بعد أزمة الكلاسيكو.. هل سيتم جلب "عين الصقر" إلى الدوري الاسباني؟    آخر ملوك مصر يعود لقصره في الإسكندرية!    قرار جديد من القضاء بشأن بيكيه حول صفقة سعودية لاستضافة السوبر الإسباني    "انصار الله" يعلنون استهداف سفينة ومدمرة أمريكيتين وسفينة صهيونية    قيس سعيد يستقبل رئيس المجلس الوطني للجهات والأقاليم    قيس سعيد: الإخلاص للوطن ليس شعارا يُرفع والثورة ليست مجرّد ذكرى    ل 4 أشهر إضافية:تمديد الإيقاف التحفظي في حقّ وديع الجريء    جهّزوا مفاجآت للاحتلال: الفلسطينيون باقون في رفح    اتحاد الفلاحة ينفي ما يروج حول وصول اسعار الاضاحي الى الفي دينار    ماذا في لقاء رئيس الجمهورية بوزيرة الاقتصاد والتخطيط؟    أخبار النادي الصفاقسي .. الكوكي متفائل و10 لاعبين يتهدّدهم الابعاد    القبض على شخص يعمد الى نزع أدباشه والتجاهر بالفحش أمام أحد المبيتات الجامعية..    في معرض الكتاب .. «محمود الماطري رائد تونس الحديثة».. كتاب يكشف حقائق مغيبة من تاريخ الحركة الوطنية    تعزيز الشراكة مع النرويج    بداية من الغد: الخطوط التونسية تغير برنامج 16 رحلة من وإلى فرنسا    وفد من مجلس نواب الشعب يزور معرض تونس الدولي للكتاب    المرسى: القبض على مروج مخدرات بمحيط إحدى المدارس الإعدادية    منوبة: الاحتفاظ بأحد الأطراف الرئيسية الضالعة في أحداث الشغب بالمنيهلة والتضامن    دوري أبطال إفريقيا: الترجي في مواجهة لصنداونز الجنوب إفريقي ...التفاصيل    هذه كلفة إنجاز الربط الكهربائي مع إيطاليا    الليلة: طقس بارد مع تواصل الرياح القوية    انتخابات الجامعة: قبول قائمتي بن تقيّة والتلمساني ورفض قائمة جليّل    QNB تونس يحسّن مؤشرات آداءه خلال سنة 2023    اكتشاف آثار لأنفلونزا الطيور في حليب كامل الدسم بأمريكا    تسليم عقود تمويل المشاريع لفائدة 17 من الباعثين الشبان بالقيروان والمهدية    رئيس الحكومة يدعو الى متابعة نتائج مشاركة تونس في اجتماعات الربيع لسنة 2024    هذه الولاية الأمريكيّة تسمح للمعلمين بحمل الأسلحة!    الاغتصاب وتحويل وجهة فتاة من بين القضايا.. إيقاف شخص صادرة ضده أحكام بالسجن تفوق 21 سنة    فيديو صعود مواطنين للمترو عبر بلّور الباب المكسور: شركة نقل تونس توضّح    تراوحت بين 31 و26 ميلمتر : كميات هامة من الامطار خلال 24 ساعة الماضية    مركز النهوض بالصادرات ينظم بعثة أعمال إلى روسيا يومي 13 و14 جوان 2024    عاجل/ جيش الاحتلال يتأهّب لمهاجمة رفح قريبا    تونس: نحو إدراج تلاقيح جديدة    سيدي حسين: الاطاحة بمنحرف افتك دراجة نارية تحت التهديد    بنزرت: تفكيك شبكة مختصة في تنظيم عمليات الإبحار خلسة    هوليوود للفيلم العربي : ظافر العابدين يتحصل على جائزتيْن عن فيلمه '' إلى ابني''    ممثل تركي ينتقم : يشتري مدرسته و يهدمها لأنه تعرض للضرب داخل فصولها    باجة: وفاة كهل في حادث مرور    نابل: الكشف عن المتورطين في سرقة مؤسسة سياحية    اسناد امتياز استغلال المحروقات "سيدي الكيلاني" لفائدة المؤسسة التونسية للأنشطة البترولية    عاجل/ هجوم جديد للحوثيين في البحر الأحمر..    أنس جابر تواجه السلوفاكية أنا كارولينا...متى و أين ؟    كأس إيطاليا: يوفنتوس يتأهل إلى النهائي رغم خسارته امام لاتسيو    المنستير: افتتاح الدورة السادسة لمهرجان تونس التراث بالمبيت الجامعي الإمام المازري    نحو المزيد تفعيل المنظومة الذكية للتصرف الآلي في ميناء رادس    فاطمة المسدي: 'إزالة مخيّمات المهاجرين الأفارقة ليست حلًّا للمشكل الحقيقي'    تحذير صارم من واشنطن إلى 'تيك توك': طلاق مع بكين أو الحظر!    في أول مقابلة لها بعد تشخيص إصابتها به: سيلين ديون تتحدث عن مرضها    الناشرون يدعون إلى التمديد في فترة معرض الكتاب ويطالبون بتكثيف الحملات الدعائية لاستقطاب الزوار    وزارة المرأة تنظم ندوة علميّة حول دور الكتاب في فك العزلة عن المسن    دراسة تكشف عن خطر يسمم مدينة بيروت    ألفة يوسف : إن غدا لناظره قريب...والعدل أساس العمران...وقد خاب من حمل ظلما    أولا وأخيرا .. الله الله الله الله    فيروسات ، جوع وتصحّر .. كيف سنواجه بيئتنا «المريضة»؟    جندوبة: السيطرة على إصابات بمرض الجرب في صفوف تلاميذ    مصر: غرق حفيد داعية إسلامي مشهور في نهر النيل    بعد الجرائم المتكررة في حقه ...إذا سقطت هيبة المعلم، سقطت هيبة التعليم !    خالد الرجبي مؤسس tunisie booking في ذمة الله    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الجزء الثاني من كتاب:الإسلاميات اللغوية التطبيقية ( 2 2 ) محمد الحمّار
نشر في الفجر نيوز يوم 23 - 12 - 2012


50
إنّ هذا التطرفَ ذا الرأسين هو المرحلة الأخيرة والحاسمة، مرحلة
حصاد ما زُرع. وليس الدين مسؤولا عن رداءة الحصاد بقدر ما أنّ
المسؤول هو غياب التجديد الديني، وغياب الإصلاح اللغوي المفترض أن
يعاضده. وليست الحداثة أيضا مسؤولة عن فساد المحصول بقدر ما
يُعتبر غيابُ تأصيلها في العقل اللغوي وفي الثقافة الوجهَ الآخر للفريضة
الغائبة.
هكذا حدثَ الانتحار اللغوي، المُلازم للانفجار الديني. بينما في الأصل
يُراد من اللغة أن تكون السند الرئيس للتوازن الديني (والروحي) و
العقلي.أما الشرط في ذلك فهو حفاظ اللغة على استقلاليتها عن كل
إيديولوجيا. بينما الذي حدثَ، كما قدمنا أنفا، أن استأثرت إيديولوجيا
الاقتصاد (العولمة) باللغة. فاللغة بحدّ ذاتها إيديولوجيا، والذي حدث لمّا
احتوَتها إيديولوجيا غير لغوية أن انهارت اللغة نفسها. وانهارت معها
المنظومة التعبدية المترابطة بها عضويا، بالموازاة مع العقلانية. هكذا
خسر العرب لغتهم العربية وسائر اللغات التي أوهَموا أنفسهم بأنهم
يتعلمونها، وخسروا الأهلية للتعبير الإيجابي أي العقلاني عن الإسلام.
لهذه الأسباب أرى أنّ الحل اللغوي، مع أنه يبدو سحريا، فهو واقعيّ
وضامن للإصلاح، إن دينيا أم عقليا، لكنه باهض الثمن. وما على النخب
السياسية الجديدة، الحاكمة والموازية والمعارضة، في تونس وفي مصر
وفي كل بلد عربي متحرر من الاستبداد، إلا أن تدرج خطة لاسترداد ما
خسره الشعب من أموال طائلة، لكي تضخها أين كان ينبغي أن تُضخ
من الأول، ألا وهي التربية والتعليم عموما وتعليم اللغات على وجه
الخصوص، وبعنوان الطوارئ.
الأحرى في نهاية المطاف أن تتحلى النخب العلمية بعقيدة الانضباط
اللغوي كحصانة من كل تطرف وضمان للصرامة العقلية. والسبب أنّ
الشعب "يريد" طفرة لغوية كي يتخلص من اللغو المؤدي إلى التطرف
والهلاك، والمجتمع بحاجة إلى كتابة النص الإنساني المتدبر من
الإسلام.
*******
51
حتى يصير منهج الإسلام في وضع استخدام
لا المساجد و لا المدرسة و لا الإعلام يُرشدون الشعب المؤمن إلى
الطريق إلى الله. رغم ذلك ما انفك الأئمة والمشايخ يمسكون بالزمام
الدعوي دون سواهم. ومازالت المدرسة تبحث عن أفضل المناهج في
التربية الدينية. والإعلام بدوره ما انفك يهاجم السلفيين، مثلا، من دون
إتاحة الفرصة للفكر المضاد للعنف السلفي أن يدل الناس إلى الطريق
إلى الله، مما يجعله مورطا لو بصفة غير مباشرة في ما يحصل في
تونس الآن من فوضى فكرية وسياسية تارة باسم الدين وطورا باسم
السياسة. والطريق إلى الله باتت تستدعي منهاجا معاصرا، منهاجا
تحرريا يسند المنهج الإسلامي، من شأنه أن يساعد على فك
الاحتقان الذي تتسم به المحافظة والدعوة التقليدية للإسلام. وهذا ما
لم يستوعبه لا الدعاة ولا المربون ولا الإعلاميون، ناهيك عامة
المتدينين من رواد المساجد وسائر الغيورين على دين الله. وهذا ما لم
يستوعبه الإسلام السياسي، ب"نهضته وتحريره وسلفييه"، مما
جعلهم يخبطون خبط عشواء في وضعٍ من الفقر البرمجي مع إصرارهم
المرَضي على أن الإسلام يتضمن كل البرامج الضرورية والممكنة. ما
السبب في هذا إذن؟ وما الحل؟
أولا، يتمثل السبب في كون كل تلك الأطراف العاجزة إنما هي سلفية،
بالمعنى السالب للكلمة، أي محافظة وببغائية. إذ الفرق بين سلفيي
الدين (من أئمة ومأمومين وسياسيين) وسلفيي العلمانية (من
معلمين وإعلاميين وسياسيين) أنّ أولئك يتبعون السلف الصالح بوسائل
طالحة بينما هؤلاء يتبعون السلف الطالح (من مفكرين من الشرق كما
من مفكرين من الغرب) بوسائل صالحة، مما يوحد الفئتين حول الانتماء
إلى نوع من الوفاقية السلفية. لذا نرى أن لا أولئك ولا هؤلاء بقادرين
على إرشاد الناس إلى منوالٍ حديث يدعم كدحهم إلي ربهم كدحا.
ثانيا، إنّ قادة الرأي في تونس ومن بينهم المشايخ ومتفقدو (مفتشو)
التربية الدينية و مدراء الصحف والإذاعات والتلفزات (التلفزيونات) مازالوا
لا يفهمون أن التجديد الديني ضرورة ملحة وذلك منذ ثلاثين سنة على
الأقل. وهم يأخذون الأمر هزءا، حيث إنّ بالرغم من هذا الفقر المنهجي
لديهم، إلا أنك تراهم، كلما حلت كارثة بالبلاد مثل التي تحصل الآن،
52
معتدّين بالعلم المتوفر لديهم وبالمهارات التي يتملكونها، مغرورين
بإمكانياتهم في مجال إسقاط الأفكار على الواقع وحتى في مجال
تحليل الواقع، ولا يرون بُدّا من الانبراء للتنديد بالمظاهر من دون دراسة
الظواهر. إنهم ينسون أو يتناسون أن للثورة علمٌ وأنّ للثورة مهاراتٌ وأنّ
ما عليهم إلا التعاون من أجل استقرائها. وفي هذا السياق ، لم نكن
لنعاتب هذه "الترويكا" الدعوية التي فشلت بينما هي صاحبة دور جد
خطير مناط بعُهدتها، لم نكن لنركز على التعالي الذي ما زالت تذكيه
تجاه المجتمع لو لمسنا لديها تفهما لحدود إمكانياتها وتواضعًا يجعلها
منفتحة على مَن يتوسم الناس فيهم بعض الخير وبعض المعرفة
الجديدة التي قد تساعد على تسليط بعض الضوء على مشكلات عالقة
منذ عهود وعقود.
ثالثا، بودنا أن نرسم بعض الخطوط التي قد تدل القارئ، شيخا أو داعية
كان أم مربيا أم إعلاميا أم من عامة الناس، على كيفية التحرر من
القيود التي تعوق السير الطبيعي للمؤمن نحو الخالق، وبالتالي على
كيفية تمكين السلفيين، الذين صنفناهم أنفا، من السيطرة على الواقع
ومن ثمة تحويله نحو الأفضل:
القاعدة الأولى: حسن التمركز، ذهنيا وعاطفيا، في التاريخ. و مهما بدا
الأمر متناقضا فهذا يتم بفضل الوعي بأننا في مرحلة "ما بعد الإسلام"،
وذلك لكي نتجدد ونعي أننا في "بداية تاريخ جديد" للإسلام. فلا يمكن
للوعي الديني (الصحوة) أن يتجدد من دون مقابلته بنقيض من
الماضي، ولو كان النقيض هو نفسه الإسلام.
