سنة ونصف مرت بعد قيام ثورة الحرية والكرامة... ومايزال المشهد الاعلامي التونسي كغيره من القطاعات المهنية يعيش العديد من التجاذبات.. وتتنازعه أجنحة الرغبة في الانطلاق والانعتاق مستفيدا من مناخ الحرية الرحب، ومواجهة قوى الجذب إلى الوراء.. ورداءة المضامين.. ومخاطر الانتهاكات والاعتداءات اللفظية والجسدية على الإعلام والإعلاميين.. وبقاء الجسم الصحفي دون محاسبة وتطهير.. كما ان عديد المصالح الحزبية والمالية، والحكومية، تتقاطع مع الرغبة الحقيقية في الإصلاح وتعرقل هذا المسار بإدخاله في متاهات تصرف النظر عن طرق الإصلاح الحقيقية.. فضلا عن ان مسألة تطهير الإعلام، بكشف الفاسدين من رموزه الذين تمعشوا في ظل النظام السابق وأضروا بالمهنة وبشرفها وهو ملف تتقاذفه جميع الأطراف خاصة مع رفض السلطات الرسمية الكشف عن الوثائق القانونية رغم أنها موجودة وموثقة- لتضمينها القائمة السوداء للإعلاميين، وللمضي قدما في ملف المحاسبة والمساءلة والمصالحة.. في هذا السياق اعدت «الصباح» بمناسبة اليوم العالمي لحرية الصحافة هذا الملف وفتحت المجال أمام جامعيين وإعلاميين وممثلين عن هياكل مهنية اعلامية.. للإدلاء بدلوهم وآرائهم في ما يتعلق بكل جوانب المشهد الإعلامي التونسي في هذه الفترة الانتقالية. رفيق
رئيس هيئة إصلاح الإعلام والاتصال ل«الصباح»: أحزاب تنظر للموعد الانتخابي المقبل وتبحث عن تموقع على حساب المهنة يعتبر كمال العبيدي رئيس الهيئة الوطنية لاصلاح الإعلام أن التعامل مع الإعلام اليوم تطغي عليه الحسابات الحزبية والسياسية في علاقة بالاستحقاقات الانتخابية المقبلة. ودعا السياسيين والمجتمع المدني إلى الإطلاع على تقرير الهيئة الذي انتهت مؤخرا من إعداده ليكون قاعدة ومنطلقا لإصلاح قطاع الإعلام.. وفي ما يلى نص الحوار: انتهيتم مؤخرا من اعداد التقرير حول الإعلام ولعل السؤال الأهم ماذا عن مصير هذا التقرير؟ أملنا أن يتم الاطلاع على التقرير الذي يعتبر تشخيصا لما لحق القطاع من دمار وفساد وسوء تصرف في الموارد البشرية والمادية طوال السنوات الماضية. كما يتضمن التقرير جملة من المقترحات والتوصيات لطي هذه الصفحة القاتمة في تاريخ الاعلام التونسي. وهي مقترحات ثمرة مئات اللقاءات مع إعلاميين وخبراء من تونس ومن الخارج لإعادة بناء المؤسسات الإعلامية على أسس سليمة مع تمكين القطاع من التغطية القانونية الحامية لحرية الصحافة والصحافيين والضامنة لإعلام سمعي بصري عمومي وغير عمومي يعمل وفق المعايير المهنية المعمول بها في الأنظمة الديمقراطية وأملنا أن يطلع على التقرير المتعطشون لغد أفضل للإعلام وأصحاب القرار في السلطة التنفيذية والتشريعية وأيضا المجتمع المدني وكل المعنيين بحق تونس في إعلام حر ونزيه. فالتقرير فرصة لتذكير بعض السياسيين وبعض المسؤولين أنه لا يمكن الحديث عن اصلاح الاعلام قبل الاطلاع على تجارب اصلاحية في دول ديمقراطية وقبل التدقيق في الواقع وتحليل وفهم ما لحق الإعلام من دمار على امتداد عقود. هناك مخاوف لدى البعض من سعي السلطة للسيطرة اليوم على الإعلام.. هل هذه المخاوف حقيقية ولها ما يبررها ؟ يجب أن نعرف أن سنوات الاستبداد وغياب التربية على الديمقراطية تؤثر في سلوك الناس. وعندما تتم ازاحة حاكم فاسد تجد من يتقلدون السلطة والمسؤولية هم بدورهم غير متعودين على التعايش ضمن نظام ديمقراطي.. ففي السابق كان يلام على بن علي أنه يتخذ قرارات دون تشاور واليوم تجد الحكومة النابعة من انتخابات ديمقراطية لا تتشاور ولا نشعر أنها تعتمد على مقاييس شفافة وعادلة لاختيار مدير عام لمؤسسة اعلامية عمومية وهي مؤشرات غير مريحة.. واليوم هناك تدخل لارباك الإعلاميين ومن أسبابه ضعف التربية خلال السنوات الفارطة على معرفة دور وسائل الاعلام وقواعده. فمن حقك كمسؤول النقد لكن ليس من حقك الاحتجاج على عدم تمرير نشاط أو التدخل لفرض تقديم خبر على آخر. والصحفي فقط من يحق له تقييم أهمية الخبر وأولويته وفق ما تعلمه من قواعد مهنية.. واليوم هناك أحزاب فازت وأخرى لم تفز تنظر جميعها إلى الموعد الانتخابي القادم وتريد فرض وجودهما على الساحة ولو كان الأمر على حساب المهنة الصحفية.. وتجربة الحكم صعبة ومن يمسك بزمام الحكم يسمح لنفسه بالتدخل في شؤون الصحفيين للتأثير عليهم.. ماذا عن موقفكم من الدعوات الأخيرة لخصخصة مؤسسة التلفزة التونسية؟ نحن كهيئة ذهلنا في الأسابيع الماضية عندما أصبح البعض يتحدث عن خصخصة الإعلام العمومي. وكأنهم لا يعلمون أنه لا توجد أي دولة في العالم لا تملك اعلاما عموميا فهو موجود في استراليا وأندونسيا وكندا فحتى الولاياتالمتحدة الأكثر تمسكا باقتصاد السوق ويسيطر فيها رأس المال على الحياة السياسية والاقتصادية فيها اعلام سمعي بصري عمومي. ونحن نقول إنه لا يمكن خصخصة الإعلام العمومي لأنه على ملك الشعب التونسي لكن رفع مثل هذا الشعار هدفه المزيد من الضغط على الإعلاميين.. يمكن أن يكون هناك تقصير مهني من حين لآخر لكن لا أحد ينكر أن الإعلام التونسي والعمومي حقق خطوات محتشمة نحو تحسن أدائه رغم أن الطريق مازالت طويلة... لكن رجل السياسة الذي ينظر وعينه على الموعد الانتخابي لا ينظر للإعلام كالمواطن العادي.بل يوجه التهم للصحفيين ويصور الجميع غير راضين على آداء الإعلام. والإعتصام الذي نفذ أمام التلفزة يستحق القاء الضوء عليه لمعرفة من يقف وراءه فلا أظن أنه حدث عفوى ليست له امتدادات سياسية مرتبطة بالاستحقاقات الانتخابية وهدفه محاولة ارباك وترهيب الصحفيين.. صرح رئيس الجمهوية المؤقت أنه تم تحديد أعداء الثورة ومنهم من يوجد في قطاع الإعلام كيف تقيمون هذه التصريحات وما مدى موضوعيتها في رأيكم؟ ما يطغي اليوم هي الحسابات الحزبية والسياسية..وأنا كمواطن وصحفي أرى من منطلق اطلاعي على حجم الدمار الذي لحق القطاع والتركة الثقيلة التي تركها النظام السابق أن هناك أطرافا سخرت نفسها لتكون أدوات في يد السلطة.. لكن لا يمكن التعميم ولا يجب الوقوع في هذا التعميم ويجب أن نفهم وندقق في حقيقة الواقع لمعرفة كيف تم التصرف في الموارد البشرية والمالية صلب المؤسسات الإعلامية خلال سنوات الاستبداد. لكن المشكل اليوم أنه كثر الحديث والتوتر قبل الإطلاع وتحول السياسيون إلى الإفتاء في الإعلام.. دون ترك المجال لانطلاق الحوار حول اصلاح القطاع وتطهيره من قاعدة معطيات وبعد تشخيص دقيق واطلاع على تجارب دول أخرى في هذا المجال... واليوم الكل يتحدث ولا تعرف من يقول الكلام الصحيح.. منى اليحياوي
