يشكل الإعلام في التاريخ الحديث و المعاصر أخطر الأدوات في تشكيل الرأي العام و التأثير فيه لذلك تتدخل الدول و أصحاب النفوذ و رجال الأعمال للإستثمار فيه و الإستئثار به لجعله في خدمتها و طوع بنانها و إستعماله عند الحاجة لضرب الخصوم أو تسويق الأفكار أو إختبار النوايا و ردود الفعل. لأجل ذلك جند الرئيس السابق مختلف وسائل الإعلام المكتوبة و المرئية و المسموعة لخدمة نظامه و فرض خياراته و تلميع صورته حتى أصبحت نشرات الأخبار مصدر تندر عند عامة التونسيين و خاصتهم و هنا أتذكر أننا زمن الحياة الجامعية و أثناء متابعة النشرة الرئيسية للأخبار في مشرب المبيت الجامعي نزل طالب موريتاني لأول مرة لمتابعة انتخابات بلاده التي جرت في بداية التسعينات فلم يظفر بخبر واحد عنها فعاد حانقا إلى غرفته قائلا : هل تسمون هذه نشرة أخبار فلا نسمع إلا الرئيس استقبل , الرئيس دشن ,الرئيس أشرف...إنها مهزلة. و رغم وجود إعلام عمومي و آخر خاص إلا أن الخطاب واحد , تمجيد و ثناء و عناية موصولة بل بلغ التملق و الإنحطاط و التردي أن رفع فضلات في أقصى الريف يتم بتعليمات من الرئيس . كما اشتركت مختلف وسائل الإعلام في تشويه المعارضين و ثلبهم و النيل من أعراضهم ووصفهم بأبشع النعوت التي يترفع عنها حتى بعض أصحاب السوء. لكن هل تغير المشهد الإعلامي بعد الثورة ؟ يمكن القول أن التغير قد حصل لكن الثورة داخل هذا القطاع لم تحدث. كيف ذلك ؟ لقد حصل التغير لأننا أصبحنا نقرأ ونستمع و نشاهد من كان منبوذا في السابق من المعارضين بل صارت مختلف وسائل الإعلام تتهافت على الظفر بحوارات مع أحمد نجيب الشابي وراشد الغنوشي وحمة الهمامي و المنصف المرزوقي و مصطفى بن جعفر و كمال الجندوبي وخميس الشماري و أحمد إبراهيم و توفيق بن بريك و المختار اليحياوي و سليم بوخذير وزهير مخلوف و راضية نصراوي و سهام بن سدرين والقائمة تطول ... لقد صنف النظام البائد هؤلاء المناضلين إلى أعداء للوطن و متطرفين و عملاء و غيرها من النعوت التي تدل على بؤس من وضعها و كان الإعلام النوفمبري التعيس شاهد على تلك الفترة المظلمة من تاريخ تونس الحديث. لكن المفارقة العجيبة أن جوقة إعلام بن علي هي التي مازالت ممسكة بخيوط المشهد فنفس الوجوه تدير الحوارات و تستقبل الضيوف و تعد المواضيع و كأن هؤلاء يريدون أن يتطهروا و يبحثوا عن عذرية جديدة بعد أن كشفت الثورة عوراتهم و فضحت أكاذيبهم . لذلك قلنا أن الثورة لم تحدث داخل قطاع الإعلام لأن من كان يمجد أصبح يدين الرئيس السابق بنعوت كانوا يستعملونها لمعارضيه , و منطق الثورة يقتضي تغييرا جذريا و عميقا يقطع مع السائد و يؤسس لحقبة جديدة. من أجل ذلك صرح الصحفي التونسي اللامع في قناة الجزيرة محمد كريشان أن هؤلاء يجب أن يرحلوا . وهو عين الصواب لأنهم فقدوا المصداقية لدى الناس و لم تعد لديهم ثقة بهم. ندرك جيدا أنه لا يوجد إعلام محايد ومن يعتقد غير ذلك فهو مخطئ , لكن علينا أن نميز بين الحيادية و المهنية . إن لكل منبر إعلامي توجه معين تسير بمقتضاه تلك الوسيلة الإعلامية سواء كان خطا متحررا أو محافظا أو وسطيا أو معارضا لتوجه ما و مساند لآخر مخالف وتلك من مقتضيات حرية الإعلام فلكل مؤسسة إعلامية خط تحريري خاص بها لأنه لا توجد وسيلة إعلامية تشتغل لوجه الله تعالى .