القاعدة الثانية: الإيمان بأنّنا نعيش بالتفاعل مع الخالق لحظة بلحظة
وثانية بثانية وبأننا لسنا ممن ينقلون كلام الله فيسقطونه على وضعيات
راهنة. ومن آثار ذلك أن يكون الكلام مُتسِقا مع الحاضر بموجب صدوره
عن العقل مباشرة. وبقاءُ العقل في وضع استخدام على مدار الساعة،
هكذا، كفيل بالبرهنة على بقاء الرابط الروحي مع الوحي على قيد
الحياة هو الآخر.
القاعدة الثالثة: لمّا يرتقي الإيمان إلى تلك المرتبة من القدرة على
الوصل بين العقل والوحي ينمو الوازع التطبيقي والعملي والتجريبي
53
لدى المتديّن. ومنه تتأتى الفوائد وتنعكس على مجالات الإنسان و
الاجتماع والاقتصاد والسياسة والثقافة.
القاعدة الرابعة: من شأن الدربة على العمل الميداني، والذي يحركه
الإيمان من دون لجوء المؤمن إلى السياسة لبلوغ القدرة على الحركة
(علما وأنّ الذي يجري الآن إنما هو مزج قسري بين الدين والسياسة)،
أن يساعد على تنمية البحث عن الحقيقة عموما والبحث العلمي بصفة
أدق. فبعد أن تحرر الإيمان، هكذا، من مُصادرة السياسة له سيصبح
في طريق مفتوحة نحو الحقيقة. علما وأن الحقيقة تبقى نسبية
بالمقارنة مع حقيقة الإيمان والعقيدة. ولا يصح التخوف من الاستكبار
باسم الحقيقة الدينية طالما أنّ المؤمن قد استعاد قدراته، مثلما
شرحنا أنفا، في التوق الطبيعي نحو الحقائق النسبية وبالتالي قد
استعاد ملكة الرضاء بها.
القاعدة الخامسة: هكذا يُفهم أنّ كل عمل يهدف إلى البحث عن
الحقيقة (وهي إذن نسبية) إنما هو من صميم الإسلام. ويُفهم أيضا أن
الإسلام، كحقيقة قبْلية للعلم، تدعم البحث عن الحقيقة (النسبية)
وبالتالي تحثنا على الالتقاء مع الفكر اليهومسيحي والفكر الكوني
بخصوص ضرورة الحرص على الحقيقة وعلى البحث عنها.
القاعدة السادسة: يكفي أن نلتقي مع عباد الله أجمعين في الحرص
على تملك المعرفة واكتساب العلوم حتى ندرك أنّ الفرق بينهم وبيننا
كان ("كان" بمعنى الاستشراف) متمثلا في السبل المتوخاة للوصول
إلى المناهج والآليات المُفضية إلى الحقيقة. ولا أعني ب"السبل"
السبل التقنية وإنما السبل العقدية والعاطفية والسيكولوجية
والسوسيولوجية وغيرها التي تشكل عقلانيتنا، والسبيل الدينية في
مقدمتها.
القاعدة السابعة: التوصل، هكذا، إلى المعادلة بن المسلم وغير
المسلم مع التوكيد على الاختلاف وحق الاختلاف (في نوعية
العقلانية) سوف يكسر الكثير من الحواجز القائمة حاليا، لا فقط بين
الكتلة الإسلامية (الشرق عموما) والكتلة اليهومسيحية (الغرب
عموما)، وإنما أيضا وبالخصوص في المجتمع العربي الإسلامي الواحد،
54
الذي يشهد "صراع الحضارات" في داخله. وما المشاهد المرعبة التي
نراها اليوم في تونس إلا مؤشرات على الحدوث الفعلي لصراع
الحضارات الداخلي.
بالنهاية لم يبق لنا، إن حضي هذا التصور ببعض الاهتمام، سوى
التشارك من أجل تصريفه وتأمين فهمه ثم تطبيقه، عساه يطال
المجتمع السياسي في أسرع الأوقات وأقرب الآجال. ولتحقيق ذلك
حريّ بنا أن نلقي بعض الأسئلة الموجهة: كيف يمكن ترجمة هذا
الكلام إلى مواقف سياسية واضحة؟ ما هو دور المسجد والمدرسة
والإعلام في مجال التثقيف السلوكي النابع من الدين؟ أي خطاب من
الأجدر صياغته والتوجه به إلى سلفيي الدين وإلى سلفيي العلمانية؟
من سيخاطب الخطباء والأئمة والمشايخ كي يغيروا خطابهم الدعوي؟
أي الأطراف السياسية قادرة على تحمل مسؤولية التثقيف الديني
الجديد؟ كيف يتسنى ترشيد مثل هذا التصور وترجمته إلى فعل
سياسي؟
*******
55
أيُشترط أن نكون معتزلة لنقدّم العقل على النص؟
ليس من الضروري أن يكون المرء معتزليا قائلا بخلق القرآن حتى يؤمن
بتقديم العقل على النصوص الشرعية عندما يلزم الأمر. فكما ليس
هنالك تناقض بين العقل والنقل مع تطويع الأول للثاني لا تحكيمه عليه،
وهو ما جاء به الأشاعرة لتقويض نظريات المعتزلة، يمكن القول إنه
بالإمكان اليوم تحكيم العقل بالتداول مع تحكيم النص. ويتم تقديم
العقل، في حال قبول مبدأ التداول، من دون الحاجة إلى نسب صفة
الخلق على القرآن الكريم مثلما فعل المعتزلة. فكوَن القرآن كلام الله
وأزلي، وهذه هي الصفة التي أصر عليها الأشاعرة وكافة السلف من
أهل السنة والجماعة، وهي متناقصة مع كَون القرآن كلام الله مخلوق
ومحدث، لا يحُول ذلك دون افتراض أولوية العقل على النص. كيف ذلك؟
وما هي تبعات هذا الطرح وآثاره على حياة المسلمين اليوم بما يخدم
التقدم، ناهيك أننا في حقبة تتميز بحكم الإسلام السياسي الإخواني
السني الأشعري المرتكز على مقاربة لاتاريخية ؟
إنّ فهم منطق المعتزلة رهنٌ بفهم معنى أن يكون القرآن كلام الله و
في الوقت ذاته مخلوق ومحدث أي له زمان ومكان نزَل فيهما وليس
أزليا وقديما وأبديا بما يبيح تطبيقه الحَرفي في كل زمان ومكان. وهذا
المعنى يوحي بأنّ تفسير القرآن لا بد أن يعتمد أسباب النزول والزمان
والمكان، مما حدا بعلماء الإسلام على غرار محمد الطاهر بن عاشور
ومحمد الطالبي أن يطوروا ما يُعرف في عصرنا الحاضر بالقراءة
المقاصدية للقرآن الكريم.
أما الذي نعتزم عرضه في هذه الدراسة كفرضية آملين أن تُشكل إجابة
أو بوادر إجابة عن السؤالين المذكورين أنفا فيتلخص في ما يلي: لأنه
لم يتم أبدا الحسم في قضية خلق القرآن لِما انجرّ عنها من فتنة (قطَع
معها بصرامة الخليفة العباسي المتوكل جعفر ابن المعتصم ابن هارون
الرشيد لمّا أعاد الاعتبار لأحمد ابن حنبل بعد كل ما لحق به من ضرر
جراء مناهضته للمعتزلة ومن ثمة لمّا أعلن غلق باب الاجتهاد)، قد
56
يساعدنا التقدم الحاصل في مجال الألسنيات وفلسفة اللغة على اتخاذ
"منزلة بين المنزلتين" (إن جازت الاستعارة المقتبسة عن الاصطلاح
المعتزلي) أو اجتهادا ثالثا، كما أسميناه، تكون من أهم فوائده تحقيق
أرضية للتوحد اللاهوتي و العُقدي بين مختلف المذاهب الإسلامية
وبالتالي التفرغ للاجتهاد السياسي لما فيه خير المسلمين والناس
أجمعين.
بهذا المعنى يمكن تقديم الغاية على الوسيلة. في هذا السياق لا
حظنا أنّ المنحى المعتزلي يملك على الأقل غاية منهجية/معرفية جد
هامة، وهي التي يرنو إلى بلوغها جل المفكرين الإسلاميين. أما هذه
الغاية فيعبر عنها محمد أركون كما يلي: " فالقول بأنّ القرآن مخلوق
ليس مجرد كلام وإنما هو يعني إدخال بُعد الثقافة واللغة في طرح
المشكلة. وهما من صنع البشر لا من صنع الله" ( 1) ولئن نتفق مع
أركون بخصوص الغاية فإننا ننقض الجانب الذي يتعلق ببشرية اللغة فيه،
كما سنرى لاحقا. لكن لنعُد إلى المبدأ والمنهجية ولننطلقْ من معاينة
أنّ السلف والمعتزلة كلاهما يقر بأن القرآن الكريم كلام الله مع اختلاف
أولئك وهؤلاء في كونه قديما وأزليا (السلف) أو مخلوقا ومحدثا
(المعتزلة). ثمّ لنفصحْ عن اعتقادنا بإمكانية تحويل المشكلة من تلك
الحلبة الشائكة لتنصيبها على حلبة تتسم بأكثر احترام لحقّ الاختلاف
وبأكثر مرونة وبأكثر وفاق وبأكثر تحرر. ويكون ذلك وفق الشرح التالي
للفرضية: القرآن هو كلام الله، ولله سبحانه خلق اللغة في الإنسان و
من أجل هذا الأخير ("وعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا"؛ البقرة: 31 ) و ("الرَّحْمَنُ
4). وعلى عكس - عَلّمَ القُرْآنَ خَلَقَ الإِنْسَانَ عَلَّمَهُ البَيَانَ"؛ الرحمن: 1
ما ذهب إليه أركون (في الجزء الأخير من مقولته التي اقتبسناها عنه
أعلاه)، هذا يعني أن اللغة عموما، مثل العقل، مخلوقة تبعا لكونها
فطرية و ولادية وعقلية. وهو ما أيده العلم الحديث (نظريات نعوم
تشومسكي والمدرسة الولادية العقلية) فضلا عن الاستباق التي
تتضمنه الآيتان المحكمتان وفضلا عن قول الفقهاء، إذ يقول ابن النجار
(الفتوحي) في كتابه "شرح الكوكب المنير": " مبدأ اللغات توقيف من
الله تعالى بإلهام ، أو وحي أو كلام عند أبي الفرج والموفق والطوفي ،
وابن قاضي الجبل والظاهرية، والأشعرية . قال في المقنع : وهو الظاهر
عندنا لقوله تعالى 'وعلم آدم الأسماء كلها' أي أن الله سبحانه وتعالى
57
وضعها" ( 2). إذن بالنسبة لنا ليست المشكلة في زعم خلق القرآن
من عدمه أو في زعم أنه ليس كلام الله، معاذ الله، وإنما في لزوم
الوعي، من عدمه، بالضرورة العلمية التي تُفضي إلى التسليم بأنّ
اللغة مخلوقة. وإن ازددنا ثباتا أنها كذلك يتوجب علينا إثبات أنّ الكلام
البشري، على عكس اللغة، ليس مخلوقا. لماذا، لأنّه إن صح هذا
الإثبات سيُساعدنا في أمرين اثنين: أولا، سيُعيننا على التمييز بين
المخلوق (اللغة) والمحدث (الكلام البشري) وسيكشف لنا طبيعة
العلاقة بين ما هو من عند الله (اللغة) وكيفية تطبيق ما هو من عند الله
عن طريق البشر (الكلام البشري). ثانيا، سيُعيننا هذا الإثبات على
تعميم تلك العلاقة حتى تبلغ أَوجَها حين تصبح المسالة متعلقة بتبيين
العلاقة بين الدين، الذي من عند الله تعالى، والتدين، الذي هو تطبيق
بشري خصوصي للدين.
لاستهلال الإثبات نفترض أنّ التسليم بصفة خلق اللغة (صفتها الفطرية
الولادية العقلية) لا يؤدي حتما إلى التسليم لا بصفة خلق الكلام و لا
بقدسيته. وما يؤيد عدم قدسيته أنّ الكلام فيه الهام وفيه السام.
وبذيء الكلام سام. والسام ليس من الله ولا من الإسلام. ولقد وردت
في الحديث الشريف عدة آثار تنهى عن بذيء الكلام. ومن هذه الآثار
قوله صلى الله عليه وسلم:" ليس المؤمن بالطعان ولا اللعان ولا
الفاحش ولا البذيء" (رواه الترمذي)، وقوله أيضا:" إنّ العبد لَيَتكلمُ
بالكلمة من سخط الله لا يلقى لها بالا يهوي بها في جهنم" (رواه
البخاري). وإن دل هذا على شيء فيدل على أنّ الكلام لا يتمتع
بقدسية مسلّمة وبأنّ أمر التعالي والترفع عن بغيض الكلام، بما أنه
ضربٌ لفظيٌّ من ضروب من الفحشاء والفجور، موكول للبشر كي ينجزه،
كما تفصح به الآية الكريمة "وَنَفْسٍ وَ مَا سَوَّاهَا فَألْهَمَهَا فُجُورَهَا وَ تَقْوَاهَا
10 ). إذن ليست - قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا" (الشمس: 7
هنالك قدسية مسلّمة مُضفاةٌ مسبقا على الكلام. بل إنّ القدسية
تبقى خصوصية أي رهنًا بإرادة المؤمن لنيلها طبقا لِما نص عليه الدين
الحنيف. وهذا الغياب للقداسة الكلامية مع إمكانية الحصول عليها،
بطريقة خصوصية، من باب التقوى و الرغبة في إرضاء الخالق سبحانه
وتعالى، إنما هي بحد ذاتها وجهٌ من وجوه التديّن. وهذا ما يحملنا على
الاستنتاج أنّ الكلام إنما نظيرٌ للتديّن، مع أنه ليس التدين كله.
58
وبالموازاة، نخلص إلى القول إنّه كما أنّ فطرية اللغة لا تُفضي حتما إلى
فطرية الكلام فإنّ فطريةُ الدين (أو الميل إلى الدينِ) من الأرجح أن لا
تُفضي حتما إلى فطرية التدين.