بكل هدوء أما آن للجسم العليل أن يتعافى وينطلق!؟ في يوم حرية الصحافة أردت أن القي تحية.. فقط إلى زملائي "الذباب"(٭ ) المهرولين وراء الحقيقة الطامحين إلى إعلام وطني به نفتخر، والمتمسكين براية الحرية، والمؤمنين بصباح أفضل لتونس ولشعبها. .. تحية إلى الإعلاميين الصادقين الشرفاء المخلصين الراغبين في بناء تونس الديمقراطية والحرية والكرامة. تحية إلى كل صحفي تعرّض للمهانة والذل والسب والشتم والضرب والتنكيل في عهد الفساد والاستبداد وحتى ما بعد 14 جانفي..فتهميش الصحفيين متواصل.. تحية إلى كل راغب صادق في التغيير والاتعاظ من دروس الماضي من أجل الرقي بالمادة الإعلامية والعلو بشأن المرفق الإعلامي العمومي..وإلى الصحفيين الشبان المعطلين منهم والعاملين"بالقطعة"،والمهمشين في عدة مؤسسات إعلامية، والمطرودين..من مؤسسات إعلامية تخال نفسها اليوم قلعة من قلاع الإعلام المستنير.؟ أيها "الذباب" معركتنا..مع الفسّاد فينا.. معركتنا مع تكريس إعلام حر تعددي مسؤول وأقلام حرة متحررة..لكن قبل كل شيء لنسأل أنفسنا: هل سبقتنا رياح الثورة أم لم نفهم بعد مفرداتها..وظللنا نركض محاولين الإمساك بتلابيبها فلا نحن أضعنا ركبها ولا هي قبلت بأن نضع قدما في إحدى عرباتها.. كان علينا أن نراجع أنفسنا وان نسعى إلى تطهير قطاعنا منذ فترة بعيدة..ربما عزاء البعض منا هو أن جل القطاعات الأخرى المهنية لم تفلح في اقتلاع "المسامير الصدئة" واكتفت بالقشور مما ظهر من عيوبها ومن فضائح ملفات الفساد التي لم تعد خافية على احد..نعم اليوم نحتاج إلى محاسبة ذاتية لإصلاح ما يمكن إصلاحه من جسم الإعلام المريض..والبحث فعلا عن مصالحة حقيقية مع المواطن وهو في نفس الوقت قارئ ومشاهد ومستمع ناقد ذكي ومحاسب لا يرحم يفقه كثيرا في السياسة والاقتصاد..فقط هو يطالب بحقه في منتوج إعلامي جيد وراق وغير مبتذل.. ..وها قد عادوا.. معركتنا مع الذين أبوا مغادرة جسمنا المريض وتمسكوا به كخلايا السرطان الخبيث..وولجوا القمم و"تشعبطوا" المناصب: لا غرو لقد عادوا مثل السابق يعرضون بضاعتهم على من يدفع أكثر ومن يمنحهم صك الغفران والطهارة ويلبسهم رداء الثورية المزيفة..لقد عاد من يبيعون ذممهم..ويدوسون على رقاب زملائهم من أجل منصب أو حظوة، أو... ؟ عيد الصحافة عدت.. وتونسنا الحبيبة ترنو إلى غد أفضل، وإلى مستقبل مشرق، لكن هل حرية الصحافة في مأمن؟ ..إن كان الصحفيون في خطر.. فلا قانون يحميهم ولا تشريع يرد اعتبارهم..فكل شيء معلق إلى أن يأتي ما يخالف ذلك..والقوانين معطلة رغم أنها جعلت لتحمي الصحفي وتعزز كرامته وتضمن للصحافة ازدهارا وتحررا وخدمة للبلاد والعباد..لكنها في الرفوف ركنت.. أين نحن والمشهد يتكرر ويعيد التشكل من جديد مستلهما بعضا من تهميش الماضي القريب واستبداده، كأن قطاعنا لم تهب عليه رياح الثورة..أو هي لامسته بطرف.. في مثل هذا اليوم من كل عام يحتفل صحفيو العالم بالحرية المنشودة..وصحفيونا ما يزالون يرزحون تحت وطأة الفقر والتهميش والتهديد والوعيد..يرنون لتحقيق حلم اتحاد نقابي قوي يحميهم ويحمي مستقبلهم..وفي الطريق تتجاذب النقابة الوليدة صراعات..وخلافات..وفي الجانب الآخر بوادر خطيرة لميلاد نقابة موازية لست أدري على أي منطق ستؤسس ونحو أي هدف ستعمل غير إضعاف القطاع المستضعف بطبعه.. منذ الإطاحة بالطاغية ، تحرر الشعب التونسي وتحرر الإعلاميون من أغلال القمع والكبت والظلم والتهميش، خاصة منهم من كانوا في الصف الثاني والثالث والذين اضطهدوا بسبب تلجيم أقلامهم ومنعهم من الكتابة وفضح المستور..