وتشعبها تبدو متعددة الأوجه والأبعاد. لكن هناك جملة من العوامل قد تتحكم وتحدد وإلى حد كبير قدرتهم على النجاح في كسبها أو قد تجعل حظوظهم في ذلك وعلى العكس ضعيفة ومحدودة. وقد تتلخص بالأساس في عاملين اثنين: أولهما هي حجم الضغوط الاقتصادية والاجتماعية الرهيبة التي سيواجهونها مثلما سيواجهها أي حزب قد يجد نفسه اليوم في موقع الحكم في تونس. فهل يمكن للتونسيين أن يصبروا على الحركة وأن يتفهموا الصعوبات الجمة التي يعانيها اقتصادهم خصوصا بعد أن جعلت تداعيات جائحة كورونا كثيرين يتوقعون أن ينزل معدل النمو هذا العام بست درجات تحت الصفر؟ وهل سيكونون مستعدين بالفعل لإعطائهم فرصة أخرى لإنجاح ما وصفها رئيس الحكومة خطة إنقاذ اقتصادية؟ أما العامل الثاني الذي قد يكون حاسما ومحددا أيضا فهو مدى تفهم القوى الإقليمية والدولية لدور النهضة وموقعها وقابلية تلك القوى واستعدادها للعمل معها. فهل أنها ستكون قادرة وهي التي تملك كثيرا من أدوات الضغط المالية والسياسية على أن تمنح التجربة التونسية فرص النجاح، وهل ستكون على استعداد أيضا لأن تسمح من وراء ذلك للإسلاميين بأن يقدموا نموذجا ناصعا ومشرفا في الحكم وإدارة الدولة قد يتردد صداه في المنطقة ويكون محل محاكاة وتقليد في دول عربية أخرى؟ أن التقاء جملة من الاكراهات والمؤثرات الداخلية والخارجية واضطراب المشهد السياسي المحلي وضبابية أفقه، مع كل ما يحصل الآن من تحضيرات وترتيبات داخل الحركة للمرحلة المقبلة، قد يعطي صورة عن مقدار الخيارات الصعبة وربما الأليمة التي قد يقدم عليها أكبر الأحزاب والكتل البرلمانية في تونس. ففيما لم يحدد بعد موعد للمؤتمر المقبل للحزب والذي من المفترض أن يتم في غضون العام الجاري ليس معروفا بعد ما إذا كان الشيخ راشد الغنوشي سيبقى مجددا على رأس النهضة أم أنه سيترك مكانه لشخصية أخرى التزاما بما ينص عليه قانونها الأساسي من استحالة ترؤس أي شخص لها لأكثر من دورتين انتخابيتين. وتكمن أهمية مثل ذلك القرار في انه سيكون معيارا لقياس درجة التغييرات المقبلة التي قد تطرأ لا فقط على ما يخص مسألة تجديد وتشبيب القيادات بل أيضا على خط الحزب وتوجهاته في تكريس نفسه كحزب حاكم. ولعل مثل ذلك الوضع قد يؤثر في حال حسمت الأمور نحو تفرغ الشيخ الغنوشي لرئاسة البرلمان على موقع النهضة داخل المجلس النيابي بشكل يسحب من خصومها ورقة ضغط لطالما استخدموها كلما تعلق الأمر بازدواجية موقع الغنوشي كزعيم ورئيس للحركة ثم رئيس في الوقت نفسه لمجلس النواب، ويقدم النهضة كحركة تؤمن بفصل السلطات والأدوار والغنوشي كرجل دولة ديمقراطي يحترم قرارات ولوائح حزبه ويلتزم بها. والمؤكد أن أي قرار سيأخذه مجلس شورى الحركة في هذا الاتجاه أو ذاك سيكون مفصليا وستتكون له تداعيات وتبعات فورية لا على الداخل النهضوي فحسب بل حتى على المستوى السياسي المحلي في تونس. لكن الوجه الآخر للصورة والمسألة العاجلة التي يتعين على النهضويين حسمها بسرعة وبوضوح هي تحديد علاقتهم بالرئيس سعيد وبحكومة الفخفاخ. فلم يعد خافيا على أحد أن هناك نوعا من البرود والجفاء حتى لا نقول القطيعة غير المعلنة بين الرئاسات الثلاث، وان التيار لا يمر بينهم بالقوة المطلوبة. وجوهر المشكل هو في مسألة تقاسم الأدوار بينهم وفي رغبة قيس سعيد تغيير النظام السياسي بشكل يعطيه صلاحيات أكبر ويجعل تونس بعيدة عن النظام شبه البرلماني الذي تفضله النهضة وفي حرص الأخيرة على أن لا يتقرر شيء من دونها وأن تكون شريكة فعلية في صنع القرارات والسياسات وفي خشيتها كذلك من أي عملية قد تهدف لاستبعادها بشكل ما من السلطة. ولعل العنوان الأبرز لكل ذلك هو فقدان الثقة التامة بين مكونات الائتلاف الحكومي وضعف أو حتى غياب شروط التضامن والتآزر بين أعضائه لدرجة عجزهم أكثر من مرة عن إمضاء وثيقة رمزية بهذا المعنى واختلافهم حول تفاصيلها وبنودها. ويتضح المظهر الأكبر للاختلاف في رغبة النهضة توسيع الحزام السياسي بتشريك حزب قلب تونس وأحزاب أخرى في الائتلاف الحكومي مقابل رفض أحزاب داخل الحكم كحركة الشعب وقيس سعيد، وهو من يصفه البعض بالرجل الخفي للحكومة لذلك بدعوى انه قد "يفكك الحكومة" الحالية مثلما جاء في حواره الأخير مع قناة تلفزيونية فرنسية. ولعل جلسة الخميس الماضي لمساءلة حكومة الفخفاخ تحت قبة البرلمان كانت جس نبض أولي وبروفة للتحركات والخطوات المقبلة التي ستقدم عليها حركة النهضة في علاقتها لا بالحكومة فحسب بل حتى بالرئيس سعيد نفسه. ولا شك أن الضغوط الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي ستتعرض لها ستعجل باقتراب وقت الخيارات الصعبة بالنسبة لها وستجعلها على يقين تام من انه لم يعد هناك من مبرر لتأجيلها. أما كيف ستكون تلك الخيارات؟ فمن الواضح أنها وبغض النظر عن طبيعتها ستجعل كثيرا من خصومها يراجعون وفي كل الأحوال انطباعهم بانها لا تزال تفضل اللعب على حبلين، ووضع رجل في الحكم وأخرى في المعارضة ويعتبرونه لاغيا ومنتهيا.