محمد الحمّار خلقَ الله تعالى الطيور والعصافير، فاخترع الإنسان الطائرة محاكاة منه لشكل ونظام الإقلاع والطيران والتحليق والإرساء عند الطير والعصفور. خلقَ الله تعالى الحوت فاخترع الإنسان السفينة والغواصة محاكاة منه لنظام الطفو على سطح الماء والغوص والإبحار. لكنّ الإنسان اخترع أيضا الصندوق الأسود للطائرة. اخترع كذلك شريحة الهاتف الجوال. اخترع في السنوات الأخيرة البطاقة البيومترية. اخترع هذه الأشياء وغيرها من أجل إسداء خدمات وإن اختلفت عن بعضها بعضا إلا أنّ هذه الاختراعات كلها لا تشترك فيما بينها في صفة المحاكاة لنظام الاشتغال لكائن حي مثلما هو الشأن بنظام الطيران ونظام الغوص. إنها تشترك فيما بينها في جَمع البيانات عن الإنسان ثم تصنيفها وجَدوَلتها بصفة دقيقة جدا وفي الأخير حِفظها وخزنِها، سواء كان الإنسان من صنف المسافر (الصندوق الأسود) أو من صنف مستخدم ادوات التواصل (شريحة الهاتف) أو من صنف المواطن المنتمي إلى مجتمع منظم (البطاقة البيومترية). تشترك الاختراعات المنتمية إلى هذا الصنف الثاني في الاستخبار والاستعلام ثم حفظ وتخزين علامات عن حياة الإنسان بمختلف نشاطاته وميولاته وقراراته وتحركاته. فإن كان هذا الصنف الثاني من الاختراعات لا يرتكز على محاكاة الإنسان لنظام تتميز به مخلوقاته على غرار محاكاته للطير والحوت، مثلما قَدمنا آنفا، فَعلى ماذا يرتكز؟ ... بادئ ذي بدء، يعني هذا الصنف الثاني من الاختراعات أنّ الخالق، الله سبحانه وتعالى، قد زَوّد مخلوقه الإنسان بالقدرة على اختراع الوسائل التي تُمَكّن هذا المخلوق من الإلمام بتفاصيل حياته وأفكاره وأفعاله وسلوكياته نفسه بنفسه، والإلمام بجزئيات حياة أمثاله أيضا إلا أنّ غيابَ عاملِ المحاكاة يجعلنا نتطلع إلى أمرٍ فريد من نوعه. من أجل ذلك نعاين أنّ ما سبق يدل على أنّ الوسائل أو الاختراعات المذكورة ضمن الصنف الثاني إنما هي حجة دامغة على أنً الله جلّ وعلا قد زَود عقل الإنسان بالقدرة على حفظ تفاصيل وجزئيات حياته بشكل مشابه جدا لكيفية حفظ وتخزين الخالق البارئ لحسنات الإنسان وسيئاته في "الكتاب" وهي العبارة التي وردَت في الآية الكريمة "فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ...(الآية)"(الحاقة:19). ما دمنا قد أزَحنا عاملَ المحاكاة (وهل يمكن محاكاة الإله، معاذ الله!)، لم تَبق لنا سوى رصد الفائدة من وضعنا الإصبع على وجه الشبه بين "الكتاب" من جهة والبطاقات والشرائح الالكترونية المعلوماتية من جهة أخرى. الآن يحق التساؤل عما إذا كانت هنالك غاية ربانية من وراء كشف الله لآية "الكتاب"، كشفِها في أنفس مخترعي البطاقات الالكترونية وغيرها. للإجابة يمكن القول إنّه طالما استحال على المخلوق (الإنسان) محاكاةَ خالِقِه، قد يكون لذلك التشابهِ النادر واللافت بين الوسيلة الإلهية للحفظ والتخزين من جهة والاختراع الإنساني من جهة