لكن اليوم أين نحن من صحافة حرة قوية مهابة..سلطة رابعة بحق وليس عجلة خامسة، مسؤولة تعرف الحد بين الحرفية والجرأة والرداءة، لا تهاب لومة لائم إن كانت على حق..؟ أين نحن وأنسجة القديم الفاسد والوجوه الدخيلة على المهنة ما تزال تصول وتجول والمنافقون منا تواروا برهة ثم عادوا كأن شيئا لم يكن... قائمة سوداء..لكنها عرجاء؟ !! هل اليوم احتفال أم محطة للتقييم الذاتي، أم وقفة تأمل لما فعلته بنا حرية التعبير وما فعلناه بها وما صنعنا..فمن أي زاوية ننظر وأي وجهة نسلك.؟.هل نتحدث عن القائمة السوداء العرجاء التي لم تر النور بعد، نصفها عند النقابة ونصفها الآخر مصادر لدى الحكام يرفضون الإفراج عنها..؟ أم نتحدث على الرداءة التي عادت هي الأخرى كالناموس وكست بوجهها القبيح مشهد إعلامنا؟ وصحافة صفراء، وصحافة مجاري دنست ما تبقى من شموع الإعلام وصروحه وفتحت جبهة ثانية مع الإعلاميين ضد العزم في الأفضل والرقي بالأداء ودحر السطحية والابتذال وتلويث الحقيقة..؟ حقيقة مرة وصعبة الهضم..ها هنا تقرير حرية الصحافة في بلادنا معتّم متشائم للأسف بما أن أمثلة الاعتداءات على الصحفيين في تونس تكررت بعد الثورة وتعددت مظاهر التضييق عليهم، بل إن التقرير يشير إلى تأخر ترتيب بلادنا في حرية الصحافة والتعبير..التقرير لا تطل منه جذوة الفخر بإعلام نظيف محايد محترف إلا باحتشام..تقرير يعكس تشرذم القطاع وتفتته وكثرة النعيق والزغاريد وشح الكسكسي.. منافقون وكفار !! قبل أيام وقف "أمام" على المنبر وعوض المناداة بالتسامح ونشر قيم الاعتدال طالب بكل بساطة بقتل الصحفيين بعد تكفيرهم ونعتهم بأقسى النعوت.. فماذا ننتظر نتيجة وصف الإمام الإعلام "بالرجس" الذي يجب تجنبه والتخلص منه وأي نتيجة ترجى من إمام ينعت الإعلاميين بالمنافقين والكفار الذين ظهرت صفات الكفر عليهم.. هكذا دون تمحيص أو غربلة أو رأفة بمئات الصحفيين..أو تلك العبارات المشينة المخجلة من قبيل " يا صحافي كذاب" تتزين بها جدران الشوارع والساحات.. هكذا أصبحنا لقمة يومية يسوغها الحاكم والمعارض والمتشدد والمتفتح والحداثي فالكل يلوم وينعت ويشتم ويتهم...فلا نحن أرضينا ذاك ولا قبل منا هذا..وحتى المتعاطفون معنا فلغاية في نفس يعقوب..فالإعلام حسب قناعاتهم هو المشكل وليس الحل ويجب أن لا يمر زميلاتي وزملائي "الذباب".. !! إعلامنا اليوم في مفترق طرق إما كسب التحدي وشق طريق الحرية، لكن مع قبول النقد، والتقييم الذاتي البنّاء وتشغيل عجلة التطهير الذاتي وفضح الغصن المريض والتخلص منه إن لزم الأمر حتى يشفى كامل الجسم العليل.. أو القبول بطريق مظلمة يخشاها السواد الأعظم من الإعلاميين وقد تراود القلة القليلة منهم ممن امتهنوا فنون "الانبطاحية" وحذقوا العزف على أوتار النفاق والكذب والادعاء بالباطل..قلة من الانتهازيين محترفي ركوب الكراسي وظهور البعير، قلة تربت على فتات الحاكم وسال لعابهم على بعض الملاليم مقابل خدمة مشروع استبدادي أو طمس لحقيقة أو ضرب لزميل شريف أو سياسي معارض.. زملائي..لا تخشوا في المهنة المبيدات الحشرية -وما أكثرها-، فصونوا نبل رسالتكم وأوفوا عهد الميثاق وشرف المهنة ولا تهابوا في الحق لومة لائم..