منذ أيام قليلة سألني أحد الأصدقاء : لماذا لم تكتب عن ظاهرة العنف المستمرة و المتفاقمة و المستفحلة في ملاعبنا و قاعاتنا الرياضية بشكل كبير و خطير جدا و قد رأينا آثارها في الأيام الأخيرة ؟؟!! اكتب ... بقدر ما تكتبون في الصحافة فإن ذلك لا يكفي لأننا وصلنا إلى مرحلة خطرة جدا لا ينبغي لنا أن نسكت عنها ، إننا اليوم بتنا نعيش في جاهلية جديدة بأتم معنى الكلمة ، جاهلية في أسوأ مظاهرها ... إن كلام صديقي هذا يعد مثالا بسيطا لما يقال ويعدّ قليلا من كثير مما يردده الناس المتابعون لشأن كرة القدم خاصة و الرياضة عامة في بلادنا ... الحق أني لم أعد أتابع كذي قبل مباريات كرة القدم في تونس و لم أعد أتابع كذي قبل البرامج الرياضية على فضائياتنا و لم أعد أقرأ كذي قبل الملاحق الرياضية في صحافتنا لأن كرتنا بصراحة لم تعد تغري بمتابعتها سواء من حيث مستواها و نتائجها أو من حيث الأجواء المتعفنة التي تجري فيها المباريات .... منذ مباراة الإياب في إطار تصفيات كأس العالم بين المنتخب الموزمبيقي و منتخبنا التونسي ( هذه المباراة الكارثة اغتيلت فيها أحلامنا ) فقدت أي نكهة أو رغبة في متابعة مباراة من البطولة المحلية ، منذ ذلك اليوم لم أقدر على متابعة مباراة كاملة في البطولة أو في الكأس ليقيني أن كرتنا ساءت إلى أبعد الحدود و دخلت في أزمة عميقة جدا و عاصفة للغاية و افتقدت إلى مرتكزاتها و ثوابتها و ليس فيها ما يشجع على متابعتها و يغري بها ، و كل يوم تتأزم أوضاع الكرة في تونس ، و كل يوم تتعفن أجواؤها ، و كل يوم نشاهد " مشطرة " جديدة من الخور و " الخنار " المبالغ فيهما ، أما الكرة ، أما المتعة بها فربي ينوب بهما .... و إن ما يقع من عنف شديد و متزايد في ملاعبنا و ما يحدث من فوضى عارمة فيها هو نتيجة آلية و طبيعية و حتمية للوضع الذي تعيشه كرة القدم في تونس ، هناك مجهودات جبارة و ضخمة في بلادنا لتحقيق ازدهار الرياضة عامة و كرة القدم خاصة ، و لكن تلك المجهودات تقابلها عقلية متخلفة جدا نجدها لدى نسبة هامة من الجماهير المتابعة للشأن الرياضي ، و هي عقلية تهدم كل ما يبنى و تقضي على كل المكاسب و تغيّب عن الرياضة مع سبق الإضمار و الترصد أهدافها السامية و تجعل من قيمة " الروح الرياضية" شعارا زائفا أجوف خاليا من كل المعاني و هو أشبه بصك دون رصيد ، تلك العقلية التي تحكم رواد الملاعب و القاعات الرياضية هي عقلية تقدس النتائج و لا تؤمن إلا بها ، هي عقلية تجعل من النتائج المحققة في المباريات الرياضية الفيصل في كل شيء و الهدف الأوحد لا قبله و لا بعده ... و من تلك العقلية تولد و يتولد العنف في ملاعبنا و قاعاتنا الرياضية ، بسبب تلك العقلية نشأت لدينا الجاهلية الجديدة و اكتوينا و نكتوي بنارها التي أتت على الأخضر واليابس... ننتصر فنعبر عن فرحة الانتصار بالعنف اللفظي و المادي ... ننهزم فنعبر عن حزن الانكسار بالعنف اللفظي و المادي ... نحتج على الحكام و الجامعة فنبادر إلى العنف اللفظي و المادي... دائما في الفرحة كما في الحزن يسب بعضنا بعضا و يشتم