نظم قسم الدراسات الإسلامية بالمجمع التونسي للعلوم والآداب والفنون "بيت الحكمة"، اليوم السبت 5 جويلية، محاضرة ختامية للسنة الأكاديمية 2024-2025، حملت عنوان "الثقافة الوطنية في عصر العولمة"، ألقاها الأستاذ توفيق بن عامر، بحضور ثلة من الأساتذة والباحثين والمهتمين بالشأن الثقافي والفكري الوطني. وجاءت المحاضرة، بحسب المنظمين، في سياق تفكيري حول التغيرات الجذرية التي طرأت على مفهوم الثقافة الوطنية في ظل التسارع التكنولوجي وتنامي تأثيرات العولمة وما نتج عنها من تحديات كبرى تهدد الخصوصيات الثقافية للشعوب ومنها الثقافة العربية والإسلامية. في مستهل محاضرته، شدد الأستاذ توفيق بن عامر على أن الثقافة الوطنية ليست معطى جامدا أو قالبا مغلقا مؤكدا أنها كيان حي وتطوّري تشكّل عبر قرون بفعل تراكمات حضارية وتفاعلات تاريخية داخلية وخارجية. وأشار إلى أن الثقافة التونسية كمثال تحمل في عمقها ثلاث سمات كبرى هي التمسّك بالثوابت الروحية والحضارية، والانفتاح على الآخر والتفاعل الخلاق معه، وكذلك التنوّع والتعدّد داخل الوحدة الثقافية الجامعة. كما أكد أن هذه الخصائص هي التي سمحت للثقافة التونسية والعربية الإسلامية عموما بأن تصمد أمام التغيرات الكبرى عبر التاريخ، وأن تظل محتفظة بملامحها الأصيلة رغم التحولات. وتناول الأستاذ بن عامر مفهوم العولمة الثقافية باعتبارها أحد أبرز تحديات العصر، محذرا من أن العولمة في شكلها المهيمن حاليا لا تقوم على تفاعل متكافئ بين الثقافات وإنما هي تتّجه نحو فرض نموذج ثقافي واحد هو في الغالب النموذج الغربي النيوليبرالي الذي يعيد تشكيل أذواق الأفراد ونمط تفكيرهم واستهلاكهم وقيمهم الاجتماعية. وأبرز أن العولمة الثقافية ليست عملية حيادية وإنما محمولة على منطق القوة الاقتصادية والسياسية والتكنولوجية وهو ما يجعلها أداة لاختراق النسيج الثقافي المحلي. وأضاف: "لقد أصبحت أدوات التأثير الثقافي من إعلام وسينما وموسيقى ولغات رقمية في يد قوى كبرى تتحكم في مضامينها واتجاهاتها بما يهدد التنوع الثقافي العالمي ويؤدي إلى تآكل الهوية الوطنية خاصة في المجتمعات التي لم تتحصّن بالمؤسسات الثقافية الفاعلة والسياسات الواعية". وناقشت المحاضرة كيفية استجابة الثقافة الوطنية لمؤثرات العولمة، مشيرا إلى أن بعض الدول قد نجحت في تحويل العولمة إلى فرصة لتطوير منظوماتها الثقافية وتعزيز الحوار الحضاري وبناء جسور التفاعل مع العالم، في حين أن دولا أخرى ومنها بعض الدول العربية، ظلت في موقع المتلقي السلبي ما أدى إلى حالة من الانبهار أو في المقابل انغلاق لا يقل خطورة. وطرح بن عامر أسئلة جوهرية منها بالخصوص إن كان بالاستطاعة الحفاظ على ثقافتنا الوطنية في بيئة أصبحت مفتوحة بلا حدود؟ وهل يمكن بناء مشروع ثقافي وطني يزاوج بين الأصالة والانخراط العقلاني في العالم؟ وكيف يمكن تحويل العولمة إلى أداة للتحرّر الثقافي لا للاستتباع؟ واختتم الأستاذ محاضرته بالدعوة إلى ضرورة إطلاق مشروع وطني ثقافي شامل ينبني على محاور أساسية هي إعادة الاعتبار للتعليم والثقافة في السياسات العمومية، وتعزيز الإنتاج الثقافي المحلي ودعمه ماليا ومؤسساتيا وتشجيع الصناعات الثقافية الرقمية، إلى جانب الاستثمار في الذاكرة الجماعية وتاريخ الأمة وكذلك ترسيخ قيم التسامح والاعتدال والانفتاح في الخطاب الثقافي والإعلامي. وشدّد على أهمية بناء جبهة ثقافية فكرية واعية قادرة على صون الهوية الوطنية، لا عبر الانغلاق بل عبر التفاعل الإيجابي الواعي مع العالم، مشيرا إلى أن "الثقافة الوطنية هي فعل مقاومة حضارية مستمرة وليست مجرد تراث محفوظ في الذاكرة".