بالتأكيد، الآن وقد تبيّن أنّ الكلام متصلٌ بالعبادة (أنه نظير للتدين) مع أنّ
الكلام غير مخلوق، فهذا يوحي بأنّ فعل الكلام يضاهي فعلَ التدين. إذ
إنه ما مادامت اللغة مخلوقة ومُوَلدة للكلام، وما دام هذا الأخير غير
مخلوق، فاللغة تضاهي الدين في صفته الفطرية ("فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ
حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ
الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ "؛ الروم: 30 ) وأيضا في صفته
الشمولية والعمومية. بيد أنّ فعل الكلام يضاهي التدين في صفته
البشرية والخصوصية. وبالموازاة، يمكن بعدُ استشفاف فائدةٍ من كل
ذلك على المستوى السلوكي التطبيقي. وتتمثل الفائدة في ما يلي:
كونُ اللغة تضاهي الدين وكونُ الكلام يضاهي التدينَ، فإنّ الدين قابلٌ
لأن يتم التعامل معه (على واجهة التدين) بواسطة آليات ألسنية عديدة
في مقدمها آلية "التوليد والتحويل" كما نتعامل مع اللغة (على واجهة
الكلام) بواسطة الآلية نفسها (النظرية الولادية العقلية للمدرسة
التشومسكية) من بين آليات أخرى. بكلام آخر، إذا تعادلَت اللغة مع
الدين في صفة الخلق والوحي والفطرية والعقلانية، وإذا تعادل الكلام
مع التدين في صفتَي البشرية و الخصوصية، توفرت إمكانية المعادلة
في مستوى الوظيفة أو الوظائف لدى العنصرين الاثنين المُكونين لكل
واحدة من الثنائيتين. وهذا يندرج ضمن باب النتائج على المستوى
السلوكي التطبيقي.
نأتي إذن إلى محاولة إضافية لإثبات العلاقة (التناظرية تارة والتطابقية
طورا) بين اللغة/الكلام من جهة وبين الدين/التدين من جهة ثانية وبين
الثنائي لغة/كلام والثنائي دين/تدين من جهة أخرى. والغرض من هذا
الإثبات هو بلورة رسمٍ أولي لمنهاج سلوكي وتطبيقي. وسنعمَد هذه
المرة إلى شرح هذه العلاقات في ضوء الآلية المركزية في النظرية
اللغوية الفطرية العقلية، ألا وهي آلية "التوليد والتحويل" (نسبة للنحو
التوليدي والتحويلي أو النحو الكلي). قبل ذلك فلنُحَوصل ما سبق لكي
نتبيّن الطريق إلى استخدام هذه الآلية الألسنية في المجال الديني،
59
ثم نتمادى بعدئذ في الشرح: رأينا في كلتا الحالتين، اللغوية والدينية،
أنه يتوجب التمييز بين صفة الشمولية/العمومية لدى الدين/اللغة،
والصفة الخصوصية لدى التدين/الكلام. ومنه، بعد أن تبين لنا أنّ على
عكس الصفة القدسية التي يكتسيها الثنائي الدين/اللغة، يبقى الكلام
خصوصيا وغير مقدس مثلما يبقى التدين خصوصيا وغير مقدس. كما
بينّا أنّ، بهذا المنطق، مادامت اللغة وحيا ("... بإلهام أو وحي أو كلام"
كما جاء في كلام ابن النجار) فالكلام وجهٌ بشري لهذا الوحي. وبالتالي
تنضاف إلى صفة الخصوصية البشرية التي في الكلام صفةُ الصلة
بالوحي. وبهذا يكون الكلام هو الوجه القابلُ للتغيّر والتبدّل على لسان
الناطق به، أي الوجه القابل التوليد والتحويل البشري. ونستنتج إذن أنّ
عملية التوليد والتحويل ذات صلة بالوحي ولو لم تكن هي بذاتها وحيًا.
لذا فهي مُخولة لأن تُوظَّفَ في تعامل المسلمين مع الدين بنفس
الطريقة التي تُوَظفُ بها في تعامل المتكلم مع اللغة.
بادئ ذي بدء، لكي نصل إلى تطبيقات ل"التوليد والتحويل" في مجال
العبادة والتجربة الدينية (التدين) لا بد من مراجعة معنى هذه الآلية في
مجال اللغة و التكلم. "التوليد والتحويل" في اللغة هو الإقرار بأن ظاهر
الكلام لا يكفي لأداء المعنى الذي يعتزم المتكلم أداءه وبثه إلى
المتلقي. بل هنالك ما أسماه نعوم تشومسكي "النحو الباطني" (ثم
طوّرَها في ما أسماه " القدرة التواصلية" ). وهذا النسق الباطني
يتعلق بعوامل عديدة في مقدمتها عامل السياق، ولا يمكن التخلي
عنه لِما له من صلة عضوية بمدلول الكلام ومعناه ورسالته. أي أنّ
"النحو الخارجي" (أو "القدرة النحوية") ليس كافيا لكي يكون الكلام
كلاما و"الأداء" متناسبا. ولنضربْ مثالا على ذلك. لنأخذْ مقطع " فحص
الطبيب المريض" (هكذا دون شكل على الحروف، وذلك اختيارا منا بأن
تكون الأمثلة مكتوبة لا مقروءة). حينئذ هل تفيد هذه الجملة البسيطة
أنّ الطبيب مريض وأنه هو الذي تم فحصه، أم الأرجح أنها تفيد أنّ
الطبيب فَحَص شخصا مريضا؟ طبعا أي واحد يقرأها سيتبع الخيار
الثاني. لكن السؤال الذي ينبغي طرحه هنا هو الآتي: كيف عرف
القارئ (أو المخاطب، في الحالات الأخرى التي تعرِضُ مشكلاتٍ من
دون شكل الحروف) أنّ الخيار الثاني هو الأصح إذا لم يكن هذا الشخص
متعودا على مثل ذلك السياق وإذا لم يستنجد بمعرفته وبثقافته أي
60
ب"النحو الباطني" الذي سيُثنيه على فهم الجملة على أنها تفيد
"فُحِصَ الطبيبُ المريضُ" (بضم الفاء في 'فحص' والضاد في 'المريض')
وتبقى صحيحة المظهر لكن غريبة المعنى؟ ذلك هو التوليد والتحويل
تقريبا. إذن هو مجموع العمليات التي تجري في باطن العقل اللغوي
لكلٍّ من الباث والمتلقي حتى يفهمَا بعضهما البعض دون عناء. وعلى
هذا النحو يتعرض الناطقون بلغةٍ ما في حديثهم مع بعضهم بعضا، وفي
الأدب المكتوب، على تراكيب صحيحة في ظاهرها لكنها من حيثُ
المعنى تبقى مبهمة وغامضة. وفي ما يلي بعض الأمثلة على ذلك و
التي ستصلح لنا للشرح المقارن الذي سنتولاه في الجزء التالي من
الدراسة: "إنما يخشى المعلم التلاميذ النجباء" (هو يخشاهم أم هم
يخشونه؟ لماذا وكيف؟)؛ "طرق طارق الباب" (اسمه 'طارق' أم سمي
كذلك لأنه يطرق؟). هذا إذا لم نعثر على جملة تتسم بسلامة الهيكل
لكنها ليست ذات معنى أبدا، مثل ما ورد على لسان نعوم تشومسكي
نفسه: " الأفكار الخضراء غير الملونة تنام بشراسة". وفي حال محاكاة
هذه العينة الشهيرة ستتكَون لدينا بضعة قطع مماثلة على غرار"
اشترى الفيل المتحضر مدينة بسرعة فائقة". وهكذا دواليك.
والآن ماذا عسى أن يكون الحال لمّا نطبق "التوليد والتحويل" في مجال
التدين؟ هذا هو مربط الفرس. لنتوخَّ طريقة التماثل ولنبدأ بعرض جملتين
دينيتين اثنتين إن صح التعبير، أي وضعيتين متكاملتين تكامُلَ الجملة
اللغوية الواحدة. وذلك لكي يتسنى لنا أن نصدر بخصوصها "تقييما دينيا"
ف"حكما دينيا تقليديا" ثم "حكما اجتهاديا جديدا". بعدئذ سنحاول أن
نفهم كل وضعية لكأنها جملة وأن ندرك ميكانزمات التوليد والتحويل أي
التبديل والتغيير في داخلها، وأخيرا أن نتناول الفائدة الموالية من مثل
هذا العمل.
الوضعية 1: شاب يصوم شهر رمضان ولا يقيم الصلاة.
التقييم الديني: وضعية ناقصة طالما أنّ الصلاة فرضٌ وأن الشاب لا
ينجزه. بينما صيامه مقبول حتى بلا صلاة.
61
الحكم التقليدي: لا بد أن يُؤمَر الشاب بالمعروف لكي يقيم الصلاة وإلا
سينال عقاب الله. وفي الأثناء، في بعض البلدان، إن لم يمتثل سيَنال
ألوانا من العقاب.
الحكم الاجتهادي الجديد: ينبغي تشجيع الشاب على المداومة على
الصيام مع رصد سلوكياته الأخرى التي يبدي خلالها استقامةً وجهدا
وعملا صالحا ولو كان لا يصلي. ومن ثمة تحفيزه على المضي قُدُما
على درب التقدمية السلوكية التي من شأنها أن تنعكس إيجابيا على
مردوده السياسي والاجتماعي وغيره. وإذا انصاع هذا الشخص يومًا ما
لأمر الصلاة يكون ذلك من تلقاء نفسه حين يكون قد وصل نمُوه
الطبيعي إلى درجة تسمح بذلك.
الوضعية 2: مواطن ممارسٌ للدين بأركانه الخمسة وغالبا ما يخترق
الضوء الأحمر عمدا أثناء قيادته للسيارة ولا يتوانى عن تقديم شهادة
الزور.
التقييم الديني: يا حبذا لو كان كل الناس يقيمون الدين مثل هذا
الشخص. أما بخصوص السلوك فمعلومٌ أنه منبوذ في الإسلام.
الحكم الديني التقليدي: هذا الشخص مسلم مثالي لكن ينبغي أن
يُدعَى له بالهداية. وشهادة الزور من الكبائر إذن فعليه أن يتجنب العَود.
أما بخصوص اختراق الإشارة الحمراء فلا توجد علاقة سببية بين هذا
الفعل والإيمان.
الحكم الاجتهادي الجديد: سلوك هذا الشخص لا يتناسب مع حال
العبادة عند صاحبه.إذن هذا الشخص مسلم لكنه غير مؤمن حيث إنّ
"الإيمان ليس بالتمني لكن الإيمان ما وقره القلب وصدقه العمل" (أثر
عن الحسن البصري) بينما عملُ هذا الشخص (اختراق العلامة الحمراء
وشهادة الزور) لم يصدّق إيمانه. لذا يتوجب تربية الناشئة على كيفية
تغلغل العبادة في العقل وفي السلوك؛ كما يتوجب طرح مسألة القانون
ودولة القانون، والتفكير في انغراس احترام القانون كقيمة تنتمي إلى
الدين. وينبغي أيضا سَن آليات فعالة تدل الناس على الطريق إلى
احترام القانون. و يبقى الزجر حلا لا رجعة فيه لضمان العدل بين الناس
كافة.
62
بلُغة الألسنية ومن منظور الباحث نقول إنّ نموذج الجملتين المعروضتين
(وضعية 1 و وضعية 2) موجود بوَفرة مُلفتةٍ للانتباه، إن لم نقل باعثةٍ على
القلق، في المجتمع التونسي والعربي الإسلامي عموما. أي أنهما
جملتان ذاتا شكل سليم و "نحو خارجي" صائب. لكنهما في الأصل غير
ذاتَي معنى قوي من حيثُ "النحو الباطني" و"القدرة التواصلية"
و"الأداء". وإذا أردنا محاكاة العينة اللغوية التشومسكية التي لا معنى
لها أبدا وحاولنا تأليف جملة دينية رديئة إلى أقصى الحدود من الصنف
الذي نخشى أن يجيء اليوم الذي يتحقق فيه معناها حقا، لحَصلنا
على هياكل مثل تلك الأمثال الشعبية عندنا من سلالة "يؤدون الفرض
وينقبون الأرض" أو"نفسي نفسي والله لا يرحم من مات" أو من قبيل
ذلك الأثر الجاهلي الذي لم ينقرض سلوكيا من حياة المسلمين "اليوم
خمرٌ وغدا أمرٌ". فالرسالة التي نرغب في تبليغها هاهُنا هي أنّ الحالات
التي تتضمنها تلكم الجمل الدينية متسقة مع ذاتها (جُمل سليمة
المظهر) بصفة لا تمنع الباحث من اعتبارها ضربا من ضروب التدين، إلا
أنها ليست حجة على الدين. وإلا، وبلغة الدين والفكر الديني، ما
الداعي لأن يقلق الباحث و يتضجر فيسعى إلى البحث عن مخرج لأزمة
عدم الاتساق بين سلوك المسلمين و عقيدتهم، وعدم انسجام فعلهم
مع قولهم؟ بكلام آخر إنّ المطلوب إنجازه تربويا وفكريا في مثل
الوضعيتين الموصوفتين هو فتح أبواب جديدة في البحث عمّا يمكن
إنجازه بنجاعة وفعالية لكي تدنو لدى المؤمن "الشريعة الخارجية" إن
صح التعبير (تماثلا مع "النحو الخارجي") شيئا فشيئا وقدر الإمكان من
"الشريعة الباطنية" (تماثلا مع "النحو الداخلي")، ولكي تدنو "القدرة
التواصلية والوظيفية الدينية" (القدرة على التفاعل مع النص بعقلانية
محدثة ) من "القدرة الدينية الصرفة" (معرفة المسلم بالنص الديني
المصدري). وتكون من نتائج هذه العملية التوحد الذاتي للمتعبد مع
تأصيل صفة التمييز بين الدين والتدين لديه حتى يكون قادرا على وصل
كلاهما بالآخر بما يجسد التوق نحو الطهورية الدينية. وليست هذه
الصفة الأخيرة منافية للعقلانية، كما قد يتراءى، بل تلك هي العقلانية
لدى المسلمين. وتلك هي الحرية من منظور المسلمين. وهي حرية
يتحكم بها قانون الجدلية والتفاعل بين النص والعقل.