بعضنا بعضا و يهين بعضنا بعضا و نشعل الشماريخ و نرمي بها في كل الاتجاهات و نلقي بالقوارير و اللمجات والولاعات والقطع النقدية المعدنية و المفاتيح ونقتلع الكراسي التي كنا نجلس عليها و نحطم و نكسر و نهشم و نمزق و نسحق و نحرق كل ما يعترض سبيلنا ، أليست هذه الجاهلية الجديدة التي جاء بها هؤلاء الجاهليون الجدد ؟؟!! في مباراة الترجي الرياضي التونسي ضد النادي الرياضي بحمام الأنف وقعت أحداث عنف و شغب خطرة جدا ، و ثمة من استغل هذه المباراة ليتهجم على فريق الترجي و يحمله مسؤولية هذا العنف و كأن ما وقع أمر جديد على كرتنا و كأن ملاعبنا لم تعش في ما سبق أحداثا مثيلة لها و أخطر منها ... أنا هنا لا أدافع عن الترجي و إنما غايتي هي أن أبرز أن ما وقع في الملعب الأولمبي بالمنزه ليس معزولا عما تعيشه كرتنا من كوارث ، بل هو ليس إلا حلقة من سلسلة متواصلة منذ سنوات ... الجماهير التي مارست العنف ليلة مباراة المنزه ليست حكرا على الترجي و إنما نجدها و تسجل حضورها في كل الفرق في كل الرابطات والأقسام ، تلك الجماهير هي نفسها في الترجي النادي الإفريقي والنجم الساحلي و النادي الصفاقسي و الملعب التونسي و النادي البنزرتي و الاتحاد الرياضي المنستيري و شبيبة القيروان و مستقبل القصرين و قوافل قفصة و نادي حمام الأنف وغيرها من الفرق ... تلك الجماهير تحكمها ذات العقلية التي أشرنا إليها منذ قليل و هي تلك التي تقدس النتائج و تعبدها و تعتبرها المقياس الأول و الأخير في تقييم مردود الفرق ، و تلك الجماهير هي صورة مصغرة لميلنا جميعا إلى العنف في واقعنا : العنف اللفظي و العنف المادي في الشوارع و المحلات و الحافلات و المنازل و المدارس و الجامعات و ... و لذا حتى نحارب ظاهرة العنف في ملاعبنا و قاعاتنا الرياضية ينبغي لنا أن نحارب العقلية المولدة لتلك الظاهرة التي عادت بنا إلى عهد الجاهلية وأن نقضي عليها قضاء تاما و نهائيا، و لنقضي على تلك العقلية السيئة و نزيلها يجب أن نعتمد مبدأ الردع و لا شيء غير الردع . فإذا ما نظرنا إلى العقوبات المعتمدة لمواجهة العنف لألفيناها من وزن الريشة لا جدوى منها و لا فاعلية لها ، فالرابطة صارت كالمقاولة همها الوحيد جمع المال من الخطايا التي تعاقب بها الفرق من صنف 1500 أو 2000 دينار ، و إذا " حمرت " عينيها تعاقب في مرحلة أولى بالويكلو مع تأجيل التنفيذ و في مرحلة ثانية بالويكلو النافذ ، و كل هذه العقوبات لا تحرك شعرة واحدة للجاهليين الجدد الذين تمادوا في سلوكهم العنيف و لم يرتدعوا و لم يتأخروا قيد أنملة عما يريدون فعله أثناء المباريات ، بل صارت عقوبة الويكلو محبذة و محبوبة لدى الجماهير يسعون إليها مع سبق الإضمار و الترصد ... فمنذ أيام تداول عدد من أحباء النادي الإفريقي في ما بينهم إرسالية قصيرة تدعو إلى رمي الشماريخ في مقابلة الإفريقي ضد أمل حمام سوسة حتى تكون مباراة الدربي بين الإفريقي و الترجي ويكلو ، و ها أن بعض هؤلاء لم يصبروا حتى مباراة حمام سوسة ففعلوها في مباراة الدور نصف النهائي لكأس تونس ضد