فبخّة مبيد تقوينا وتزيد في مناعتنا وخرق الصفوف يزيد في تماسكنا .. كان لتونس موعد مع التاريخ انطلقت جذوته يوم 17 ديسمبر..وأهدى لنا الشعب يوم 14 جانفي الحرية على طبق من ذهب فحافظوا على الأمانة ولا تخذلوا أنفسكم والشعب، وأضربوا موعدا جديدا مع التاريخ بانطلاقة تعيد ثقة الناس في إعلام حر متحرر مستقل متعدد نزيه ومحايد مسؤول..يقطع مع الانبطاح والابتذال والرداءة.. (٭) هكذا نعتت نائبة عن حزب النهضة في التأسيسي... الصحفيين!
دون كيشوت يستكشف طواحينه الجديدة بقلم: نصر الدين بن حديد يشتدّ الحديث عن الإعلام عموما وعن الصحافة بوجه خاص، حين صارت وسائل التكنولوجيا، تفتح البلاد على الخارج وتفتحها أمامه، وكذلك فتحت مجال الممارسة (في شكلها المادي) أمام قطاعات غير هيّنة من «غير المحترفين» الذين يرون أنّ من حقّهم بل من واجبهم المشاركة في صنع «المنتوج الإعلامي» ومن ثمّة الرأي العام ومجمل التفاعلات (ضمن المعنى العام) بين الأطراف الاجتماعيّة جميعها. كذلك (وهذا الأهمّ على المستوى الاجتماعي الراهن) جاءت الثورة لتكون في الآن ذاته، نقطة الذروة (ضمن التعدّد المذكور) وأيضا نقطة فصل بين فترتين. من سوء الحظّ أنّ المنظومة الإعلاميّة قبل الثورة، لم تتشكّل خارج المنظومة السياسيّة الحاكمة، بل يمكن الجزم (دون أدنى شكّ) أنّ هذه المنظومة الاعلامية نمت وترعرت وتواصلت ضمن وأسفل منظومة أمنيّة لصيقة، جعلت هذا الكائن الإعلامي ينمو ويترعرع ويتواصل في حال إعاقة دائمة وتراوح بين رغبة (مستبطنة) وقدرة (غير مكتملة). من نافلة القول أنّ التعميم لا يقدم الصورة الأفضل، لكنّ الإعلام «المناهض» لإعلام السلطة وسطوته الأمنيّة، لم يكن (على مستوى القامة) ما يسمح له بمقارعة المارد، ولم يكن على مستوى البنية الذهنية يملك القدرة على تقديم «بديل» يقطع مع الممارسات الإعلاميّة للسلطة، ممّا جعل منه (أي الإعلام المناهض) مجرّد ردّ فعل هبط في حالات غير قليل إلى مجرّد «إثبات للذات» أكثر منه التأسيس لتراكمات فعلية قادرة على تطوير إعلام مستقل فعلا... من الغرابة أنّ عاهة الارتباط (على مستوى ردّ الفعل) جمعت من هم تحت قمع السلطة وجبروتها بمن هو خارج البلاد، ينعمون بحريّة، تمكّنهم (افتراضا) من التأسيس للبديل الفعلي والفاعل... سيطرة السلطة داخل البلاد على المجال المادي (الشارع) جعل كلّ أشكال المعارضات تهرب بل تتحصّن بالعالم الافتراضي (الانترنت) الذي صار (ولا يزال حدّ الساعة) عالما «ذهنيّا» يختزل ويحوز جانبا غير قليل من تبادل المعلومات (ضمن المعنى الواسع للكلمة)... سقطت الثورة (أو بالأحرى شرارتها الأولى يوم 17 ديسمبر) على رأس المنظومة الإعلاميّة كمثل جلمود صخر حطته تسونامي من السماء، بل بقيت المنظومة الإعلاميّة (مع استثناءات) غائبة عن الوعي بهذه الثورة، فما بالك المشاركة فيها والمساهمة في جدليتها... استفاق الواقع التونسي (طوال الفترة الفاصلة بين 17 ديسمبر و14 جانفي) على حقيقة مُرّة لا ردّ لها: إعلام متراوح بين خدمة النظام أوالصمت السلبي، ومجال افتراضي منفتح على من هبّ ودبّ ليكتب ويصوّر ويرسم ما شاء وما أراد... ممّا فتح الباب أمام جميع «الفاعلين» (ضمن المعنى الواسع للكلمة) لممارسة الاختراق والاختراق المضاد... خاصة عندما تبيّن أنّ النظام