قراصنة يخترقون وزارة دفاع بريطانيا ويصلون إلى رواتب العسكريين    الصحة العالمية تحذر من شن عملية عسكرية في رفح    سعيد.. سيحال على العدالة كل من تم تعيينه لمحاربة الفساد فانخرط في شبكاته (فيديو)    بالفيديو: قيس سعيد: تم اليوم إعادة حوالي 400 مهاجر غير نظامي    في لقائه بخبراء من البنك الدولي: وزير الصحة يؤكد على أهمية التعاون المشترك لتحسين الخدمات    صادرات قطاع القوارص ترتفع بنسبة 15,4 بالمائة    النادي الصفاقسي يوضح تفاصيل احترازه ضد الترجي    معبر راس جدير والهجرة غير النظامية أبرز محاور لقاء قيس سعيد بوزير الداخلية الليبي    جامعة كرة القدم تحدد موعد جلستها العامة العادية    مجلس الحرب الصهيوني يقرر استمرار العملية العسكرية في رفح    أريانة.. غلق المصب العشوائي بسيدي ثابت    طقس الليلة: مغيم مع هبوب رياح قوية في كافة مجالاتنا البحرية    ياسمين الحمامات.. القبض على تونسي وامرأة اجنبية بحوزتهما كمية من المخدرات    هل يساهم تراجع التضخم في انخفاض الأسعار؟.. خبير اقتصادي يوضّح    فتح بحث تحقيقي ضدّ المنصف المرزوقي    مدنين: حجز أكثر من 11 طن من الفرينة والسميد المدعم وحوالي 09 أطنان من العجين الغذائي    لأول مرة في مسيرته الفنية: الفنان لمين النهدي في مسرحية للأطفال    اتصالات تونس تنخرط في مبادرة 'سينما تدور'    وفاة مقدم البرامج والكاتب الفرنسي برنار بيفو    رياض دغفوس: لا يوجد خطر على الملقحين بهذا اللقاح    بمناسبة اليوم العالمي لغسل الأيدي: يوم تحسيسي بمستشفى شارل نيكول حول أهمية غسل الأيدي للتوقي من الأمراض المعدية    كرة اليد: المنتخب التونسي يدخل في تربص تحضيري من 6 إلى 8 ماي الجاري بالحمامات.    مدنين: استعدادات حثيثة بالميناء التجاري بجرجيس لموسم عودة أبناء تونس المقيمين بالخارج    فيديو/ تتويج الروائييْن صحبي كرعاني وعزة فيلالي ب"الكومار الذهبي" للجوائز الأدبية..تصريحات..    التيار الشعبي : تحديد موعد الانتخابات الرئاسية من شأنه إنهاء الجدل حول هذا الاستحقاق    عاجل : القاء القبض على السوداني بطل الكونغ فو    تصنيف اللاعبات المحترفات:أنس جابر تتقدم إلى المركز الثامن.    تعرّض أعوانها لإعتداء من طرف ''الأفارقة'': إدارة الحرس الوطني تُوضّح    بداية من مساء الغد: وصول التقلّبات الجوّية الى تونس    ناجي جلّول يترشح للانتخابات الرئاسية    نسبة التضخم في تونس تتراجع خلال أفريل 2024    سليانة: حريق يأتي على أكثر من 3 هكتارات من القمح    الفنان محمد عبده يكشف إصابته بالسرطان    الرابطة الأولى: البرنامج الكامل لمواجهات الجولة الثالثة إيابا لمرحلة تفادي النزول    جندوبة: تعرض عائلة الى الاختناق بالغاز والحماية المدنية تتدخل    عاجل/حادثة اعتداء تلميذة على أستاذها ب"شفرة حلاقة": معطيات وتفاصيل جديدة..    الفنان محمد عبده يُعلن إصابته بالسرطان    عاجل/ حزب الله يشن هجمات بصواريخ الكاتيوشا على مستوطنات ومواقع صهيونية    مطالب «غريبة» للأهلي قبل مواجهة الترجي    صادم: قاصرتان تستدرجان سائق سيارة "تاكسي" وتسلبانه تحت التهديد..    اليوم: طقس بمواصفات صيفية    بطولة الرابطة المحترفة الاولى (مرحلة التتويج): برنامج مباريات الجولة السابعة    القيروان ...تقدم إنجاز جسرين على الطريق الجهوية رقم 99    عمر كمال يكشف أسرارا عن إنهاء علاقته بطليقة الفيشاوي    مصادقة على تمويل 100 مشروع فلاحي ببنزرت    زلزال بقوة 5.8 درجات يضرب هذه المنطقة..    عاجل/ مقتل شخصين في اطلاق نار بضواحي باريس..    