بين لغة الاعتصامات و الاحتجاجات التي تنتشر في أوساط واسعة من القطاع الاقتصادي و لغة الحكومة التي تدعو إلى هدنة اجتماعيّة و سياسيّة لمدّة 6 أشهر على الأقلّ، نراقب جدلا هو أشبه بحوار الصمّ و البكم تتخلّله معارك كلاميّة تعقب تصريحا لمسؤول أو صحفيّ. فيغضب أعوان الأمن لأنّ الرئيس شكر الجيش و تجاهلهم أو نسيهم، و يغضب أهالي تلك المنطقة لأنّ تصريحا لم يعجبهم أو سخر منهم و يحتجّ صحفيّ على آخر لأنّه اعتبر الشعب غبيّا، ثمّ تتطوّر تلك الخلافات إلى حملات كلاميّة لا تخلو من بذاءة في مختلف المواقع الاجتماعيّة، ينقسم فيها التونسيّون إلى فريقين مهاجم مسعور و مدافع مقهور. و كلّ هذه الأمثلة تدلّ على أزمة ثقة بين الأفراد و النخب و المؤسّسات، و تؤكّد أنّ لغة التخاطب فيما بيننا تحتاج إلى وقفة تأمّل و تحتاج إلى خبراء ينصحون الجميع بقواعد التواصل و فنونه. بدأ الجدل و التراشق بالتهم قبل تشكيل حكومة الجبالي حول أسماء من سيتولّى الحقائب، و كيفيّة توزيع المناصب بين الأحزاب الثلاثة المتحالفة و نصيب المستقلّين و أعضاء الحكومة السابقة منها، و مع ظهور بعض التسريبات حول الأسماء المرشّحة لتلك الحقائب، اشتدّت وتيرة النقاشات التي تطوّرت بعد مدّة قصيرة إلى تحفّظات و احتجاجات. ثمّ نالت الحكومة ثقة أعضاء المجلس التأسيسيّ، فتطوّر الجدل ليشمل الخوض في البرنامج المعلن و ما ظهر فيه من قصور و يتساءل عن كفاءات بعض الوزراء و يشكك في قدرتهم على تولّي تلك الخطط. و قد تعرّض وزير الخارجيّة رفيق عبد السلام في الأيام الأخيرة إلى النصيب الأوفر من الانتقاد و يمكن إجمال الموانع التي أثيرت عنه في ثلاث نقاط و هي علاقة المصاهرة التي تجمعه برئيس حركة النهضة راشد الغنوشي، و علاقة العمل من خلال المهامّ التي شغلها في قطر أو في مؤسّسات بحثيّة تتصل بقناة الجزيرة، و علاقة أخرى مع اللغة الفرنسيّة أسالت الكثير من الحبر حول ما قيل إنّه جهل الرجل بلغة موليار، الأمر الذي اعتبره البعض عائقا لا يستقيم مع طبيعة المنصب الذي كلّف به. و قد تضخّم الأمر إلى تنظيم وقفة احتجاجيّة أمام وزارة الخارجيّة احتجّ فيها عدد قليل من المواطنين على ذلك التعيين، و قد أوضح الوزير أنّ دراسته التي حملته إلى الجامعات البريطانيّة جعلته أقرب إلى لغة شكسبير منه إلى لغة موليار. و أضاف في تصريحه لنشرة أخبار الثامنة أنّ " لغة التخاطب في الداخل و الخارج هي اللغة العربيّة، و هي الأهمّ باعتبار انتمائنا إلى بلد عربيّ." و اللافت أنّ هذا الرأي يعطي مؤشّرا واضحا عن الخلفيّة الفكريّة التي تريد الحكومة الجديدة أن تعيد لها الاعتبار من خلال الاعتزاز بلغة هذا الوطن و التمسّك بهويّته العربيّة الإسلامية. و ما يؤكّد قناعتنا بهذا الاستنتاج أنّ الرئيس المنصف المرزوقي نفسه عبّر عن إيمانه العميق بقدسيّة اللغة العربيّة واعتبارها عمودا فقريّا للوطن و الأمّة :" العربية هي العمود الفقري للأمة، ولا وجود لها إلا بوجوده، فأمتنا خلافا لكل الأمم، لا تسكن أرضا وإنما تسكن لغتها." و قد عبّر عن ذلك الموقف في مقالة تحليليّة نشرها على موقع الجزيرة نت قبل توليّه الرئاسة ما يؤكّد أنّ المرزوقي مفكّرا كان ينظّر للمرزوقي سياسيّا إذ يضيف بلغة يقينيّة و كأنّه يكشف عن برنامجه السياسيّ و موقفه المبدئيّ من المسألة فيدعو إلى: " إقرار اللغة العربية لغة رسمية للدولة يعني أن مهمة الدولة حماية وتطوير هذه اللغة. و إدراج حصرية استعمال اللغة العربية الفصحى والدارجة المهذبة على رأس قائمة النظم والقوانين التي تخضع لها الإذاعات ومحطات التلفزيون." و يختم رؤيته تلك بالتعبير عن أمله في تنظيم "المؤتمر العام للغة العربية، يدعى له السياسيون وأهل الذكر من كامل الوطن العربي، كي نتدارس الإستراتيجيات لتنمية لغتنا والدفاع عنها، والشعار لا إفراط ولا تفريط حتى نكون أخيرا جديرين بلغة شرفتنا كثيرا ولم نشرفها إلا نادرا". فهل هي نهاية القدسيّة للغة الفرنسيّة في تونس ما بعد الثورة ؟ و هل سنشهد قريبا حراكا إصلاحيّا يعيد الاعتبار للعربيّة لغة و ثقافة و مشروعا حضاريّا يمسّ المجالات التعليميّة و الثقافيّة ؟ تلك هي أسئلة المرحلة و أجوبتها ستتشكّل قريبا و لكنّ بعض المؤشّرات عن الرؤى المستقبليّة باتت واضحة من خلال المواقف التي أبرزناها في هذه المقالة و التي يمكن تلخيصها في ذلك القول الحكيم الذي عبّر عنه المفكّر المصريّ مصطفى صادق الرافعي في كتابه وحي القلم:" ما ذلّت لغة شعب إلا ذلّ ، ولا انحطّت إلا كان أمرها في ذهاب وإدبار ، ومن هنا يفرض الأجنبي المستعمر لغته فرضاً على الأمة التي يستعمرها ، ويركبهم بها ، ويشعرهم عظمته فيها". و لأنّ ثورة الشعب التونسيّ قامت من أجل العزّة و الكرامة فإنّه لن يسمح بإذلال لغته بل سيعمل على تنزيلها المقام الذي يعيد لها كلّ الاعتبار، فيعود الاحترام و التبجيل للغة الضاد بعد عقود من تقديس لغة المستعمر و إعلاء شأنها.