63
بعد أن فرِغنا من باب المبادئ ووصف أصول المقاربة وعرْض عينات من
التفسير والاجتهاد، نطرق الآن باب العلاقة بين المنهاج الجديد
والمقاربات التقليدية. في هذا السياق لنتفقْ أننا لا نقصد تفسير
النصوص الشرعية أو الاجتهاد الفقهي بقدر ما نقصد تفعيل ما هو
مفسر. حيث إنّ كتب التفاسير تزخر بمادة لا تزال صالحة من حيثُ
المعاني لكنها غير جاهزة للتطبيق في الحياة اليومية للمسلم. لذا
نعتقد أنه عِوضا عن اللهث وراء ما يسمى ب"قراءات جديدة" للإسلام
وللنصوص الشرعية، الأجدى تفعيل ما توفر من تفاسير حتى تتشكل
لدى المرء المُتابع لطريقة التفسير القدرةُ (التواصلية) على إنجاز قراءة
تحررية بنفسه. إذ إنه لمّا نُقر بوجود تفاسير غير مطبقة فإننا نُقر بأنّ
المَنفعة الحاصلة من تلكم التفاسير في ما مضى من الزمان لا يمكن أن
تكون تبخّرت. بل هي ثابتة في التراث وفي الثقافة وفي الذهنية وفي
النفسية لدى المسلمين. إذن لمّا يتم تفعيل التفاسير بفضل مقاربة
تكون عملية وتجريبية من باب أولى وأحرى مثل تلك التي شرحناها،
نكون قد ساعدنا المسلمين على تلمّس السهول والهضاب والمنحنيات
والمنحدرات التي لم تطأها أرجلهم أبدا بالرغم من أنّ كل تلك
المساحات تنتمي إلى تربتهم الثقافية والتراثية الأصلية .
ولا يقصي هذا الاجتهادُ التفسيرَ المتعارف الذي يُنجَز بفضل الوسائل
العقلية/النقلية المألوفة لدى السلف الصالح ولدى مختلف المدارس
الفقهية. فطالما نسلم بأن العقل مخلوق واللغة مخلوقة وطالما أنّ
اللغة عقل/عمل، يكون التفسير النمذجي والتفاعلي الذي نحن بصدد
عرضه تفسيرا عقلانيا/ عمليا. كما أنه سيكون بالموازاة تفسيرا دينيا
طالما أن الإسلام دينُ عقل ودينُ عمل. وهو تفسير دينيٌّ أيضا لأنّ
التداول بين التناظر والتطابق (دين/لغة؛ تدين/كلام) سيسمح بالجدلية
والتفاعل الضروريين بين العقل والنص. وقد نكون بذلك قد خطَونا شوطا
مُهما نحو حسم الخلاف التاريخي بين العقيدة السنية الجماعية
الأشعرية القائلة إنّ القرآن الكريم "كلام الله تعالى (...) وأنّ هذا الذي
نسمعه حكاية كلام الله تعالى" ( 3) وبين العقيدة المعتزلية، والشيعية،
القائلة إنّ القرآن الكريم "كلام الله (...) وإذن هو الذي نسمعه اليوم
ونتلوه" (نلاحظ أنه لم يكتب "حكاية كلام الله") ( 4). فمسألة "حكاية
كلام الله" (عند أهل السنة) مِن عَدمها (عند المعتزلة) باتت رهنٌ
64
بحُسن استخدام منهاج التناظر والتطابق بين اللغة والدين وبين اللغة
والكلام من جهة، ومن جهة أخرى بين التطبيقات المتعددة والمختلفة
التي ستُسفِرُ عنها النمذجة في مجال التفسير والاجتهاد السياسي:
بين العقل والنص وبين الحَرفي والتأويلي وبين الظاهر والباطن وبين
التوقيفي والوضعي وبين الشريعة والقانون.
وها نحن الآن على مشارف الوضع الحضاري في تونس وفي البلاد
العربية والإسلامية عموما أين لم تُحسم بعدُ مسألة العلاقة بين النقل
والعقل وبين الدين والسياسة وبين الدين والدولة وغيرها من العلاقات
التي باتت غير متسقة لا مع واقع مجتمعاتنا ولا مع تطلعات شعوبنا نحو
النهوض والرقي. وأمام الإمكانية المتوفرة لمزيد بلورة الاجتهاد الجديد أو
شابهَه، حَري بالحكومات الإسلامية التي تمارس السلطة الآن في كل
من تونس ومصر فضلا عن أقطار مثل السعودية والسودان جرّبت الحكم
بالشريعة الإسلامية أن تنكبّ على دعم وتطوير أي نموذج جديد من
شأنه أن يحقق المصالحة بين المسلمين وذواتهم وبين المسلمين
وواقعهم . فهي حكومات انقادت إلى ارتداء عباءة الإيديولوجيا الدينية بلا
علمٍ يسندها. وبالتالي لقد حان الوقت لكي تستثمر هذه الحكومات
وتُشجع استثمار الجهد والوقت والمال في مجال عقلنة التدين. ولا
يكفي أن تزعم الحساسيات الدينية الحاكمة أنّ شرعيتها العلمية
مستمدة من العلوم الشرعية لكي يقبلها المجتمع العربي المسلم.
فالعلم الشرعي شيء والعلم/الفقه الحضاري شيء آخر. مع العلم أنّ
المشكلة الحضارية التي نعاني منها تتطلب حلا من صميم فقه
الحضارة لا من فقه الدين فحسب. بل قُل إنّ الفقه الديني بات تابعا
لفقه الواقع. أي أنّ ازدهار الفقه الديني والاجتهاد فيه رهنٌ بتجديد
الفكر الإسلامي، من خارجه لكن من داخل الثقافة الخصوصية مع
التفاعل الجدي إزاء الثقافة العالمية. أما السبب في لزوم تبعية الفقه
الديني لفقه الواقع هو طبيعة المشكلة بالأساس: المسلمون ناقصو
عقلٍ لا ناقصو دينٍ كما يُظن. وقد رأينا في سياق متصل كيف أنّ إقحام
فلسفة اللغة في عملية بناء قراءات ذاتية للإسلام بات أمرا ملحا. ذلك
لأن من شأنه أن يبرز جدارة المسلمين بعقلانية متجذرة في ثقافتهم.
والأمر ملح لأننا أيضا بحاجة إلى غزوِ حقول معرفية جديدة من منظور
الفكر الإسلامي، بفضل عقلانيته المستردّة، سيما وأنّ ذلك سيتم
65
بفضل أداةٍ (اللغة) تبيّن أنها لا فقط ليست بغريبة لا عن الفطرة ولا عن
العقل ولا عن اللاهوت الإسلامي ولا عن تاريخ المسلمين ولا عن
ثقافتهم، وإنما هي أقرب قوة إلى حبل الوريد بعد الله تعالى.
أخيرا وليس آخرا، وبعد أن عرضنا نموذجا لكيفية المداومة على التدين
بالإسلام لكن بوعي متجدد، السؤال الذي يطرح نفسه يتعلق بكيفية
إيصال النموذج إلى الخاص والعام من العباد. بكلام آخر، كيف يمكن
إيصال آليات المنهاج الاجتهادي إلى شرائح المجتمع كافة، سيما وأنّ
المنهاج يتوسم تشريك عامة الناس فيه؟ للإجابة يمكن القول إنّ
الإصلاح هو المدخل إلى التحرر بفضل الاجتهاد الذاتي، سيما وأنّ مادة
الإصلاح المقترح (اللغة) هي نفسها منهجيته (النمذجة اللغوية). وهذا
ما سيضمن حظوظا وافرة لاستساغة هذا الصنف من الإصلاح دون
سواه. وذلك لسبب منطقي. نحن في تونس، وفي بلاد كل المسلمين
تقريبا، نعاني من اختلال التوازن بين النظري والتطبيقي. إذن لا نخشى
من الجزم بأنّ أفضل طريقة تساعدُ مجتمعات بلداننا، أفرادا وجماعات
وسلطة، على ممارسة القناعة القائلة بضرورة مطابقة النظري مع
التطبيقي، هي إنجاز الإصلاح اللغوي. فاللغة بوابة مشتركة بين المؤمن
والملحد، وبين السني والشيعي وبين المسلم والمسيحي وسائر
البشر، وبين العروبي والفرنكوفوني، وبين اليميني واليساري. كما أنّ
اللغة مدخلٌ لإصلاحات عدة، بدءً بالتربية والتعليم ومرورا بالاتصال
والإعلام وانتهاءً إلى السياسة الكبرى. إذن متى نكون جملة مفيدة في
نص الحضارة؟
المراجع:
21- 2012 ص 20 -7- 1) ذكره د. فتحي بوعجيلة في مقال له نشر بجريدة "المغرب" بتاريخ 11 )
2) عن موقع "إسلامواب" )
3) كما نستشفه مما كتبه عبد الجبار المعتزلي واصفا موقف الكُلابية (فرقة من أهل السنة والجماعة) )
في كتاب "شرح الأصول الخمسة" ص 528 ، مكتبة وهبة، القاهرة.
( 4) المرجع عدد ( 3 )
*******
66
أنا سني غير معتزلي إذن أنا أفكر
يعود تخلفنا كمسلمين بنسبة عالية إلى افتقارنا لملكة التفكير.
والتواكل قد عوّض التفكير لدينا، كما يتجلى ذلك في كون المسلمين
دوما بانتظار أن يرحمهم الحاكم أو المعلم أو الفقيه في الدين أو الوالي
أو المعتمد أو رئيس البلدية أو العمدة بفكرة أو بقرار أو بموقف، ما يُتقبل
بكل ارتياح. إنّ هذه الاستقالة تعود في رأينا إلى نبذ العقل من أساسها
ونبذ كل ما اتصل به من ملكة التفكير وحكمة ومنطق وغيرها. وكون
العقل عند معشر المسلمين مرتبط بالدين، بل كون عقلنا في ديننا كما
بينّاه في دراسات سابقة، لا ينتقص وقيّة واحدة من هذا العقل. إلا أنّ
سبب نبذ العقل يكمن في وضعية شرحناها في دراسة أخيرة
("أيشترط أن نكون معتزلة لنقدم العقل على النص؟"). وهي الوضعية
التي حكمت ضمنيا على العقل بالفناء كرّدة فعل تاريخية على موقف
المعتزلة (القرن 9) القاضي بتقديم العقل على النقل وذلك تبعا لعقيدة
نُبذت هي بدورها وهي القائلة بخلق القرآن أي بثبوت تغيره مما حمَل
الفكر المعتزلي على تغليب العقل عليه. والسؤال هو: هل أنّ فشل
أهل السنة والجماعة في عقلنة الفكر الإسلامي حجة على لزوم
مداومة المسلمين في وضع اللاتفكير، وهل أنّ فشلهم في الفصل
بين عقيدة المعتزلة والمنحى العقلاني لنفس الفرقة حجة على عدم
وجود مخرج للإشكال؟
نحن إذ نتخذ موقفا مغايرا تماما من موقف المعتزلة، فإننا نتفق معهم
فقط في ضرورة إعادة الاعتبار للعقل وللتفكير. كما نختلف مع مناهضي
الفكر المعتزلي (من أهلنا، أهل السنة والجماعة) لا لشيء إلا لكونهم
لم يأتوا بالجديد بخصوص إعادة الاعتبار للعقل كنتيجة لمناهضتهم
للمعتزلة. أو بعبارة أخرى لأنهم ثبّتوا العقل في وضع التدهور الموروث
بتعلة أنّ المنهج العقلاني لا يمكن أن يكون صالحا طالما أنّ فرقة
المعتزلة، التي يرفضونها، هي دون سواها التي أسست لريادة العقل.
ولئن سمحَت لنا بحوثنا بهذا الاختلاف فإنّ موقفنا العملي يتمثل في
تجاوزه وذلك ابتغاء تحقيق هدف العقلنة في الإسلام. ويتلخص طرح
التجاوز في جملة من النقاط من أهمها نذكر:
67
أولا، ليس بوسعنا إثبات خلق القرآن من عدمه. بل نبقى مرتاحين
للتمادي في الإيمان بأنه كلام الله الأزلي والقديم والدائم (وهي الرؤية
السنية الأشعرية). أما ما يزيد في ارتياحنا فهو توصلُنا بعون الله إلى
مخرجٍ لقضية رد الاعتبار للعقل وما آل إليه من تسليمٍ بنفي الحاجة
إلى دحض العقل كلما تعلق الأمر بدحض الفكر المعتزلي.
ثانيا، إنّ المخرج الألسني الذي توصلنا إليه والقاضي بثبوت التناظر
والتطابق بين اللغة والدين من جهة وبين الكلام والتدين من جهة أخرى
يجعلنا واثقين من إمكانية ادخار الجهود التي لطالما بذلها الفقهاء
والمفكرون المناهضون للفكر المعتزلي لغاية نقضه وتجريمه وحتى
تحريمه. وبالتالي يُمَكننا المخرج النمذجي (نسبة للنمذجة بواسطة
التناظر والتطابق) من تخصيص ذلك الجهد المدخر لرتق الشرخ أو
القطيعة الحاصلة في العقل العربي الإسلامي.