لكن المهنية تقتضي وجود الرأي و الرأي الآخر و توفير الفرص المتكافئة لكلا الطرفين إعتمادا على قوة الحجة مع حياد منشط البرنامج إلا أن ذلك مفقود بنسبة كبيرة حاليا فكثيرا ما نرى منشطي البرامج عندنا ينحازون إلى الطرف الذي يتماشى و قناعاتهم أما الصحفيون فهم يخضعون للسنسرة الذاتية فيعترضون بشدة على ما لا يعجبهم من التصريحات أو المواقف و هذا الأداء الإعلامي راجع إلى نقص في المهنية . إن التكوين الذي يتلقاه الصحفي في معهد الصحافة و علوم الاخبار يلقى به جانبا لأن مؤسساتنا الإعلامية غير محترفة علاوة على أن اختيار الصحفيين أو انتدابهم لا يخضع للكفاءة بل على الولاءات و المحسوبية فلم نسمع يوما بمؤسسة الإذاعة و التلفزة التونسية وهي مؤسسة تعنينا بالدرجة الأولى بحكم أنها عمومية تفتح مناظرة شفافة وموضوعية لإنتداب صحفيين يشارك فيها كل من يأنس في نفسه الكفاءة و القدرة على الابتكار وفق مقاييس واضحة المعالم , وقد أثبت الواقع أن بلادنا تزخر بالطاقات فأغلب الفضائيات العربية بها صحفيون سطع نجمهم بعد أن سدت عليهم الأبواب في بلدهم . عندما كانت قناة الجزيرة تنقل يوميات الثورة التونسية و تفسح المجال لأقطاب المعارضة الوطنية ليشرحوا حقيقة الأوضاع الداخلية و يفضحوا الممارسات القمعية كانت منشطة إحدى القنوات الخاصة تتحدث عن أن الجزيرة تستهدف الحداثة التي تتميز بها تونس, و لا أدري أي حداثة أرساها بن علي و أصهاره. وعندما أقرأ أن بعض الصحف تحاول أن تبث تقارير عن تفاصيل حياة الرئيس المخلوع في السعودية أو أن تنقل صحيفة أخرى حوارا مع أحد أصهاره , أتساءل : ماهي القيمة الإخبارية لهذه المواضيع التافهة و ما فائدتها بالنسبة للمواطن التونسي ؟ لا شيء على الإطلاق. و عندما أشاهد برامج تسعى لتشكيك التونسي في هويته العربية و الإسلامية و تبرر الإعتداء على المقدسات بإسم حرية الإبداع رغم إدانتي الشديدة لردة الفعل لأن هناك قانون و مؤسسات يمكن اللجوء إليها و برامج أخرى تحاول تأليب التونسيين بعضهم على بعض بطرح قضايا عقائدية و تضخيم أحداث قد تكون معزولة و تهميش القضايا الرئيسية التي ثار من أجلها الشعب التونسي كالعدالة و الحرية و التشغيل . أستنتج أن الثورة لم تطل الإعلام إلى اليوم . إني لم أتابع إلى اليوم برنامجا فيه بعض زعماء الأحزاب السياسية يطرحون فيه برامجهم للخروج من الوضع الحرج الذي تمر به البلاد وهو ليس ذنبهم لأن من يستضيفهم يحاول أن يغوص معهم في مواضيع هامشية بعيدة عن اهتمامات المواطن ليجعلهم يتصارعون كالديكة في مشهد كاريكاتوري بائس. لابد في الأخير من الإشارة إلى نتائج التحقيق الذي أجرته مؤسسة سيغما كونساي خلال 9 و 10 جويلية الجاري وقد شمل 500 شخص من مختلف الأعمار و الشرائح الإجتماعية و مختلف الجهات حيث إعتبر 61 بالمائة من المستجوبين أن وسائل الإعلام تؤثر عليها أطراف سياسية أو رجال أعمال أو أطراف أخرى , و أن 50 بالمائة يرجعون ضعف الأداء الإعلامي إلى نقص في المهنية أما 47 من المستجوبين فرأت أن الصحفيين يخضعون للسنسرة الذاتية حيث يحذفون ما لا يعجبهم من التصريحات و أن 34 بالمائة يرون أن وسائل الإعلام ساهمت في الانفلات الأمني و الاجتماعي والمطالب النقابية . وهي مسألة خطيرة يجب الإنتباه إليها حتى لا يكون الإعلام جزءا من الثورة المضادة و نقول بأن بن علي قد رحل و ترك جنده . الأستاذ أبولبابة سالم