أنباء عن الترفيع في الفاتورة: الستاغ تًوضّح    أهدى أول كأس عالم لبلاده.. وفاة مدرب الأرجنتين السابق مينوتي    وزارة الشؤون الثقافية تنعى الفنّان بلقاسم بوڨنّة    اجتماع أمني تونسي ليبي بمعبر راس جدير    جمعية مرض الهيموفيليا: قرابة ال 640 تونسيا مصابا بمرض 'النزيف الدم الوراثي'    غدًا الأحد: الدخول مجاني للمتاحف والمعالم الأثرية    مواطنة من قارة آسيا تُعلن إسلامها أمام سماحة مفتي الجمهورية    خطبة الجمعة ..وقفات إيمانية مع قصة لوط عليه السلام في مقاومة الفواحش    ملف الأسبوع .. النفاق في الإسلام ..أنواعه وعلاماته وعقابه في الآخرة !    العمل شرف وعبادة    موعد عيد الإضحى لسنة 2024    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الاحتكار زمن الثورة يمارسه الجميع
نشر في باب نات يوم 08 - 05 - 2013


منجي المازني
نهى الله عن الاحتكار لما يمثله من تعدّ على حقوق الناس وسلب لها بغير وجه حق. والاحتكار مذموم بكل المقاييس الشرعية والقانونية والإنسانية. فالمحتكر هو أولا أناني يحب الخير لنفسه ويرغب في الاستزادة منه ولا يحبه لغيره من الناس. كما يرغب عن الاستزادة منه لغيره. والمحتكر ثانيا ليس في قلبه رحمة بأحوال الناس باعتباره يستغل معرفته الجيّدة بأحوال السوق ليتصيد الفرص ويخفي بعض السلع عن التداول في السوق لفترة قد تطول وقد تقصر ثم يعرضها عندما تنفد ويشتد طلب الناس عليها فيرتفع ثمنها. وبينما يدفع الناس مزيدا من الأموال في سبيل الحصول على البضاعة المحتكرة (وخاصة إذا كانت ضرورية) يعود المحتكر إلى بيته فرحا مسرورا قرير العين مرتاح البال بما كسب وغنم من أموال الناس بالباطل. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "الراحمون يرحمهم الرحمان، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء". "من احتكر طعاما أربعين يوما فقد برئ من الله وبرئ الله منه". "من أصبح ولم يهتم بأمور المسلمين فليس منهم".
ورغم علم الأغنياء ورجال الأعمال بتدني القدرة الشرائية للمواطن وبعدم قدرته على تلبية احتياجاته الضرورية إلا إن العديد منهم لا يدخرون جهدا في سبيل الاحتكار والاستزادة منه. فمثلا تعمد عديد الشركات المتاجرة في مجال الحليب ومشتقاته إلى تعاطي البيع المشروط عندما يقل الحليب في السوق فتبيع إلى تجار التفصيل مادة الحليب مع الياغورت والعصير والمشروبات الغازية بصيغة قصرية. فإذا كان المواطن العادي لا يقدر على شراء علبة حليب لأطفاله فكيف له أن يشتري معها الياغورت والعصير والمشروبات الغازية ؟ !!! ثم أليس هذا متاجرة فجة ورخيصة بقوت المستضعفين من الناس ؟ !!!
ويحدث أن يستدعى هؤلاء المحتكرون إلى حفل أو حملة تبرع فيتبرعون بعشرات الآلاف من الدنانير ويعرضون أنفسهم أمام عدسات الكاميرا وهم يتبرعون للفقراء والمساكين والمرضى. ولكن هذه الأعمال الخيرية والتبرعات لا تساوي شيئا عندما تكون متأتية من ممارسة الاحتكار. فالتبرع الحقيقي هو قبل كل شيء الشعور والإحساس العميق بمآسي الناس والامتناع الفعلي والنهائي عن ممارسة كل أنواع الاحتكار.
والاحتكار في مفهومه الاصطلاحي مرتبط بالاحتكار في البيع والشراء ولكن الاحتكار في مفهومه الشامل والواسع يمكن أن يطال كل المجالات ويتسلل إلى كل القطاعات. ومن ذلك احتكار المنصب والوظيفة.
فأغلب المسؤولين يحتكرون مناصبهم ووظائفهم لفرض وجهة نظرهم. فيلجأ المواطن أحيانا عند طلب خدمة إدارية معينة وعدم الظفر بها رغم الحاجة إليها إلى مجادلة المسؤول في الغرض فيدعي هذا الأخير أنه امتنع عن الموافقة تنفيذا للقانون بحذافيره فهو على حق لأنّه يمسك بناصية القانون. وأن تصرفه هذا يتطابق مع الفهم والتجسيد الحقيقي للقانون ويوصد كل المنافذ التي قد تؤدّي إلى فهم جديد ومغاير لما ذهب إليه. وأينما ذهب المواطن التونسي وبأية إدارة حل إلا وحاول المسؤولون إقناعه أن الخلل أو الإشكال يرجع إليه هو بدرجة أولى.