ثالثا، إنّ ثبوت التناظر والتطابق يعني أنّ عدم التسليم بعدم خلق
القرآن/كلام الله لا ينفي خلق اللغة ولا ينفي خلق العقل الذي يختزن
اللغة. كما أنّ ذلك الثبوت يعني أنّ الكلام البشري (بما أنه فردي
وخصوصي) ، على عكس اللغة (بما أنها كلية وجامعة)، هو الذي ليس
مخلوقا. ونستنتج من ذلك أنّه إذا كان كلام البشر ليس مخلوقا فكيف
نسمح لأنفسنا بالخوض في مسألة خلق كلام الله من عدمه؟ هذا إن
لم نقل إنّه ليس من المنطق بمكان أن يخلق سبحانه وتعالى كلامه
جل وعلا ولا يخلق كلام البشر. بالمحصلة، يكفينا إيمانا بأنّ كلام البشر
ليس مخلوقا لكي نتجاوز النقطة الخلافية المتعلقة بخلق كلام الله من
عدمه.
رابعا، أن يكون كلام البشر في نفس الوقت غير مخلوق ومستخرجا من
صفة مخلوقة (اللغة/العقل) يضفي طابعا ربانيا على فعل
التخاطب/الكتابة /السلوك (وهو الكلام بالمعنى الألسني). ومنه
فقدسية الكلام عقلانيةٌ طالما أنها موَلَّدة من العقل اللغوي للناطق
باللغة.
بالنهاية نتخلص إلى قول ما يلي: تطبيقيا ستسمح هذه المبادئ
للمسلمين بالشعور أنهم صاروا ضالعين في التفكير في
68
الواقع/الإسلام، أي في فهمهما وتفسيرهما، بصفة فردية، وكذلك بصفة
تؤسس لطريقة جماعية للتفكير. وهل نحن بحاجة إلى أكثر من هذا
للانطلاق في تأسيس خطاب ديني متناظر ومتطابق مع علم سياسي
للمسلمين، ومنه لتصورِ ثم تجسيدِ النمط المجتمعي بما فيه نظام
الحكم، واستهلال التقدم الحضاري؟
69
-4-
إصلاح التربية والتعليم أنموذج مصغر للإصلاح العام
70
تمهيد
تُعدّ تونس من البلدان العربية الأكثر حداثة. وبقدر ما كان هذا إيجابيا
بقدر ما تسبب في العديد من المشاكل أهمها مشكلة مكانة الثنائي
الجبّار، الدين واللغة، في المجتمع، ومشكلة التواصل بصفة أعمّ.
وفي تقديرنا يمكن تشخيص المشكلة العامة إجمالا بالقول إن الحداثة
سبقت الفكر والفكر السياسي لأنّه من جهة لم يتم تجديد التناول
الديني في التربية وفي المجتمع. كما أنّ الحداثة، من جهة أخرى، لم
تكن لتتحول إلى نقمة لو لَم يتأزم العقل اللغوي للإنسان التونسي
(والعربي) بالتوازي مع العقل الديني، ولو لَم تتأخر اللغة العربية عن
المراتب التي كانت تحظى بها في العصر الذهبي للحضارة العربية
الإسلامية.
وهذه المشكلة ذات البعدين، المترابطين في الأصل كما بينّا ذلك في
عديد الدراسات، لها خصوصية خطيرة. إنها تُنتج لِوَحدها عشرات
المشكلات الأخرى التي تحرم الذكاء التونسي، والعربي، من توليد
الحداثة أولا ثم من التعبير عنها بأقصى إمكانياته وفي أسرع الأوقات.
فالمشكلة تتوجب إذن تدخلا إصلاحيا سريعا في المجالات الموصولة،
ومن باب أولى في مجال التربية والتعليم.
إنّ هذا القطاع حساسٌ إلى أبعد الحدود. ومكانته المركزية في أية
خطة عامة للإصلاح تعود بالأساس إلى كونه يشترك مع قطاعات أخرى
في تحديد الهوية الدينية والهوية اللغوية للمجتمع من جهة، وفي
إطلاق العنان للشخصية لتشرع في الاضطلاع بنفسها .
في باب الدين، ونظرا لِما للعبادات وللفكر الديني من تأثير على
المعاملات، وهي ممارسة الحداثة، المطلوب التشارك بين مختلف
القطاعات الموصولة، لتصحيح النظرة إلى الدين. وعندما يتحَول الدين
في ذهنية الناشئة من عامل تواكل واستسلام إلى عامل نهوض ورقي
وسلام، حينئذ تتمكن المدرسة من أداء دورها على أفضل حال.
وبِما أنّ الفضاء المدرسي يتداخل فيه التعليم الديني مع التعليم
الدنيوي، فالمنشود إنجازه تثوير المنهجيات وتثوير البرامج العامة
71
والمناهج المُفَصلة. وما من شك في أنّ مثل هذا الإنجاز لا يتعلق بمادة
التربية الدينية فحسب وإنما بكل المواد التي تبرز فيها حاجة طبيعية
لتوليف العقل الديني الإنساني مع العقل العلمي.
كما أنّ التربية والتعليم قطاع تلعب فيه اللغة، إلى جانب الفكر الديني،
دورا مركزيا. لذا يتوجب تركيز اهتمام مُعادلٍ على إصلاح تعليم اللغات.
ويتمثل ذلك بالخصوص في تدعيم تعليم اللغات الأجنبية مع توصيفٍ
مدقق للمنهجيات التي ينبغي إتباعها لتحقيق الارتياح والانفتاح:
الأريحية في تقبل اللغة الأجنبية بلا مركبات؛ والانفتاح على العالم
بأسره، مع التأصيل في الثقافة النسبية وإعادة ترويجها وضخها في
الثقافة العالمية.
وبطبيعة الحال سيكون الإسهام في الثقافة العالمية بواسطة مختلف
اللغات التي في حوزة المتعلم التونسي، والعربي، وعلى رأسها
العربية. طالما أن تعليم اللغة العربية، سوف ينتفع، وبصفة طبيعية، من
دعم اللغات الأجنبية. وذلك تبعا لخطط على غرار تلك التي أطلقناها
:"التعريب العكسي"، وهو استخدام العقل اللغوي الذي تربَّى على
صرامة اللغات الأجنبية لتحويل الذكاء من اللغات الأجنبية إلى اللغة
العربية.
وليست المدرسة فضاء يختلط فيه الديني واللغوي فقط ليخدمان
المعرفي والعلمي بل إنّ الثنائي الجبّار يتحول أيضا إلى أداة لتصحيح
التواصل، سواءً كان معرفيا أم فنيا أم علميا أم تربويا أم اجتماعيا.
*******
72
إصلاح التعليم والداء المزدوج
كثر الحديث عن ضرورة إصلاح المنظومة التربوية والتعليمية.
ولئن كان هذا المطلب مشروعا فإنّ الطريق المؤدية إلى البدء
في الإصلاح تبقى غير واضحة. وهذا يُعزى في نظرنا إلى تركيز
التربويين والسياسيين على تبديل مضمون التعليم أكثر من
تركيزهم على ضرورة البحث عن أرضية فلسفية للإصلاح تكون
مستجيبة للمشكلات الخفية التي تعاني منها المدرسة
والجامعة في تونس وفي كل الوطن العربي. إذن الأحرى بنا
أن نحاول وضع الأصبع على مكمن الداء حتى تتضح معالم
الفلسفة المطلوبة.
تشترك مراحل التعليم الثلاثة في تونس وفي الوطن العربي عموما في
نفس الداء، ألا وهو سوء الأداء في مجال مزدوج: اللغات والعلوم. فهل
أنّ حصر الرداءة هناك يمثل فقط نتيجة لما آلت إليه عقود من التمدرس
العصري في ظل الدولة الحديثة، أم أنّه يهدي أيضا إلى منهجيةٍ
للإصلاح؟ أي، ألا يصح أن يكون ثنائي اللغة/العلم هو نفسه منهاجا
للإصلاح فضلا عن كونه موضوعه؟
سنركز على تناول السؤال الثاني لأنّ الإجابة عنه قد تحمل إجابةً عن
الأول. وفي هذا السياق نرى أنّ الارتقاء باللغة وبالعلم يعني إصلاح
تعليمهما، مما يتطلب إنجاز الإصلاح في المراحل الثلاثة. أما بخصوص
اللغة بالذات فهنالك مشكلة: لا بد من التأكد إن كان المقصود بها أداة
التواصل العام أم أداة لتدريس العلوم. فالخيار الأول يعني أنه لا يهم
التنسيق بين تدريس اللغة كمادة و تدريس المواد التي تُدرَّس باللغة.
أما الخيار الثاني فيعني الدخول في سجال عقيم حول مَن منهما
الأجدر بتدريس العلوم، العربية أم الأجنبية. و ينمّ الخيار الأول عن جهل
بأنّ اللغة لم تعد تُعتبر أداة أي مَحْمَلاً لرسائل تواصلية وإنما أيضا فكرا
ينقل ثقافة الناطقين بها إلى الذين يتعلمونها وله تأثيرات إيديولوجية
عليهم . وهذا يستوجب الحرص على تأمين التعبير الهوياتي لدى
المتعلمين للغة الأجنبية بصرف النظر عن تبني هذه اللغة لتدريس
العلوم من عدمه. أما الخيار الثاني فيعني القبول بتدريس العلوم
باللغات الحبلى بمفاهيم العلم الحديث
73
الحالة أيضا سنصل إلى نفس الاستنتاج، ألا وهو ضرورة ربط تدريس
العلوم بتدريس ما الذي نريد أن ننجزه بفضلها، مما يستوجب تدخل
"الرموز الثقافية" (التسمية مقتبسة عن محمود الذوادي)، وأيضا ضرورة
تدعيم اللغة كأداة وكفكر حتى يكون الأداء اللغوي في كل الحالات مرآة
تعكس الشخصية الوطنية.
كيف يُجسَّد ذلك؟ والحال أنّ الطفل عندنا تغيب عنه أشياء كدقة
الملاحظة والتفكير النقدي وروح التجديد والاكتشاف والابتكار وما إلى
ذلك من التملكات، مما يحرم المتعلمين من الاستفادة من العامل الذي
تتمحور حوله التملكات، ألا وهو الفضول العلمي. فهذا الأخير موجود
لدى الناشئة إلا أنه غير مستغل أفضل استغلال عند الصغار، فما بالك
عند الطالب الجامعي، الذي لم يبقَ لديه فضول وهو الذي قد تجاوز
سن صقل المواهب ونحت الشخصية. والحال أنّ قصور الكتب والمناهج
التعليمية وكذلك قلة التكوين المندمج لدى المدرسين على الأخص في
مجالي علم النفس وعلم الإجتماع من أهم العوامل المعرقلة لحسن
الاستغلال. أما أكبر عاهة في الجسم التربوي فهي فشل كل الأطراف
في توظيف الدين كرافد أساس، أي ك"رمز ثقافي" أساس، في تكوين
شخصية المتعلم المنتمي إلى ثقافة الإسلام. ويعود ذلك بالأساس
إلى غياب المنهجية الدينية التحررية و في المقابل إلى هيمنة
الممارسة الدينية الاستبدادية، أكثر مما يعود إلى عدم قدرة الإسلام
المزعومة على مواكبة الحداثة، ناهيك على توليدها.
إذن الفضول معطًى فطري بالمفهومين العلمي/العلماني وكذلك
الإسلامي. وهذا يعني على سُلم تطوير تعليم اللغة أنّ الفضول يبقى
فضولا مهما كانت اللغة المستخدمة لغرض استغلاله البيداغوجي
شريطة أن تكون اللغة مواكِبة آنيا للحداثة. وهذا يعني على سُلم تطوير
تعليم العلوم أنّ اللغة الأجنبية هي التي يتوفر فيها شرط حسن
استغلال الفضول من أجل اكتساب الحداثة، وبالتالي يبقى التعويل
على اللغة الأجنبية لتدريس العلوم الخيار الأسلم مهنيا وعلميا. زد
على ذلك فهو الأسلم حتى من الجانب الهوياتي، طالما أنّ الفطرة
المزمع تنميتها لدى المتعلمين قد تم تنظيرها مع الفطرة من المنظور
الديني. تبعا لذلك، تنسجم فكرة صيانة الثقافة الوطنية مع فكرة أنّ
74
اللغة العربية روحها الإسلام. وبما أن الإسلام دين التحرر من العبودية
ومن الاستلاب، بما في ذلك الاستلاب للغة الآخر، فحماية الثقافة
الوطنية بما فيها اللغة تمرعبرالتطعيم المستمر لعملية الكلام، إن لمّا
يحدث بواسطة العربية (في درس اللغة والاجتماعيات والإنسانيات) أم
بواسطة الأجنبية (في درس اللغة وفي درس العلوم)، بالدعائم
التحررية التي يحث عليها الإسلام ويستبطنها. وفي الأثناء، نتوقف عند
أهم هذه الدعائم:
أ. "الشريعة" وضرورة تدريسها كمحور استقرائي في وسط منظومة
الدين، أي تنظيرها مع النحو في منظومة اللغة.
ب. "الحركة" الإنسانية (الطبيعية والثقافية؛ الفردية والاجتماعية)،
وضرورة تدريسها كمفهوم وكممارسة متصلين بالقلب وبالعقل، اللذَين
يتصلان بدورهما مباشرة بملكة الكلام وبالعقيدة، إن بإحداهما أم
بكلاهما.
ج. "الطبيعة" وضرورة تدريسها كمصدر للطاقة وللحركة، ذي صلة وثيقة
بالطاقة و بالحركة الإنسانيتين (الثقافة). وتكون اللغة هي الأداة
المشتركة بين كل الناس لتأمين الربط بين الطبيعة والثقافة. هكذا
تبقى العلاقة بين هاذين المجالين في مأمن من النكوص حتى في
حال غياب العقيدة.