النادي الرياضي الصفاقسي و النتيجة إقرار الرابطة لعقوبة الويكلو في مباراة الدربي ، و قد بحث بعض أحباء الإفريقي عن عقوبة الويكلو حتى لا يعطوا الفرصة لفريق الترجي لأن يقيم الدورة الشرفية أمامهم بملعب رادس بمناسبة حصوله على لقب البطولة ( طبعا وضع أحباء الإفريقي في اعتبارهم أن الترجي سيحسم أمر البطولة في تلك المباراة أو في المباراة التي قبلها ) ، خاصة و أن فريق الترجي معاقب بالويكلو في ثلاث مباريات و ليس لديه إي إمكانية لإقامة الدور الشرفية أمام جماهيره إلا في مباراة الدربي ، هذا دون الحديث عن الخسائر الكبيرة جدا التي منيت بها هيئة الإفريقي بسبب هذا الويكلو و بسبب السلوك غير المسؤول الصادر عن بعض أحباء الفريق إذ كان من المنتظر أن توفر لها تلك المباراة عائدات ضخمة تقارب 700 ألف دينار خاصة و أن الفريق يعيش أزمة مالية خانقة ، و دون الحديث عن خسارة كرة القدم التونسية ، فكم لدينا من دربي في الموسم حتى تحرم الجماهير العاشقة لكرة القدم من مشاهدته بملعب رداس .... فلو كانت العقوبة المنتظرة أكبر من الويكلو فهل سيبادر بعض أحباء الإفريقي إلى رمي الشماريخ في مباراة الكأس ؟؟ فلو كانت العقوبة المنتظرة هي خصم النقاط أو الحرمان من المشاركة في الكأس في الموسم القادم فهل سيفكر بعض أحباء فريق باب الجديد مجرد التفكير في رمي الشماريخ و هم يعرفون أن نقاطا ستخصم من رصيد فريقهم الذي يلعب من أجل المرتبة الثانية المؤهلة للمشاركة في كأس رابطة الإبطال الإفريقية ؟؟!! لو كان بعض أحباء الترجي يعلمون أن نقاطا ستخصم من رصيد فريقهم الذي يلعب من أجل الحصول على اللقب فهل سيفعلون ما فعلوا تلك الليلة ؟؟!! إن المطلوب في مثل هذه الوضعيات هو الردع و لا شيء غير الردع ، و بما أن تلك الجماهير العنيفة التي أعادت إلينا الجاهلية لا تفهم إلا النتائج و لا تؤمن إلا بها فلنخاطبها بما تفهم ، و لنطبق مبدأ " قص الرأس تنشف العروق " و مبدأ " ما دواء الفم الأبخر إلا السواك الحار" ، السواك الحار في هذا السياق ما هو إلا الصرامة في العقوبات ، و نحن نعلم أن الفرق ترفض الصرامة في العقوبات مثل الخصم من رصيد النقاط ، و لذا فإن سلطة الإشراف إنقاذا للموقف و حماية لنا من عنف الجاهليين الجدد مطالبة بفرض جملة من القوانين الصارمة التي تحارب فعلا العنف بيد من حديد و التي ينبغي أن تزداد صرامة و حدة كلما ازداد العنف و قوي مثل الخصم من النقاط و مثل إنزال الفريق إلى القسم الأسفل مهما يكن اسم هذا الفريق و مثل تجريد الفائز من لقبه مهما يكن اسم هذا الفائز و مثل حرمان الفريق من المشاركة في مسابقة الكأس في موسم أو أكثر من موسم ، و لا ينبغي أن تنتظر سلطة الإشراف موافقة الأندية على مثل هذه الإجراءات و إنما يجب أن تعمل على إقرارها و فرضها مراعاة لمصلحة كرة القدم التونسية ، و عندها ستتحرك كل الأطراف للتصدي لظاهرة العنف ابتداء من الجماهير و مرورا بلجان الأحباء و وصولا إلى مسؤولي الفرق و لسان حالهم جميعا يردد : " صار اللعب بعشانا " و " صار الضرب في اللحمة الحية " ....!!!