أخرى دلالة خاصة. فلئن كان "الكتاب" في سياق الآخرة يحتلّ مكانة تبلغ أقصى درجات "الاختراع"، أي درجة الخلق، فإنّ الله تعالى، بفضل منحِه الإنسانَ القدرةَ على اختراع الوسائل الكفيلة بجلب وتجميع وحفظ وتخزين بياناته، قد أعطى فرصة لهذا الإنسان بأن يقوم، في كل مرة يخترع فيها وسيلة جديدة، بمقارنةِ ما يخترِعه عقلُه وتصنَعُه يداه من جهة أولى وما خلَقه الخالق من الجهة الثانية، مع مراعاة الفارق بين الإعجاز الرباني والإعجاز الإنساني المُيسّر من لدُن الخالق البارئ. أما الفرصة الإلهية في حد ذاتها فقد نَوّه بها ربُّنا الكريم في كتابه العزيز حين قال "سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ " (فصلت: 53). بالتالي فإنّ الاختراعات الإلكترونية ذات الصبغة المعلوماتية وما شابهَها إنما هي من الآيات التي يُرينا إياها الخالق في أنفسنا. والآن ماذا عسى أن تكون الفائدة من وراء رصدِ المؤمن للفرصة الربانية؟ للإجابة يمكن القول إنه فضلاً عن وُجوب إقحام الفرصة ضمن جدول الآيات التي في الآفاق والأنفس حتى يزداد المؤمن وثوقا بأنّ الله حق وبأنّ القرآن حق، فضلا عن هذا أن يسعى العالِم المؤمن والخبير المؤمن والأخصائي المؤمن في مجال عمله، أن يسعَوا جميعُهم وبشكل واعٍ ومُقنَّن إلى رصد مثل هذه الفرص التي تُخفي وراءها آية من آيات الآفاق والأنفس. في سياق متّصل، لن أضيف شيئا مُهمّا إلى ما قاله وكَتبه علماء الدين عن كَون الإيمان إنما هو مقدمة للعلم وذلك ربما بقدر ما أنّ العلم إنما هو بدوره مقدمة للإيمان. كما أنني لن أضيف شيئا مُهمّا حين أقول إنّ مسألة التشابه بين "كتاب" الآخرة والاختراعات الإلكترونية المعلوماتية تندرج ضمن هذه العلاقة الجدلية بين العلم والإيمان. فقط أُضيف أنه ما من شك في أنّ رصد الفرص ومن ثَم كشف النقاب عن آية من آيات الآفاق والأنفس لا يمكن أن يَحصُل لدى العالِم والخبير والأخصائي دون حُصول الدّربة مُسبقا، الدربةُ على الترصد والرصد ومن ثَم الدربة على اكتشاف آية الآفاق والأنفس ثم استخراج الفوائد، الروحية منها (لِجهة الإيمان) والتطبيقية منها (لِجهة العلم). بقِيَ أن نستشرف مُخرجات الدّربة في إطار استثمار فرصةَ كشفِ الخالق للاختراعات التكنولوجية بوصفها آياتَه في الأنفس. في هذا الصدد، ما من شك في أنه إذا تمّ مستقبلا إتّباع المنهج التدريبي من طرف المؤمن في أفضل الظروف سوف يُمَكن المنهجُ من تطوير عمليات الفضول والملاحظة والمعاينة والافتراض والبحث والتمحيص والاختبار والاكتشاف والاختراع لديه. سيُمَكن جمهورَ تلاميذ المدارس وطلبة الجامعات، إلى جانب جمهور النخب، سيُمَكنهم من الارتقاء إلى مستويات أعلى من الإنجاز، بِرافدَيه الاثنين الرمزي والمادي لِما لهاذين الصنفين من الإنجاز من قوةٍ لدفعِ عَجلة التقدم العلمي والمادي بالتوازي مع الرقِي الأخلاقي والحضاري. تابعونا على ڤوڤل للأخبار