بالنهاية، إنّ إصلاح التعليم في مجتمعاتنا ذات الثقافة العربية الإسلامية
ليست مسألة تغيير للمناهج والبرامج دون الحفر في داخل المنظومة
المحافظة لغرض تغييرها نحو الأفضل. هكذا يكون الإصلاح رهنا برؤية
تربوية تطال ينابيع التفكير وأسس الفعل لدى المتعلم لتحريرها و
لتجديدها. إذا تحقق هذا الشرط في المراحل الثلاثة للتعليم ستكون
الأبواب مفتوحة أمام الطلبة الجامعيين للتقدم أشواطا في البحث
العلمي، مما يجعلهم قادرين على الإسهام في إنتاج العلوم، بلغة
سليمة، وأيضا على الإسهام في الوقت ذاته في تحقيق التعريب
وتبعاته من تعريبٍ للعلوم وللحداثة من جهة ومن تحديثٍ للغة العربية
من جهة أخرى.
75
-5-
منهجية الإصلاح العام
76
ما هو البديل عن السلفية؟
باقتراب موعد 23 أكتوبر 2012 المثير للجدل كانت المؤشرات تزداد تأكيدا
على فشل حكومة الترويكا في عملها بقيادة الحزب ذي المرجعية
الدينية، أكثر من تأكيدها على إمكانية التدارك. فبالرغم من أنّ هذه
الحكومة ائتلافية، إلا أنّ غلبة اللون الديني عليها، كسابقة في التاريخ
السياسي للبلاد، يُعدّ في رأينا العامل الأساس المسؤول عن اهتزاز
الأرضية السياسية العامة بالبلاد وعن ارتجاج العقل السياسي فيها.
والأدهى والأمر من فشل الحكومة أن تصبح طلبات الشعب الثورية من
حرية وكرامة وغيرها خالية من الدلالة الحقيقية وذلك بالرغم من أنها
بديعة ومشروعة. وهي كذلك لا لأنها بالية ومتكررة، ولا لأنها مستحيلة
التحقيق أو مجحفة أو تعجيزية، بل لأنّ منهاج تحقيقها حاضر بغيابه.
فالمجتمع يفتقر إلى الوسائل المنهجية السانحة للنضال من أجل
تحقيق أهداف نبيلة إلى درجة أنّ ذلك الفقر صار ينزل بكل ثقله على
الطلبات نفسها، مما يُشوّش على العقول ويشكك حتى في الأهداف.
لماذا كل هذا الارتباك في الاهتداء إلى المنهاج الثوري القويم؟ نفترض
ببساطة أنّ السبب يكمن في أنه قد تم "الركوب" على الثورة، ولو أنّ
"الركوب" لم يكن متجسدا في الابتعاد تماما عن الأرضية الثورية، وإنما
يتجسّد في كوننا لم نعُد متشبثين بهذه الأرضية بواسطة القدمين
الاثنتين، أو ربما لم نطأ هذه الأرضية أبدا بالاثنتين معا، كما سنرى. فما
هو العامل الرئيس المتسبب في حدوث مثل هذه الزلة الخطيرة؟ وما
هو البديل المنهجي الذي كان من شأنه أن يسهم في تخطي عقبة
23 أكتوبر وفي التقدم بالبلاد إلى المرحلة الانتقالية الموالية بنجاح؟
يأتينا الجواب من مجابهة مقولة نعتبرها مثيرة للجدل ألا وهي "فصل
الدين عن السياسة" ومن تفرعاتها على غرار " التصدي لكل أشكال
التوظيف السياسي للدين ". فمطلب الفصل مثير للجدل لأنه صائب
بقدر ما هو مخطئ. وفي بطانة هذه المفارقة يكمن اللغز بخصوص الزيغ
المنهجي. إنّ البيان صائب إذا اعتبرنا أنه قد تم فعلا توظيف الدين في
السياسة، أولا بالترخيص لحزب النهضة الديني، ومن بعده حزب التحرير
وأحزاب سلفية أخرى، في النشاط العلني. وجل الناس يعلمون أنّ فوز
حزب النهضة بالأغلبية النسبية في انتخابات 23 أكتوبر يعود بالخصوص
77
إلى كونه حزبا دينيا. كما أنّ الدين يتم توظيفه بين الحين والآخر من
قِبل أطراف خفية وأخرى مكشوفة إلا أنها فاعلة سلبا في المجتمع
بحُكم خطابها المبسّط بدعوى بساطة الدين الحنيف. وهذه الأطراف
تلجأ إلى أنماط خطيرة من توظيف الدين في السياسة رغم أنّ الأنماط
تختلف عن بعضها البعض في درجة الخطورة. وتكمن خطورة التوظيف
في كونه يكرس الانقسام والفرز في داخل المجتمع السياسي،
ويتسبب في حيرة المجتمع ككل.
والمطلب مخطئ لأنه لا يأخذ بعين الاعتبار أنّ توظيف الدين في
السياسة قد تم فعلا وهو من المحصول الحاصل، لذا فالأجدى بالعقل
المجتمعي أن يسايره لا أن يقصي العمل به. فالإقصاء هو الذي كان من
قبل قد تسبب في تنامي ظاهرة الإسلام السياسي وكذلك السلفية
بأصنافها. فالأحرى بالنخب المثقفة أن تفكر في مكانة الدين الطبيعية
وفي دوره الطبيعي إذا اعتبرنا مشروعية رفض أن يُمزج الدين
بالسياسة. وهذا يتطلب استبدال "مقاومة" الفكر السلفي "على
أرضيته" بدل إقصائه طِبق مبررات غير علمية مثلما حصل إلى حدّ الآن
(اقتبسنا العبارات المكتوبة بين معقفين من عند الأستاذ محمد الطالبي
والواردة في مقاله الممتاز "الشريعة هي المشكل والحل في إلغائها"،
2012 ، ص 5). و أول سؤال يتبادر للذهن -10- نشر ب"المغرب" بتاريخ 7
من هذا المنظور هو: هل الدين صار مسألة شخصية إلى درجة أنّ
حتى الثورة لا تقبل التعبير عن الآثار الطيبة للإيمان، ولو كانت تلك الآثار
تُسجَّل بالضرورة في المجال السياسي؟
إنّ إيجاد أجوبة ضافية عن هذا السؤال تستوجب الاعتراف بوجود خلل
في كيفية التعامل مع المسألة الدينية. ويتجلى الخلل إجمالا في عدم
استطاعة العقل المجتمعي توظيف الدين كعامل توحيد، وبالتالي عدم
استطاعته أن يحُول دون أن يُستغَلّ الدين للتفريق بين مختلف
الحساسيات والأطياف المذهبية والسياسية. وبالرغم من أنّ الحركات
الإسلامية قد فازت في الانتخابات إلا أنها فشلت (مَثلها مَثل الأحزاب
العلمانية) في تعبئة شرائح المجتمع العربي المسلم بنفس الكثافة
والإجماع والقيمة التي يقدر الإسلام وحده على تعبئتها. كما أنّ كل
الأحزاب والحركات باتت فاشلة في تصوّر بناءٍ لمجتمع ملتزم لكنه
78
عصري أي فاعل في التاريخ. وفي ضوء هاتين المعاينتين قد يكون
الوقت حان للتذكير بأنّ حياة المسلم تكون ناجحة لمّا يستلهم المسلم
دوافع التفكير والعمل والسلوك من تجربة رسول الله محمد صلى الله
عليه وسلم، لا أن يستنسخها منه عليه السلام. إنه قدوة المسلمين
ومرجعيتهم المسندة بالقرآن الكريم، لا نموذجا للاستنساخ. بهذه
الطريقة تكون حياة المسلم امتدادًا للإسلام المصدري ولحياة السلف
وتجديدا له، أي عودةً إلى الينابيع الإسلامية لكن بنظرة جديدة و
بأساليب حديثة. وهذا يتطلب اتخاذ موقف تاريخي يتلخص في ما يلي:
الإسلام وراءنا إذا اعتبرنا تجربة الرسول الكريم التجسيد الوحيد الذي
يجدر تسميته بالحقيقي للدين الحنيف؛ والإسلام أمامنا إذا اعتبرنا
المستقبل تطبيقا له، نتوق إليه ونضطلع بتحقيقه؛ وسيتبين أنّ الإسلام
فينا ومعنا آنيا إذا كنا قادرين على التمركز التاريخي على تلك الشاكلة.
للأسف لمّا حدثت ثورة 17 ديسمبر- 14 جانفي لم نكن، كمجتمع
مسلم، متمركزين هكذا. ثم عُقدت انتخابات دون أن يُسجَّل أيّ توجه
نحو الموقف التاريخي الضروري. هكذا تكون الثورة قد مكنتنا من وضع
قدم واحدة في مسار التاريخ بينما بقيت القدم الثانية عالقة في
الفضاء. وستبقى في هذا الوضع، وضع الزلة، ما لم نتصالح مع التاريخ.
والمصالحة تتطلب الاعتراف بالعامل الديني كمعطى تاريخي أي داخلٍ
في الثورة لا خارجٍ عنها. لكن هذا الشرط يرتطم بعقلية راسخة بفضل
إجماع (خطير) مفاده أنّ الإسلام لم يكن له دخلٌ قطّ في الثورة. وهذه
المغالطة الذاتية تتأكد من خلال معاينة الإقرار بأنّ "الثورة قد حصلت
بغير شعارات، لا دينية ولا اشتراكية ولا قومية ولا غيرها ". ومن هنا
نأتي إلى واجهة أخرى كانت تفتقر إلى التأصيل التاريخي، ألا وهي
الاستحقاق الانتخابي. وهي الواجهة التي نرى فيها المجتمع (الضيق؛
النخبوي؛ العلماني المتطرف؛ المنقوص من الأغلبية الصامتة) يضع ثقته
التامة في صندوق الاقتراع، الذي سيسفر حسب ظنه، عن نتائج
تعكس تاريخ البلاد وانفتاح أهلها واعتدال تديّنها. لكن يبدو أنّ المغالطة
الذاتية انطلت على العلمانيين المتطرفين ولم تنطلِ على إسلاميي
حزب النهضة، مما حدا بهذا الحزب أن يستغل الفرصة. فكان مجرد
الإقرار بأنها ثورة خالية من الشعارات فرصة سانحة له كي يستأثر برأي
الأغلبية ممن صوتوا فعليا (وهي أغلبية نسبية). وبالمحصلة أخذ الحزب
79
الديني لا فقط نصيبه من الإسلام، إن صح التعبير، وإنما أيضا نصيب
غيره المتخلي (الأغلبية الصامتة). وهنا تكمن المشكلة. إذ إنّ التمتع
بنصيبٍ شرعي وبنصيب فائضٍ في الآن ذاته يخلق الوصاية على الآخر
الذي افتُكّ منه نصيبُه. وهو ما سمي إعلاميا ب"ركوب الإسلاميين على
الثورة".
وقوفا عند هذا المستوى، نستنتج ما يلي:
أ. أنّ "الأغلبية الصامتة" التي لم تشارك في الانتخابات تمثل شريحة
حكيمة بقدر ما هي غير مسؤولة ومتخاذلة. إذ إنها من جهة توجست
خيفة من الانسياق إلى أحد القطبين، الإسلامي والعلماني المتطرف،
ومن جهة أخرى فرطت في "نصيبها من الإسلام" لفائدة حزب حركة
النهضة (وللسلفيين الذين سيظهرون فيما بعد). أي أنها كانت من الأول
قابلة لقوانين الوصاية التي ستمارس عليها.
ب. أنّ مجتمع النخبة (العلمانية واليسارية) كان يبحث عن الحلول
السهلة. ومن بين هذه الحلول لجوءه إلى صندوق الاقتراع على أمل أن
يكون هذا الأخير هو الفيصل في إقصاء الإسلاميين بما معناه أنّ
الصندوق سيثبت أنّ الإسلام السياسي ليس له مكان في مجتمع
مسلم. بينما النتيجة كانت معاكسة تماما لِما يتمناه مجتمع النخبة،
وكان الفوز للإسلاميين.
ج. إن فوز حزب حركة النهضة الإسلامي في مرحلة أولى ثم نكوصه
شيئا فشيئا إلى الوراء في مرحلة ثانية (الآن) دليل على أنّ صندوق
الاقتراع ، لئن هو الفيصل مبدئيا في السماح بالإدلاء بالأصوات في كل
عملية انتخابية ديمقراطية، فليس هو الفيصل (ولم يكن هو الفيصل)
في تحديد طبيعة المشكلات المتعلقة بالمسألة الدينية في مجتمع
متحِد تاريخيا حول الإسلام. بكلام آخر، لقد أجريَ الاستحقاق الانتخابي
كأول تجربة ديمقراطية في البلاد والحال أنّ المشكلات المؤثرة في
التوجهات الكبرى (وفي الأحزاب وفي البرامج السياسية وفي اختيارات
الناخبين)، ومن أهمّها تلك المتعلقة بالدين وبمكانته، بقيت عالقة. وإذا
بقيت عالقة يبقى الوفاق السياسي غائبا والفرز الإيديولوجي سائدا،
مثلما هو الحال الآن.
