بقلم حاتم الكسيبي عصفت رياح الفوضى و الردّة بربوعنا في آن واحد لمّا سمعنا نبأ اغتيال زعيم الوطنيين الديمقراطيين، فانطلقت المسيرات والاحتجاجات من هنا وهناك تهتف بالشهادة للفقيد من جهة و تبشّر بميلاد ثورة ثانية تصحيحية من جهة أخرى. يومها قدّر للأوضاع أن تتقهقر إلى ما كانت عليه من قبل، فربّما يعود المكتري إلى سجنه ومنفاه و يعود المالك إلى حكمه وبيته الذي افتقده كما صرّح أحد قادة المعارضة. كان المصاب عظيما ولا ريب، بنتان في عمر الورود تيتمتا، و زوج ترملت وان تناقلت المواقع الاجتماعية خبر طلاقها منذ أشهر، أب و إشقّاء تذرف دموعهم كلما تصيّدتهم عدسات التصوير، حزن و أسى نال كلّ منابر الإعلام وفي الساحات العامة. تلك هي الموت مصيبة قد يصبر المؤمن بقضاء الله وقدره وقد يضيق ذرعا المنصرف عن ذكر الله فيخشع قلبه من جديد ويوقن بحتمية النهاية و وجوب الاستعداد ليوم الرّحيل. ذاك رفيق سقط في ظرف حسّاس فأعاد توزيع الأوراق بين كافّة التنظيمات و الأحزاب والكتل و الجبهات، ثم سعى الجميع دون استثناء إلى التموقع من جديد والإسراع في جني الثمرة السياسية. رفيق سقط فأسقط معه مهادنة ومراوغات و مسرحيات عديدة كثيرا ما شاهدنا مقتطفات منها على شاشات التلفاز عندما كنّا نستهلك السياسة معلّبة وبالميزان صباحا مساء. رفيق سقط فتألمنا لسقوطه وان كان العديد منّا يخالفه الرأي والتصوّر، وجزعنا على تونس و أهلها من حماقة رفيق ثان قد يستفيد من تلك الحادثة فيهبّ إلى فرسه فيمتطيه و يلوّح بحسام الفوضى والحرق والتخريب. سقط الرفيق وانطلقت جنازة دفنه من دار الثقافة على غير عادة أهل البلد، فكان قرار رفيق ثان أراد أن يوظّف تلك الموت. جنائز وهمية، لم تعرف لها ثقافتنا التونسية مثلا، أصرّ البعض على إقامتها في عديد المدن وتلك دلالة ثانية لاستغلال الرفيق القائد الجديد حدث الموت أيّما استغلال فيكسب شعبية أوسع وينطلق من جديد لتركيز مشروعه السياسي. إعلام مروج لأخبار زائفة و أرقام و معطيات مغلوطة فتُؤجج نار الفتنة ويترك المواطن البسيط في حيرة وهو الذي اعتاد الاستماع لنشرات الأخبار وتصديقها منذ أن كانت بوقا للمخلوع و سابقه، وفي ذلك استغلال ثالث من رفقاء درب في جامعة الثمانيات أيقنوا يومها أن الفرصة سانحة لتسجيل النقاط لصالح مبتغاهم السياسي. سعد الرفيق الجديد وفرح لسقوط رفيقه، لقد تعاطف معه الجميع بلا استثناء وعزّاه الأصدقاء والأعداء، و راح الأمن يبحث عن القاتل وملابسات القضية وراح شيخ الطريقة البورقيبية يدعو لإلغاء الشرعية والعودة للمربع الاول للعبة السياسية. فرح الرفيق المستفيد وهلل لهذه الدعوة دون تثبت في هويتها ومغزاها، فغايته الاستفادة العاجلة قبل أن يدرك القوم الصباح ويفيقوا من سبات الفاجعة فتلوح خيوط المؤامرة الدنيئة التي قدّرت لهذا البلد وثورته. صاح الرفيق المستفيد: القاتل وما أدراك ما القاتل، لن تجدوه وان وجدتموه فلن نقبل به مذنبا لأننا اخترنا "سفّاحا" آخر قبل سقوط رفيقنا. كان الرفيق الجديد حريصا على عدم تفويت الفرصة والاستفادة من الوضع الحذر والارتباك الحكومي فدعا إلى مؤتمر وطني يحضره مع رفاقه وقد أنشأ كل واحد منهم حزبا لذاته، ثم دعا لمسيرات "مليونية" هنا وهناك للضغط على الوضع المضغوط فينفجر البلد وتقطع أوصاله ويفقد نهائيا سلمه الاجتماعي. كان الرفيق المستفيد يسرع الخطى نحو الانفجار وعينه تغازل الخارج إن رضوا به سيّدا جديدا وحكيما "حداثيا"، ولكن القدر لم ينح نحو أحلامه فتقطعت به السبل وتشكّلت الحكومة من جديد واستقرّ الوضع بنسبة ما، بعد أن هدأت عاصفة الاغتيال. سقط الرفيق ومضت الأيام وكانت دعوة حضور الاربعينية الصاخبة آخر فرص الاستفادة للرفيق الجديد. فجابت شوارع العاصمة الجموع مطالبة بالكشف عن الملابسات وما وصل إليه التحقيق و خطب الرفيق المستفيد : لا تجعلوا الجراح تندمل، أوغلوا في خدشها، أطلقوا صراخكم و أطيلوا عويلكم و نحيبكم، لن تضيع هذه الفرصة التي وهبتها لنا الأقدار دون الارتقاء من الاصفار، سنعلنها ثورة "سلمية" و سنبدأ المشوار بسلسلة من الإضرابات و الاعتصامات علّنا نعيد ترتيب المشهد السياسي. رحم الله الفقيد لو تكلّم، ما تراه قائلا للرفيق المستفيد؟