الذي فقد (منذ يوم 17 ديسمبر) سيطرته المطلقة على الشارع، فقد آخر متاريسه في مجال الانترنت حين لم يعد للرقابة سوى تبيان عجز النظام وغبائه، بل أكثر من ذلك، نزلت «كتائب النظام» الالكترونية لتتماهى على مستوى الشكل والخطاب مع أعدائه، لتثبت المقولة الخلدونية عن تبعية الضعيف للقوي من خلال التقليد والمحاكاة... شكّل يوم 14 جانفي (عشية) نقطة انقلاب بالمفهوم السياسي/الأمني، لكنه كان على مستوى الإعلام مناسبة للانقلاب على الخطاب الماضي من حيث المعجم المعتمد وإن تمادت (مع استثناءات نادرة) مبالغات (زمن بن علي) بطريقة جعلت «الثورة» مكان «صانع التغيير» و«الشهداء» بديلا عن «التجمّع»... كما لم يكن الجسد الصحفي (في مجمله) جزءا من الإعداد المادي للثورة ولم يكن جزءا فاعلا أثناءها، عجز بعد هروب الطاغية عن إنتاج خطاب القطيعة المعرفيّة، حيث استطاعت منظومة بن علي تلويث وسائل الإعلام جميعها (أو تكاد) وأخمدت (أو تكاد) شعلة الأمل لدى العمق الصحفي... لم يكن من الممكن (على المستوى الاعلامي) فرز «الثوّار» في مقابل «الملوثين»، بل انتهت «اللعبة» إلى التضحية ببعض الأسماء «المحترقة» والقبول والتسليم بالعجز (الثوري) عن توليد قيادة إعلاميّة تسير بالثورة إلى منتهاها المتخَيّل... صارت الثورة، أو بالأحرى التعبير عنها، هو الفرصة الوحيدة لتوليد واقع جديد، لم يرحمه زلزال الثورة. كذلك لم ينج الإعلام من نقد العُمق الشعبي وانتقاده، حين أحسّ فجأة مع هروب الطاغية كم كانت يد بن علي (وتوابعه) تتحكّم في أدقّ دقائق المنتوج الصحفي... نعيش وضعا «وسيطا» بين نظام سقط في الظاهر (على مستوى النية والرغبة) ولا يزال قائما، من ناحية، ومنظومة «ثوريّة» نتحدّث عنها دون القدرة على البدء في انجازها، ممّا يجعل التشخيص ليس مرتبطا بالفرد (الصحفي/الإعلامي)، بل في مدى قدرته على إعادة انتاج ذاته من خلال خطاب يقنع الذات قبل الآخرين... لم يعد أي صحفي يشبه أيّ صحفي، بعد أن كان التنميط المهني سيّد الموقف قبل الثورة. كذلك لا يريد أيّ صحفي أن يكون «تابعًا».... كلّ يريد أن يكون «دون كيشوت» حين تكاثرت «طواحين الكلام» في البلاد!!! إذا كان حال الواقع الصحفي، كيف تكون قيادته؟؟؟ لم تفهم قيادة النقابة الوطنيّة للصحفيين «الشرعيّة»، التي استعادت مكانتها ومقرها بعيّد الثورة، أنّها جزء من الأزمة وبالتالي لا يمكن أن تكون ذلك «البديل الثوري»، حين لوّث بن علي البلاد، سواء بالاختراق أو بجعل الجمعيات والنقابات تغرق في ردّ الفعل، الذي جعلها (في حالات عديدة) تحاكي القوي، وإن حاولت تنزيل ذلك ضمن منظور ثوري ومن خلاله... ممّا زاد الطينة بلّة، أنّ الحكومات المتعاقبة عجزت في جلاء بيّن، عن تبنّي سياسة اعلاميّة بالمفهوم (الثوري) الفاعل للكلمة، وبقي الوضع إلى حدّ الساعة، يتراوح بين رغبة السلطة في «إستعادة هيبتها» وصحافة لا تزال تحمل ندوب سياط بن على، وترغب في التورية عن ذلّ الماضي من خلال ثوريتها الطارئة. غياب الدولة وضمورها، بل تحوّلها إلى مجرّد طرف ضمن المشهد السياسي/الإعلامي، فتح الباب أمام تكاثر «الامبراطوريات» الاعلاميّة التي سعت إلى تقليد نظام بن علي في تطابق غريب... رجل أعمال يدفع في الخفاء، نظير مديح علني أو شتم الأعداء... ما أشبه اليوم بالبارحة... ٭ كاتب وإعلامي