80
من هنا نتخلص إلى الإقرار بأنّ "ركوب" الإسلام السياسي على الثورة
(في تونس وفي مصر وفي ليبيا وأينما وقعت وستقع الثورة) برهان
على ضرورة ضم الدين إلى المسار التاريخي للثورة. ذلك أنّه كان
"ركوبا" اضطراريا في انتظار أن يصير تأصيلا اختياريا. وهو كالسراب
يحسبه الظمآن ماءً، لأنّ رموزه يبثون خطابا فُصاميا، لكأنّهم يقولون
للمسلم: "أنت لم تكن مسلما أبدا، ولست مسلما الآن، لكن ستكون
مسلما طالما أنك تأتمر بأوامر أناس طيبين مثلنا". وهذه هي الوضعية
التي نرى فيها قدَما واحدة، دون الثانية، راسخة في الأرض. بينما يكون
التصحيح التاريخي بالقول: "كنتَ مسلما، وأنت الآن مسلم طبعا، لذا
كن مستقبلا أفضل مما كنت ومما أنت الآن". ولكي يتم تصحيح الثورة
وتثبت القدمين الاثنتين على اليابسة لا بدّ على العقل المجتمعي أن
يستبطن الحقيقة التالية: كنا مسلمين قبل الثورة فليس هنالك داعيا لا
للركوب عليها باسم الإسلام (كما حدث اضطراريا) ولا للتنصل من
الإسلام، إما على خلفية الخشية من أن يركب عليها فرقاء سياسيون
باسم الدين وإما، في الصورة المعاكسة، بواسطة الإقصاء المتعمد
للدين بدعوى الطبيعة العلمانية للثورة. إذا تخطينا هذه العقبة، عقبة
التمركز التاريخي، ستأتي تدريجيا الأجوبة المتعلقة بالسؤال المحوري
"هل يُمزج الدين بالسياسة أم يُفصل؟" وسيكون ذلك من دون هوَس،
نظرا لأنّ السؤال بحد ذاته مؤشر على علل بليغة كامنة في المجتمع
تتعلق بالموقف التاريخي الخاطئ، أكثر من كونه معبّرا عن العلة
نفسها. فتصحيح مشكلة الموقف التاريخي ستكون نقضا لذلك السؤال
من أساسه.
كما نتخلص إلى التشديد على أنّ التجربة الإسلامية (الحضارية
والثقافية والإيمانية)، التي هي سابقة للثورة، لم يبق سوى أن تُستقرأ
كقانون أنسني وناموس تاريخي لشعب تونس بل للأمة العربية
الإسلامية، لا أن تُستبعد كما يريد العلمانيون المتطرفون، ولا أن
تُستبدل بأخرى ابتداءً من نقطة الصفر الواهية، كما يريد الإسلاميون. إنّ
النقطة الصفر الأصح هي تلك التي تطلق العنان للمخيال السياسي
كي يبحث عن البديل عن السلفية. وهي النقطة التي يتلاقى عندها
الماضي والحاضر والمستقبل في الوعي في الآن ذاته.
81
بالنهاية لئن لا يعني الإقرار بتاريخية الإسلام الابتعاد عن إنجازات
السلف (وهي التي وراءنا)، ولا عن مقاصد الإسلام (وهي التي أمامنا)
ولا عن مضمونه (الذي هو في كل زمان ومكان)، فتبقى الطريق إلى
التحرر التام طويلة وشاقة لأنّ بعد تصحيح الموقف التاريخي واستشراف
الإستراتيجية الإرشادية الحديثة سيأتي حتما دور تفصيل المنهاج
وتصريف الخطاب وتحرير الرسالة المعاصرة للمسلمين. للتلخيص، هل
يُمزج الدين بالساسة أم يُفصل عنها؟ أعتقد أنه لا ينبغي أن نبقى
عالقين بإجابة جاهزة عن هذا السؤال لأنّ طرح السؤال يدل على عدم
استعداد المجتمع لاستبطان فكرة التنوير، ناهيك أن يعي بأنّ العمل
المطلوب إنجازه يهدف إلى محو كافة المشكلات المغلوطة وما يتعلق
بها من حلول ظرفية لا تصلح إلا كمسكنات. فهل النخبة التربوية جاهزة
لأداء دورها الإرشادي وهل المجتمع مستعد لاسترشاد؟
*******
82
من أجل إحداث وزارة للشؤون اللغوية
بلغة السياسة قيل لنا إنّ "الخلافة السادسة" (مقولة رئيس الحكومة
الشهيرة) لا تعني "الخلافة السادسة". وبلغة الجغرافيا كاد المبحرون
على أمواج المواقع الاجتماعية يصدقون ما قاله بعضهم محاكاةً لمنطق
وزير خارجيتنا أنّ " تونس هي البلد الذي يأوي أكثر عدد من
التونسيين". أما من خلال لغة "المجلس الوطني التأسيسي" فنكاد
نؤمن أنّ فعل "أسس" لم يعد يعني نفسه وإنما أضحى يعني كل
شيء عدا التأسيس. هكذا ربما سيأتي اليوم الذي ستكون فيه عبارتا
"ديكتاتورية" و "ديمقراطية" مترادفتين. أو لعلنا نعيش ذلك فعليا الآن.
فما أصل المشكلة وما العمل؟
إذا أضفنا إلى زلات اللسان الرئاسية والحكومية، وإلى الإنشاءات
اللغوية الصادرة على لسان رموز الترويكا الحاكمة، سلسلة التسويفات
الوزارية التي تمس جُل القطاعات الحساسة من تشغيل وتربية وصحة
واقتصاد، سوف تكون العصارة غير بعيدة عن مدلول جُملٍ أو عناوين مثل
"ليس التشغيل من مشمولات وزارة التشغيل" و "جني الزيتون عمل
صالح لحاملي الشهادات العليا"، سنفهم أنّ هذه التناقضات ليست
كلامية فحسب وإنما هي حقيقية ومتعلقة بالعقل الباطني لأصحابها
وبالتأكيد للمجتمع الذي أفرزها.
ولو بحثنا عن سبب هذه العلة لوجدناه بسرعة مذهلة: هل كان
بالإمكان أن ننتظر نتيجة مغايرة لهذه النتيجة المعتلة لمّا نعلم أننا كلنا
فسحنا المجال للنخبة السياسية بأن تستدرج شعبا مسلما لأن يقبل،
إن بصفة مباشرة أم غير مباشرة، أن يُحكم بعنوان الإسلام لكأنه لم
يكن مسلما؟ فمَثلُ ذلك مَثل من يقول لأخيه أو لجاره "صباح الخير"
مرارا وتكرارا فيثير بذلك تعجبه ثم ملله ثم غضبه لأنّ صاحبه ردّ عليه
السلام ولم يعد هنالك داعيا للتكرار، مما قد يتسبب في شجار بينهما،
أو كمثل من يقول للأرض "دوري" وللمُغني "غنِّ". في ضوء هذا نفهم
أنّ المعنى المنطوي في "وزارة التشغيل لا تعنى بالتشغيل" استنساخ
ل"إسلام التونسيين ليس إسلاما" وهكذا دواليك.
83
حببنا أم كرهنا نحن التونسيون، ككل العرب، كائنات ثقافية إسلامية
فضلا عن كوننا، ككل البشر، كائنات لغوية. ومن سوء حظنا أننا منذ
تاريخ الترخيص للحزب الديني (حركة "النهضة") بالوجود وبالنشاط
العلني، بات العقل اللغوي فينا يحمل لوحده وزر نفسه ووزر العقل
الديني في ذات الوقت. ذلك أنّ العلاقة الوطيدة بين الإسلام واللغة
(العربية) لم تعد محل تشكيك. وبالتالي كأني بنا لم نكتفِ بمشكلات
مثل الازدواجية اللغوية، والتجاذب الوحشي بين اللغة العربية الفصحى
واللهجة العامية، والتجاذبات الخطيرة في داخل فضائنا اللغوي بين
اللغات الأجنبية في ما بينها، وبينها وبين العربية، فأثقلنا كاهل الكيان
اللغوي بمشكلات ذات طبيعة دينية حتى صار العبء اللغوي عبأين
اثنين.
في هاته الحالة هل من مخرجٍ للاختلال الفكري والسياسي والتواصلي
الذي فضحه الأداء اللغوي المرتبك غير مجاراة المشكلة وذلك بمواجهتها
على الجبهة اللغوية ومغادرة الجبهة الإسلامية عن طواعية ابتغاء
تحريرها من تجاذبات وضغوط شتى؟ قد تكون هذه فرصة للعود إلى
قواعدنا سالمين وذلك لأنّ الواجهة اللغوية تتمتع في الآن ذاته بامتيازات
ثلاثة مقارنة بالواجهة الدينية:
أ. التعبيرعن الديني مضمون في اللغة.
ب. القداسة اللغوية نسبية وبالتالي فاللغة تخضع للتجربة الممنهَجة
أكثر مما يفعله الدين.
ج. للغة علمٌ حديث (الألسنيات) يعنى بها وبتطورها وبوظائفها على
عكس الدين الذي احتار علماؤه المعاصرون في تأصيله في العصر
الحديث. إذن قد يكون الجهاز اللغوي أداة فعالة لإدارة التديّن وبالتالي
لإدارة الحياة العمومية للمتدينين، فضلا عن كونها أثبتت جدارتها بإدارة
حياة البشر كافة بصرف النظر عن العامل الديني.
بكلام آخر، لمّا تشتغل اللغة سويّا فكل شيء سيشتغل سويّا بما في
ذلك التديّن بالإسلام (وبغير الإسلام). فاللغة عُرفت منذ القِدَم بأنها
فقط أداة للتخاطب وللتواصل. ثم في العصر الحديث صارت تعتبر أيضا
فكرا أي موقفا وسلوكا. وليس هنالك ما يمنع اللغة اليوم من أن تصبح
84
أداة إدارية. من هذا المنطلق نعتقد أنّ إحداث وزارة للشؤون اللغوية في
بلدنا، وفي كل بلد عربي آخر، سيكون له أثر محمود على السياسة
الكبرى للبلاد وللوطن العربي كافة إن لم نقل سيكون للوزارة دور الريادة
في تسيير شؤون العباد تضاهي أو تفوق في الخطورة وفي النجاعة
دور الوزارة الأولى. على أية حال نرجو أن لا تكون "وزارة اللغة" زلة
لسان أو لغوا.
*******
85
ما معنى أن تكون لنا وزارة للغة؟
في تونس وفي بلدان "الربيع العربي" أسفر الواقع المتردّي في
المجالين اللغوي والديني (أو التديّني) عن تشابك رهيب بين هاذين
البعدين، مما انتهى إلى دمجهما معا وبالتالي إلى بروز مشكلة
مزدوجة تتسم بالاستعصاء. لقد أصبحت مشكلة قائمة بذاتها تؤثر في
الحياة العمومية وفي السياسة على الأخص. وقد انجرت عنها ظواهر
خطيرة نعيشها اليوم مثل العنف السياسي و السلفية والانفلاتات
بجميع أنواعها بما فيها الانفلات الديني والانفلات اللغوي.
فالمشكلات السياسية (المختزلة في تلكم الظواهر الخطيرة) الناجمة
عن المشكلة التواصلية (اللغوية/الدينية)، من بين أصول أخرى، أدركت
درجة عالية من الاستعصاء هي الأخرى، مما جعلها تتجاوز كل
السلطات التنفيذية التقليدية مثل وزارات التربية والتعليم العالي
والشؤون الدينية والثقافة وغيرها، وبالتالي جعلها تنحصر في بؤرة
اسمها الحل الأمني والمتجسد في المؤسسة الأمنية أي في وزارتي
الداخلية والدفاع الوطني. ومع ذلك فالمجتمع السياسي من سلطة
ومعارضة وأحزاب، وأيضا المجتمع المدني، لا يعيران لب المشكلة
السياسية، أي الجذر اللغوي/الديني، الأهمية التي يستحق. فكيف
تسمح النخب السياسية والفكرية لنفسها بتجاهل صفارات الإنذار
التي يطلقها المنكبّون على المسألة، وفي الوقت ذاته يندهشون من
تنامي الظواهر الخطيرة؟
وللارتقاء بالمسألة إلى مستويات تخول للمجتمع بأسره البحث عن
الحلول واتخاذ التدابير اللازمة لتجاوز الوضع المتأزم، وتخول للسياسيين
ضرب المفارقة التي تكبلهم وتحرمهم من التفرغ لإسعاد العباد ولتطوير
البلاد، ارتأينا أن نقترح إحداث "وزارة الشؤون اللغوية" (مقالنا الأول الذي
كتبناه في هذا الغرض منشور على الانترنت وفي جريدة الصباح بتاريخ
2012 ص 10 ). فما معنى أن تكون لنا وزارة للغة؟ -12 -2
إنّ معنى ذلك هو أنّ للغة سلطة لم يتفطن لها السياسيون. وحتى لو
تفطنوا لها لمَا قدروا على تملك هذه السلطة ليمارسوها بما ينفع
البلاد والعباد. فالسياسيون في معظمهم يستعملون السلاح اللغوي
86
الفتاك لكنهم يفعلون ذلك لغايات عادة ما تكون مريبة ومشبوهة ومثيرة
للجدل إن لم نقل خسيسة مثل التملق للشعب ولجمهور الناخبين
الافتراضيين أو الفتك بخصومهم أو ممارسة المماطلة و التسويف إزاء
قضاياهم الساخنة والمستعجلة مثل قضية تحرير الدستور وتعيين تاريخ
الانتخابات القادمة والعدالة الانتقالية وتطهير المؤسسات من الفساد.
وليس من باب الصدفة أن عُرفت لغة السياسيين ب"اللغة الخشبية"
والحمالة لأوجه والمزدوجة وما إلى ذلك من الأوصاف السالبة.
أما التوظيف الإيجابي لسلطة اللغة كما نراه فيهدف أولا وبالذات إلى
وقاية عامة الشعب من اللغة الخشبية للسياسيين. وهذا يفترض
تحويل الشعب، بما أنه سيصبح متملكا للغة ولسلطتها، من رعاعٍ تابعٍ
لقادة يأمرونه وينهونه حسب أهوائهم ومصالحهم إلى كتلة فاعلة مؤثرة
في النخبة السياسية بل ومحاسبة لها.
