الطاهر العبيدي وقف أمامي وقد سدّ الطريق الذي أنوي المرور منه. رفعت عينيّ كي استوضح الأمر؟ فكنت وجها لوجه معه ومع ضحكته، فهو المبتسم دوما، والذي طيلة معرفتي به لم أره يوما عابسا أو غاضبا..إنه "عمر ڤرايدي"، الذي اعتقل وسجن في كل العهود، ابن مدينة " قلعة سنان"، التابعة لمحافظة "الكاف" مدينة الأهل والأجداد. سألني ماذا تفعل هنا في الجزائر؟ قلت له " نَتْخُوُسفْ "، بمعنى " أَكِيلْ في الطرقات لا شُغْلْ وَلاَ مَشْغَلَةْ ". بعد سقوط حلم الدولة الوطنية الموعودة. فانفجر ضاحكا وقد التقط نقدي الإيحائي، وبقي إلى الآن يردّدها كلما سنحت الفرصة وتقابلنا عبر الهاتف. كان "عمر ڤرايدي" من الأوائل الذين فرّوا إلى الجزائر، إثر الهجمة الشرسة على المعارضين من قبل نظام الوشاية والربو، المُتَفَقِّهِ في القمع والظلم..حيث استطاع أن يَنْجُوَ من قبضة البوليس التونسي، حين داهم بيت أهله وكان موجودا، فاستعمل مهارته في رياضة "الكاراتيه". ليطرح أحد الأعوان على الأرض، عبر صفعة نارية كأنها لسعة جن، كما تناقلتها روايات البعض. التقيته في هذا اليوم بمعية أحد معارفه مزدوج الجنسية، تونسي جزائري يدرس في سوريا. تكرّرت بيننا بعض اللقاءات نتبادل فيها أخبار وأحوال البلد.. فاقترح عليّ أن أسافر لسوريا ربما أتمكن من الحصول على الإقامة هناك، كي أضمن بعض الاستقرار في انتظار تحسّن الأوضاع في البلاد ... لا أحب الرحيل ولا الهجر وحين كنت ابحث عن بعض استقرار، استحسنت الاقتراح لعله يقع انفراجا في البلد، وأعود من حيث أتيت. فلم أكن أبدا راغبا في الغربة ولا اللجوء السياسي ولا الهجر. كما أني أردت أن أمتحن جواز سفري المتصابي عبر الجو، وأختبر صموده في المطارات، أمام أجهزة المراقبة واحمرار عيون الأمن، بعدما سترني ولم يفضحني عبر حدود البر. الجزائر وطن من لا ملجأ له تجهزّت للسفر إلى العاصمة دمشق، رفقة هذا الشخص، لتكون وجهتنا مطار هواري بومدين بالجزائر العاصمة، والذي تعرّض لهجوم مسلح، قبل وصولنا بأسبوع، خلّف أضرارا مادية وبشرية، وأشيع أن تونسيين من بين من فجّر المطار، وأظنها إشاعة لمزيد من توتير الأوضاع.. طيلة الطريق الطويلة كنت مشتتا بين هنا وهناك مسافرا في تجاعيد الوجع والفراق، موزعا بين الوجيعة والألم، متناثرا بين الأمس واليوم..كلما اقتربت بي مسافة الزمن نحو الرحيل والسفر، أحس نفسي مفارق مرتين، ومذبوح الوجدان والقلب، ودمائي موزعة بين بلدين.. فقد كانت الجزائر تشبه بلدي وملجأ لمن لا ملجأ له. لقد كانت الجزائر لمن كان مثلنا الملاذ والدفء..أناسها طيبون ومحافظون على أخلاقيات الثورة. فالوشاية عندهم تكاد تعتبر من الكبائر والجرم. وهي بلد بقيت رغم تعاقب الزمن، وفيّة لشموخ الثورة وعدم طأطأة الرأس، ومتعوّدة على استقبال اللاجئين دون نكد.. طردوني من المحل بتنا ليلتنا في العاصمة الجزائية. حيث كان موعد طائرتنا في مساء اليوم الثاني. نزلت أتجول قليلا في العاصمة. جلبت انتباهي واجهة لملابس الرجال بجميع الأنواع، فاخترت حذاء وطلبت من البائع أن يأتيني برقم 42، فلما لبسته بدا لي ضيّقا، فطلبت منه بكل أدب أن يغيّر المقاس ليكون 43 . فغضب وقال لي "بطلت منيش بايع روح الله يسهل عليك". ضحكت كثيرا من الرد، حيث تلك عقلية الجزائري التي تعودنا عليها سريعي الاشتعال والغضب، ولكن في دواخلهم طيبون