يرى العديد من المحلّلين السياسيين والمهتمّين بالشأن التونسي والذين يرقبون الأحداث ويتابعونها عن كثب أنّ البلاد تمر بفترة مخاض طبيعيّة رغم عسرها . وما اشتعال ثورة الكرامة إلاّ نتيجة طبيعيّة لتراكمات أكثر من 23 سنة من الظلم والقهر والفساد والتعتيم الممنهج والتغييب المتعمّد ممّا ولّد إرادة قويّة لدى شبابنا خاصة و المضطهدين والمحرومين عامة , وبعد تخطّي حاجز الخوف الذي ملأ القلوب وسيطر على العقول . اتخذوا قرار النزول إلى الشوارع والساحات العامة في مظاهرات احتجاجيّة عارمة والدخول إذا لزم الأمر في عصيان مدنيّ مفتوح , واضعين هدفا دونه الموت ألا وهو إسقاط النظام ولو كلّفهم أرواحهم . أيامها اتسعت نيران الثورة وامتدّ لهيبها واجتاح عديد المدن والقرى . و كالعادة واجهها الأمن بغازاته الخانقة ورصاصه الحيّ مما أدى إلى سقوط أرواح كثيرة وسفك دماء غزيرة إلى حين فرار المخلوع . نجاح الثورات عادة لا ينتهي بإزاحة رأس النظام دون قطع أذرعه الأخطبوطيّة التي طالت كلّ شيء وأمسكت بتلابيب الاقتصاد وتحكمت في ثروات البلاد وحدّدت مصير العباد, زيادة على ذلك أنّ جلّ المستفيدين من نظام الحكم البائد تحوّلوا إلى طابور خامس وقف ويقف حجر عثرة في سبيل تحقيق أهداف الثورة ويعمل على اجهاضها . لأنّنا وبعد مرور أكثر من سنة لاحظنا أن الأمور لازالت تراوح مكانها و الوضع ازداد سوءا و التقدّم في الاتجاه الصحيح جدّ بطيء نتيجة العوائق والعراقيل والفخاخ المنصوبة لشلّ عمل الحكومة وإفشال مخطّطاتها و اظهارها في مظهر الحكومة العاجزة و غير القادرة على تسيير شؤون البلاد والتي يعملون على اسقاطها. والغريب في الأمر أن ممثلي أحزاب اليسار في المجلس التأسيسي القلقين من صعود النهضة ومن نجاحها الخارق في الانتخابات عُرِضَت عليهم حقائب وزاريّة ورفضوها , واختاروا البقاء خارج السرب للتشويش و التهريج والتهييج , وآثروا الوقوف في وجه الحكومة مع منظمات عماليّة وحقوقيّة تمثل ما يسمّى ب: " المجتمع المدني" , تشاطرهم الرأي بنيّة تدمير الاقتصاد وشلّ حركته وإدخال البلاد في فوضى وذلك بتشجيع الإضرابات العماليّة المجحفة وتأييد الاعتصامات العشوائيّة المقرفة ( كما حصل ويحصل الآن في الحوض المنجمي وما ينجرّ عنه من خسائر فادحة ترهق ميزانيّة البلاد) وأعلنوا رفضهم القاطع لاستعمال القوّة لفكها ولا يجرّمون قاطعي الطرق ومعطّلي السكك الحديديّة وهو موقف تآمري وتعجيزي بامتياز يجعلنا نتساءل عن الدور الحقيقي الذي يجب أن تضطلع به قوى المعارضة التي تدّعي "الوطنيّة " وكيف يجب أن يكون ؟ أي إنهم في النهاية قرّروا عدم منح أيّ فرصة لحكومة السيد " حمادي الجبالي" الشرعيّة للعمل في مناخ اجتماعي يسوده الهدوء لبناء وإصلاح ما تهدّم ورتق ما تقطّع وبدؤوا في التشويش عليها وحمّلوها مسؤولية تردّي الوضع الاقتصادي المنهار والذي زاده تدهورا - بعد هروب الطاغية - أعمال تخريبيّة أتضح أنّها بفعل فاعل وورائها أصحاب المال والأعمال الذين لهم سطوة ونفوذ في السابق والحاضر وتقاطعت مصالحهم مع المعارضة وركبوا جميعا الثورة ويسعون لإفشالها بكل الطرق من بينها تعكير الأجواء وخلق مناخ يتميزبعدم الاستقرار لمنع الأجنبي من الاستثمار. ودرءا للمخاطر وإفشالا للمؤامرات وتحسّبا للمفاجئات كان من الواجب تطهير وتأهيل سلكي القضاء والأمن معا بالتوازي وتفعيل دورهما وكذلك تطهيرالاعلام البنفسجي المرئي والمكتوب والمسموع وذلك بإزاحة أزلام الحكم البائد وخاصة الذين تحوم حولهم الشبهات من المناصب العليا و الحسّاسة في البلاد واستبدالهم بمن هم أكفؤ وأجدر وأنظف عملا بمقولة " الرجل المناسب في المكان المناسب " ومحاسبة الذين ثبت تورطهم في قضايا فساد مالي وإداري (كتبديد المال العام وتحويل وجهته والإثراء الفاحش) والتعجيل بإحالة ملفاتهم على القضاء مع ضمان محاكمة عادلة ليقول كلمته في من ثبت تورطهم . قبل سقوط النظام لا أحد كان يتصور أنه سيأتي يوم وينعم فيه التونسييون جميعا ب : "الحرّية " التي حرمنا منها طيلة عقود مضت والتي يجب أن نوظفها فيما ينفع البلاد والعباد . مع العلم أن الحريّة لا تعني الانفلات وتخطّي المحظور و إنها لا تخضع لقيود ولا تقف عند حدود علما أن كلّ شيء إذا ما تجاوز حدّه انقلب إلى ضدّه . كنشر الصور الفاضحة التي تخدش الحياء أو البيانات والتصريحات الناريّة التي تحرّض على العصيان أو التي تتهجم على الرموز الدينيّة و الدعاة الذين ينزلون ضيوفا عندنا أو التي تسيء للإسلام ولأتباعه . دون نسيان أن حريّة الفرد تنتهي عندما تبدأ حرّية غيره . ولذا من الواجب علينا جميعا التفكير بجدّية في ارساء تقاليد جديدة للحوار المسؤول والبنّاء , والذي يؤسس لعلاقات طبيعيّة بين سائر الأطراف وكلّ الأطياف والذي نريده متنوعا فكريّا للإثراء , مع احترام رأي الأغلبيّة ودون اضطهاد للأقلّية بشرط احترامها للأصول والأعراف , فالاختلاف عادة لا يفسد للودّ قضيّة فتونس العزيزة علينا جميعا تمرّ بمرحلة دقيقة وحرجة لا يمكنها تحمّل أكثر مما تحمّلته وتنتظر من الجميع الاسهام في اعادة بنائها على أسس وقواعد سليمة وكلنا أمل في أن تراجع المعارضة مواقفها من عديد القضايا الحسّاسة وتعمل كل ما في وسعها على تجنّب ما من شأنه توتير الأجواء والإضرار بسمعة البلاد . فنحن بكلّ صراحة نريد معارضة تبني وتشيّد لا معارضة تهدم وتقيّد. الأستاذ : محمد علي القايدي باجة في : 15 مارس 2012 . تونس .