وسلطة اللغة، ككل سلطة، وإن اعترفنا أنّ لها سلطة، تستدعي هيكلا
تنفيذيا. في هذا الخصوص نعتقد من جهة أنه لم يكن أبدا للهياكل
التقليدية التي تعنى باللغة في تونس وفي البلاد العربية من
الصنف المذكور أنفا أية فاعلية تذكر في الارتقاء باللغة من مرحلة
الأداة إلى مكانة الفكر، ناهيك أن تحوّلها إلى سلطة تنفيذية لها
كلمتها في المشكلات السياسية المتنوعة. كما نعتقد من جهة
أخرى أنّ الهيئات العلمية والثقافية المتمثلة في مجامع اللغة
والجمعيات الألسنية و الفرق المسرحية والسينمائية وغيرها
ممن تشتغل أساسا بواسطة اللغة وتسعى إلى حسن توظيفها
وتطويرها لم تفلح إلا قليلا في الرفع من الشأن اللغوي، ومنه في
الشأن السياسي. والسبب في ذلك يتلخص في حصر الشأن
الثقافي عموما واللغوي خصوصا في بوتقة لا تتصل بمجال الفعل
السياسي والقرار السياسي، لا بصفة مباشرة ولا بصفة غير
مباشرة.
إنّ الرفع من الشأن اللغوي انعكاس على الأداء السياسي أو لا يكون.
فاللغة العربية كانت على مر العصور وعلى الأخص منذ نزول القرآن
الكريم، بمعية الدين الحنيف، هي القاطرة التي تجر ركب التقدم
العلمي والرقي المعرفي عند العرب والمسلمين. وينبغي القيام
87
ببحوث خصوصية لاستقراء المبادئ التي ارتكز عليها أجدادنا حتى
كوّنوا من لغة القرآن تلك السلطة التي كانت تحكم بأحكامها في
مجالات الحياة كافة. وفي هذا الصدد لا يكفي التباهي بأنّ لغة
الضاد هي لغة كلام الله حتى نعيد لها بريقها ونوظفها في خدمة
الصالح العام. إنما المطلوب هو إيضاح علاقتها، بوصفها لغة القرآن
وكذلك بوصفها لغة العرب، بالدين والتديّن. وهذه مأمورية ذات
طبيعة علمية صرفة لا يمكن أن توكل لعلماء الدين دون سواهم
ولا للأدباء والألسنيين دون سواهم.
فإذا الدراسات أنجِزت والبحوث تمّت بما يكفي لإثبات العلاقة اللصيقة
والمتينة بين اللغة العربية، بل بين اللغة عموما، والدين
الإسلامي، وبما يشدد على البُعد السلطوي للغة، لم يبق سوى
ابتداع الإطار الضروري الذي سيسمح لمجتمعاتنا العربية
الإسلامية بتوظيف السلطة اللغوية لتغيير ما بالنفس حتى يغير
الله ما بالقوم والأمة. ونعتقد أنّ هذا البعد السلطوي للغة، وهو
بُعدٌ تحرري لا تسلطي، هو الذي يرشح هذه الأخيرة بأن تتمتع
بمرتبة المركز مقارنة مع كل نشاطات الحياة المنظمة.
إنّ صفة المركزية هذه في حياتنا كعرب ذوي أغلبية مسلمة ليست
غريبة عن اللغة العربية، لا تاريخيا ولا نظريا، مثلما رأينا. وبالتالي
يتوجب اليوم تلبية الحاجة الطبيعية لهذه اللغة وذلك بتزويدها
بالمكونات الضرورية التي تثبتها في وضعها، الجديد والمتجدد،
كمركز في مجال القرار السياسي. بهذا المعنى تكون وزارة اللغة
هي الهيكل الأمثل الذي يحتضن اللغة فيوفر لها الشروط
الموضوعية لتلعب دورها الطبيعي وتضطلع بوظيفتها كسلطة قرار.
وتكون هذه الوزارة المستحدثة بالتالي أمّ الوزارات كلها.
ومن أهم الصلاحيات المستقبلية لوزارة اللغة نذكر ما يلي: التكييف
العلمي لكل أصناف الخطاب، إن الديني من باب أولى وأحرى أم
العلمي أم الفني أم الأدبي والشعري أم الرياضي أم الشعبي.
من هذا المنظور يخول لهذه الوزارة تحديد البرامج التعليمية في
كل المواد، علمية كانت أم أدبية أم اجتماعية أم إنسانية. ويتم
ذلك عبر التشارك والتنسيق مع وزارات الإشراف التقليدية مثل
88
وزارتي التربية والتعليم العالي. كما يخول لوزارة اللغة الإشراف
على البرامج الثقافية والإعلامية، السمعية والبصرية والمكتوبة
تبعا للرؤية التحررية التي تسمح بها المستجدات في مجال
فلسفة اللغة وعلم الألسنيات وما اتصل بهما من علوم أخرى
وبالخصوص في مجال ترجمة التدين إلى لغة وسلوك.
أخيرا وليس آخرا، وفضلا عن تعاملها مع وزارات السيادة الثقافية
والهوياتية، ستكون وزارة اللغة قادرة أيضا على التفاعل ولو بصفة
غير مباشرة مع سائر الوزارات، إشرافا وتوجيها وتشاركا، وبنفس
الرصيد الفلسفي والوظيفي والتواصلي الذي تمارس بفضله
صلاحياتها إزاء الوزارات الأصلية.
*******
89
إلى من يريد نظام الحكم البديل
بعد أحداث مدينة سليانة الدامية، وبعد واقعة 4 ديسمبر بساحة محمد
علي النقابية، وعلى إثر سلسلة الإضرابات الجهوية ثم التهديد
بالإضراب العام (الذي أُلغى في يوم 12 من نفس الشهر)، وبالنظر إلى
أحداث الذكرى الثانية لاندلاع انتفاضة 17 ديسمبر بسيدي بوزيد وما
سجلناه أثناءها من غضب شعبي أدى إلى رشق المنصة الرئاسية
بالحجارة، وبعد ما سبق من تراكمات تصب في نفس الاتجاه، بِتنا على
يقين من أنّ تونس (ومصر و سائر بلاد "الربيع العربي") تعرف وضعا
أخلاقيا عاما مشحونا بالمزايدات السياسية والإيديولوجية التي تدفع
بالبلاد في داخل أتون جهنمي.
ولمّا نعلم أنّ وقود هذا اللهيب إنما هو حطب من أخطر الأصناف وهو
المتمثل في انشطار الوعي المجتمعي وما نجم عنه من انقسام في
الفكر السياسي، لا يسعنا إلا أن نشدد على ضرورة إخماد النيران من
الأسفل حتى لا تتأجج ألسنة اللهيب وتأتي على الأخضر واليابس.
فما الذي تحتاجه تونس ومثيلاتها غير فلسفة جديدة لنظام الحكم تثلج
الصدور دون أن تبرّد القوائم، وتشحذ العزائم دون أن تؤجج جمرات العنف
السياسي. لكن قبل كل شيء لا نرى بُدا من أن تلتزم الطبقة
السياسية بإنجاز مراجعة لما وفد عليها من أفكار على الأخص منذ
تاريخ اندلاع الشرارة الأولى للتغيير، ومن أن تتواضع هذه الفئة وتذعن
للتعاون مع النخب الفكرية. فلا الأفكار المسقطة من الهيئات الأجنبية
ستنفع البلاد ولا هي ذاتِ صلة بالواقع الثقافي للبلاد. ولا التعالي من
طرف السياسيين على أصحاب المقترحات الفكرية وعلى إنتاجهم
سيسمح للمجتمع بأن يحرز على التقدم المنشود.
كما تتأكد ضرورة تبديل الرؤية للحكم من خلال معاينة التباطؤ في عمل
المجلس الوطني التأسيسي والتلكؤ في الأداء الحكومي، والتصحر
الفكري والتشرذم الذي يميز قوى المعارضة السياسية. حيث إننا
نستشفّ من خلال هذه المعاينة أنّ الحق صار قيمة قد يراد بها باطل.
بدءً بالديمقراطية ومرورا بحقوق الإنسان من بين قيم حديثة أخرى
وانتهاءً إلى أيها أفضل النظام الرئاسي أم البرلماني أم الرئاسي
90
المعدل، الكل أضحى هُراء قابلا للتحوّل إلى باطل. أما السبب فهو في
نظرنا استحالة أن تهتدي النخب إلى البدائل الناجعة ما لم تكن هذه
الأخيرة نابعة من أعماق الشخصية الوطنية ومن لبّ العقل المجتمعي.
وفي هذا السياق نلاحظ أنّ المسار السياسي إلى حد الآن لم يفعل
سوى الحفاظ على البون الشاسع للتفريق بين ثنائيات محورية ثم
تثبيتها في تناقضها دون أن تسهيل دمجها في بعضها البعض. ومن هذه
الثنائيات نخص بالذكر ثلاثة: الخلافة/الديمقراطية والشريعة/القانون
والإسلام/حقوق الإنسان.
وإدراكا منا لخطورة تمادي الحالة على ما هي عليه، وانطلاقا من
مسَلمة مفادها أنّ التناقض بين طرفَي كل ثنائية إنما هو مفتعل إلى أن
تثبت استحالة دمجهما، نقترح إنجاز الدمج. وهي عملية من الممكن أن
تتم عبر آلية إصلاحية تبدو جزئية ولكنها ستكون شاملة إذا ما تمّ
استخدامها حسب منهجية دقيقة. ويتلخص ذلك في ما يلي:
أ. الآلية: إصلاح تعليم اللغات.
ب. المنهجية: اعتبار اللغة منهاجا للتغيير فضلا عن كونها أداة للتواصل
وعن كونها فكرا.
إذا اتفقنا على أن يكون إصلاح تعليم اللغات من جهة مدخلا للإصلاح
التعليم عموما وللإصلاح العام، وعلى أن يكون من جهة ثانية، وبالتوازي
مع ذلك، استحداثا لشروطِ تحوّلِ اللغة إلى منهاج للتغيير، سوف نحتاج
إلى خوض المراحل التالية:
أولا: اعتبار تونس، فضلا عن كونها دولة، العربية لغتها والإسلام دينها،
دولة خلافة ديمقراطية، أي دولة يخلف فيها رئيس جديد رئيسا انتهت
ولايته عبر الاقتراع العام في انتخابات دورية. وهي دولة خلافة لأنها أولا
وبالذات وبطبيعة الحال تمثل وتصون مجتمعا يؤمن بقيمة الاستخلاف
الإسلامية.
أما ما يجعل دولة الخلافة الديمقراطية مصانة من حيث صفتها المدنية
فهو من جهة اعتماد الشريعة الإنسانية أصلا في التشريع في مجتمع
المواطنة الذي يؤمن بالاستخلاف، ومن جهة ثانية وبالتوازي، اعتماد
91
حرية الفرد والمجتمع وسيلة طبيعية لإثبات هوية الشعب الاستخلافية
وللاضطلاع بالمواطنة، وذلك عبر كافة الوسائل المعرفية والعلمية
والتواصلية المتاحة وفي مقدمتها اللغة كأداة وفكر ومنهاج.
ومن الفوائد المنجرّة عن التحرر في ظل هذا التصور للدولة أن يسهم
المواطن التونسي، بفضل الإمكانية المتاحة له لتوليد المزيد من
الحقوق الإنسانية، في تكميل وتنقيح وتقوية المنظومة الكونية لحقوق
الإنسان. ومن أبرز المهارات الكفيلة بتحقيق ذلك أن يصبح المواطن
قادرا على تحديد واجبات الإنسان في المجتمع الدولي حيال مجتمعه،
القُطري والكبير، وحيال المجتمعات المسحوقة. وهذا ممّا يجعل
المجتمع التونسي متمكنا من الفكر الكوني، إن حقوقيا أم معرفيا
وعلميا وحضاريا.
ويترتب عما سبق عرضه في المقدمة وفي البند الأول من آلية و
منهجية وأهداف وغايات القيام بالإجراءات والإصلاحات كما هي مبوبة
في البنود الموالية، وهي كالآتي:
ثانيا: إحداث مؤسسة في رتبة وزارة تعنى بالشؤون اللغوية. ومن
مشمولات هذه المؤسسة العمومية توحيد القاعدة اللغوية/العقدية
للنسيج الثقافي العام، بما يتطلبه ذلك من إحكام التنسيق بين مختلف
دواليب الدولة، رئاسة وحكومة وبرلمانا وسائر الهياكل المركزية، وبما
يتطلبه ذلك من تجسيد لمعنى دولة الخلافة الديمقراطية.
ثالثا: إقحام مادة علمية محورية جديدة اسمها "الإسلاميات اللغوية
التطبيقية" في مناهج التعليم وتنظيم الدراسة، إن في اللغات و
الإنسانيات والاجتماعيات أم في العلوم الصحيحة والعلوم التجريبية،
شيئا فشيئا حسبما تستوجبه خصوصيات هذه المادة ومقتضياتها فضلا
عن الخصوصيات والمقتضيات المتعلقة بتكوين شخصية الإنسان
التونسي وكذلك تلك المتعلقة بارتقاء المجتمع نحو الأفضل.
رابعا: تنظيم تعليم اللغات الأجنبية بصفة تسمح بالعناية بقيمة
الحداثة، عبر ترجمتها ترجمة عينية لا نصية إلى اللغة العربية وكذلك
عبر إنتاجها بواسطة اللغة العربية. وقد أسمينا هذه المقاربة ب"التعريب
العكسي" أو "التعريب غير المباشر" بناءً على أنها رصدٌ لفوائد
92
السياسة اللغوية الجديدة المطبقة في المجتمع ككل فضلا عن كونها
جنيٌ لهذه الفوائد داخل المدرسة والجامعة بواسطة الاستئناس باللغة
الأجنبية كفكرِ حمّال للحداثة.
أخيرا وليس أخرا نرجو من سياسيي هذه البلاد الوقوف على إمكانيات
النخب والشعب الحقيقية، بما يلزم من الثقة في النفس ومن الندية
حيال البلدان المتقدمة وسياسييها، حتى يكون القرار الوطني مستقلا
بالقدر الذي يجعله مرآة تعكس طموحات الشعب الكامنة. ونتمنى أن
تكون محاولتنا هذه تصب في هذا الاتجاه.
انتهى
محمد الحمّار
في تونس في 23 ديسمبر 2012
صورة:http://www.alfajrnews.net/atp/ar/images/newspost_images/kitab-mh-alhamar.jpg


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.