وكرماء، ومتضامنون مع من كان في وضعيتنا دون خوف ولا حرج.. ليلة شديدة التوتر كانت تلك الليلة بالجزائر متوترة جدا. حيث طيلة الليل نسمع منبهات سيارات البوليس، وصرير شاحنات الحماية المدنية، وأزيز سيارات الإسعاف.. والجيش يجوب الشوارع وحالة طوارئ قصوى، حتى أحسست أن الكل يبحث عني لاعتقالي وتسليمي لتونس حيث التحقيق والتعذيب والاعتقال.. توجّهنا للمطار. كان الجو مشحونا يخيم عليه شبح الحرب والخوف والترقب والانتظار. وجدنا صفوفا متراصّة قبل الدخول للمطار، تحت مراقبة أمنية مشدّدة. كنت في الصف وراء مرافقي, وبعد طول انتظار وتفتيش دقيق للمسافرين والحقائب، وصلنا لشبّاك أمن، قدّم مرافقي جوازه قبلي، فطبع له العون طابع الخروج والمغادرة دون أيّ إشكال.. تحت الأضواء الكاشفة جاء دوري قدمت جوازي من الشباّك للعون، الذي أطال تفحصّه لوثيقتي بكثير من التركيز والانتباه . وبعدها تناول مصباحا كهربائيا موصولا بمنظار، يسلط ضوء كاشفا، يجعل أمعاء جوازي مكشوفة للعيان. وبدأ يدقّق في كل ورقة بتأنّ وانتباه، حتى بان لي من بعيد الجرح الغائر في هذا الجواز، وأنا متسلحا بالآية الكريمة من سورة "يس" أقرأها في سرّي "وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ"، أردّدها في داخلي وأكرّرها بلا انقطاع.. معلقا بين الفشل والعبور وبعد التثبت والوقت الطويل، الذي جعل الصفوف ورائي تعبّر عن التململ والقلق، عبر التأوّه والنفخ. وبعد الانتظار الثقيل على من ابتلي مثلي، ووقع في مثل هذا الوضع، وبقي معلقا بين الفشل ورائحة العبور، طبع جوازي وتنفست الأمل. انزاحت الغمة والتحقت برفيق الرحلة، الذي كان شاهد عيان لكل ما جرى على عين المكان، قال لي لقد أصابني في مكانك الذعر والزلزال.. دون كل الركاب كنت محل شبهة اتهام عاد لي الكثير من الراحة والاطمئنان. فقد انتهت كل إجراءات البوليس والجمارك، ومرّ التفتيش والتحرّي بسلام. خبأت جوازي فقد تجاوزت به رغم عطبه المكشوف كل العراقيل والمحن. ودائما مرافقي أمامي تحسّبا لأيّ إشكال أو طارئ. بدأ في صعود الطائرة وأنا ورائه، وضعت رجلي على مدرج سلّم الطائرة وإذا بيد تضربي على كتفي من الخلف، التفت فإذا به ضابطا من المخابرات العسكرية التابعة للمطار.. يطلب مني الاستظهار بالجواز دون كل الركاب.. فعادة انتهى دور الجواز..فقط يقع الاستظهار بتذكرة الطائرة للإقلاع.. إعادة البحث والتفتيش ناولته الجواز، وبدأ يورّقه وينظر في وجهي لعله يلتقط مني بعض الارتباك، أو الذعر أو الخوف والاضطراب..وأنا هادئا فقد أنزل الله عليّ سكينة واطمئنان..وبدأت أمامه عاديا دون خوف ولا اضطراب..واستمر يتفحّص وجهي حوالي ربع ساعة، وأنا واقفا أمامه بكثير من الثقة في النفس وفي جوازي المقدام..ولأعوان المخابرات العسكرية في الجزائر وعند الشعب حظوة كبيرة، ومحل تقدير وتهيّب واحترام، لأن أغلبهم تدرّب في "كي جي بي" مخابرات الاتحاد السوفيتي، ويعتبرون صفوة الصّفوة، من حيث التدريب والقوة والالتزام.. تواصل البحث في وجهي بكثير من الغضب والانفعال.. وحين لم يبد عليّ أيّ خوف أو ارتباك أعاد لي الجواز، ولحقت الطائرة حيث بقيت آخر المسافرين وآخر الركّاب، لتغلق بعدها الأبواب، وتطير بنا باتجاه دمشق، لتتواصل بعض تفاصيل المنفى المؤثثة بالإقدام والجرأة على واقع الضباب، وعدم الرسوب والركود في نفس المكان..