لقد كتبت مرارا أن بلادنا في حاجة إلى اعلام أكثر حرية ومسؤولية، والحرية تعني حرية فى اختيار المواضيع وفى الطريقة التى تطرح بها في حين أن المسؤولية تعني تجنب المس بأعراض الناس أو الثلب أو تمس من أمن تونس كالمعلومات العسكرية علما أن المسؤولية لا تعني الجبن وإدارة الظهر للمشاكل أو التزام الصمت أمام المظالم .. وقد عارض هذا التوجه الوطني بعض الأشخاص الذين «كفروا» من نقد أو عارض بعض المصالح، وهم غير منشغلين بمصلحة البلاد بل بمصالحهم الخاصة فقط .. فهم يتجاهلون أنه لا يمكن للسلطة أن تتنبأ بالمشاكل والأخطار إذا غض الإعلام عنها الطرف ... فمن يبلغ المعلومة للسلطة حتى تبحث عن الحلول في الوقت المناسب ؟ ومن يشير إلى الاخلالات والى مطالب الناس وتطلعاتهم حتى لا تحجب الحقيقة عن السلطة ؟ ثم ما الجدوى من حصص تلفزية على سبيل الذكر لا الحصر يبدو ظاهريا أنها منابر للحوار والمصارحة في حين أنها تفتقر للصراحة والتلقائية وكأنها فضاء «للبروباقاندا» البدائية؟ إنه ما دامت التلفزة والاذاعة في قطيعة مع الواقع والحقيقة فستظلان دون مصداقية .. إننا لا ندعو إلى إعلام همجي بل إلى أعلام حر ونقدي يفيد النظام، لأن في غيابه لا يمكن أبدا اتخاذ أنجع القرارات ، ثم لماذا التهجم على الإعلاميين المعتدلين إذا قدموا بعض الآراء والتحاليل التي تتميز بالجرأة والشفافية ووضع الإصبع على مكمن الداء.. هل نريد ترهيب من شاركوا على سبيل المثال في منابر حوار في إذاعة «شمس أف أم»أو «نسمة تي في»؟ فعوض أن تكفروهم عليكم أن تناقشوا أفكارهم وآراءهم ! إن الاختلاف رحمة ولا أظن أن هناك إعلاميين يدافعون عن مصلحة تونس أكثر مما تدافع عنها سلوى الشرفي أو زياد كريشان أو سفيان بن فرحات أو جمال العرفاوي أو حسن بن عثمان ؟ إن هؤلاء شرفوا المهنة وقدموا للسلطة اقتراحات وأفكارا تقتضي الإنصات إليها وأخذها بعين الاعتبار! كفانا رجعية إعلامية ترفض الإعلام الصادق المباشر الذي لا يخاف في الحق لومة لائم .. إن الإعلام الفاشل الذي لا ينقل الواقع بأمانة، خطره أكثر من نفعه... إن كل أبناء تونس معتزون بإنجازات النظام وهم مواطنون يدركون أن هناك نقائص يجب تداركها، فلا مجال لتصوير الواقع على أنه في منتهى القتامة ولا مجال أيضا لخطاب «les beni oui oui» الذي يضر بالنظام على المستويين المتوسط والبعيد! نعم، لنا إنجازات عملاقة بفضل السياسة الرشيدة المتبصرة للرئيس بن علي كما أنه لنا ثغرات لم نهتم بها بما فيه الكفاية مثل النمو في بعض الولايات أو الشفافية في بعض التعاملات .. هذه حقائق لا يمكن لأي كان أن ينكرها أو يتجاهلها.. وماذا يمكن أن ننتظر إذا غاب الإعلام الحر والمسؤول ؟ إن غياب المصداقية في إعلامنا يؤدي حتما إلى البحث عن الحقيقة في القنوات التلفزية الأجنبية والى إفساح المجال للحركات المتطرفة وخاصة منها الدينية ! إن عدم التطرق إلى المشكل في وسائل الإعلام لا يعني عدم وجوده، وهذا أخطر شيء على مستقبل تونس، علما أني أرفض إعلام الضوضاء والإثارة والثلب والتحريض على الهيجان، ذاك الذي يحاول النيل من مكاسبنا الحضارية ... إن تونس تعج بإعلاميين لامعين ووطنيين يجب تشجيعهم ومساندتهم وتوفير الأطر الضرورية لكي يعبروا عن أرائهم أو يقدموا طروحاتهم بعيدا الانتماءات الحزبية أو عقلية الانتقام .. هناك مهنيون عديدون لهم مواقف محترمة بإمكانهم أن يشرفوا هذا البلد ويقدموا صورا صادقة عن الحقائق حتى تستأنس بها السلطة على صعيد أخر، إن دور بعض المسؤولين الجهويين كبير لأنهم لم يتدخلوا كما يقتضي الأمر ذلك لفض مشاكل جهاتهم كما لم يقدموا للسطلة المركزية المعلومات الكافية عن واقع الناس وطموحاتهم .. فأين استقبال المواطنين ومحاورتهم وقبول النقد وكأن البيروقراطية انتصرت على النضالية ؟ وأين البنوك التي بعثت لمساعدة أصحاب المشاريع من الشباب فهذه المؤسسات تضع شروطا تعجيزية لتقديم القروض ... وأين رجال الأعمال ليستثمروا في هذه الولايات إنهم يفضلون «المال السهل» والثراء السريع دون صعوبات .. ثم أين أحزاب المعارضة التي أصبحت أحزاب مساندة نقدية هي أشبه بالشاي البارد؟ إني لا أدعو للفوضى والمعارضة من أجل المعارضة أو تحريض الشارع على التحرك بل أطمح إلى أن أرى أحزاب معارضة تنتقد وتقدم اقتراحات عملية وتكتسح الجهات وتستقطب الشباب والمثقفين وسائر الشعب وتقدم بشجاعة ومسؤولية تصورها للحلول، أجلها وعاجلها.. إن المرض الحقيقي لعديد المسؤولين التونسيين هو الخوف وتجنب المشاكل التي تهدد مصالحهم وبحثهم عن البقاء في المناصب... إننا نحتاج إلى مسؤولين يتقدون جرأة ولا تشغلهم سوى تونس وكلهم ماهرون لا في الخطابة فقط بل في المحاورة وإثارة النقاش خاصة ! ثم إن كل المعطيات تفيد بأن بعض الولايات تطالب بأكثر استثمارات على صعيد البنية التحتية والمشاريع الاقتصادية... إن مسؤوليتنا جماعية وعلينا أن تتضافر جهودنا لتحسين ما يمكن تحسينه وأكبر الخطر ألا نصفي للآخر أو نوظف موت شاب لأغراض سياسية إن دماء بعضنا ليست بضاعة، بل إنها رسالة تفاؤل تطالبنا جميعا بتغيير أنفسنا إعلاميا وتنمويا، فضلا عن علاقة البعض منا المغلوطة بالمال والثروة التي تكسب بأيسر الطرق وأقصرها...