وفي نفس الإطار يحتكر المسؤولون وظائفهم ويظلمون الموظفين الراجعين لهم بالنظر. فكثير ما يتعرض الموظفون وخاصة الناشطون منهم إلى المضايقات و سوء المعاملة من قبل رؤسائهم المباشرين. فلأدنى سبب يعمد هؤلاء المسؤولون لا فقط إلى تضييق الخناق على مخالفيهم في الرأي أو في طريقة تسيير الإدارة أو في صيغة متابعة الملفّات الدقيقة بل وكذلك إلى تجميد ترقياتهم. فيتظلم المظلومون إلى كل المسؤولين مرجع النظر ولا يدعون مسؤولا كبيرا ولا صغيرا إلا ويطرقون بابه. ولكن ما يتوجّب الإشارة إليه هنا هو أن العديد من المظلومين عندما يتبوؤون مناصب عليا يسلكون نفس الأساليب ونفس السلوكيات التي لطالما قاوموها وعانوا منها قبل التكليف.
ومن الاحتكار احتكار المال والنفوذ وفرص العمل حيث يلتجأ العديد من رجال الأعمال لما لهم من سلطة وجاه ومال وتحكم في سوق الشغل من بخس العمال حقوقهم والتعاقد معهم بعقود وقتية وبأجور زهيدة والالتجاء إلى طردهم من العمل إن هم احتجوا على ذلك في يوم من الأيام.
ومن بين ضروب الاحتكار الأخرى احتكار العلم والمعرفة والسعي إلى اتباع جميع الوسائل لصدّ الناس عن مواصلة التعلّم والنهل من معين المعرفة والتدرج في مدارج العلم والمعرفة وذلك حتّى لا يلهج الناس إلا بأسماء فئة قليلة جدا احتكرت العلم ونسبته لنفسها من دون الناس. عندما طرقت باب الجامعة وكان ذلك قبل حوالي ثلاثين سنة وجدت الطلبة يتحدثون عن طالب رياضيات وفيزياء كان يشتكي من سوء تقييم الأساتذة له ومن صعوبة الامتحانات المقدمة للطلبة وقتئذ بما أدّى إلى رسوب هذا الطالب ثلاث سنوات متتاليات فرفت من الجامعة. إلا أنّه لمّا سافر إلى فرنسا أكمل دراسته ونجح بيسر في كل الفصول بدون أن يرسب ولو سنة واحدة ثم تحصل على دكتوراه دولة ورجع إلى تونس وعين أستاذا في نفس الجامعة التي أطرد منها. ثم ما لبث الطلبة الجدد أن اشتكوا من الأستاذ الجديد لأنه استعمل نفس أساليب أساتذته وتسبب في رسوب وطرد العديد من الطلبة. ولكن-للاسف- لا يتوفّر كل الطلبة على الإمكانيات المالية الضرورية للسفر ومزاولة التعلّم بالخارج لضمان النجاح.
و لعلّ أشد أنواع الاحتكار هو احتكار السلطة والحكم حيث يقود هذا النوع من الاحتكار في أغلب الأحيان إلى الاستبداد والتسلط وظلم الناس والاستحواذ على حقوقهم السياسية ويفتح الباب أمام كل أنواع الاحتكارات الأخرى. ذلك أن الحاكم المنتخب والعادل سوف يحارب الاحتكار بجميع أنواعه. وسيسعى للقضاء عليه بكل الطرق.
قامت الشعوب العربية في بلدان الربيع العربي بثورة على الذين احتكروا السلطة لعقود وفرضوا عليها أسلوب حياة غير أسلوبها. وخلنا أن الشعب الذي انتفض على الحاكم المستبد سيحارب الاستبداد والاحتكار وسيقضي عليهما كما سيقضي على كل المحتكرين إلى الأبد ولكن ما حصل بالفعل هو العكس تماما.
فعلاوة على الاحتكار سالف الذكر والموجود منذ زمن الاستبداد تكشف الناس على أنواع جديدة من الاحتكار. حيث توسعت شريحة المحتكرين والمتسلطين والمستبدين. فبرزت فئة جديدة مختصة في احتكار الحليب والأدوية والخضار والغلال والماء المعدني والحديد ونحوها وتهريبها إلى البلدان المجاورة. وبرزت أخرى مختصة في احتكار الطرقات والاستيلاء عليها وتخصيص نصف مساحتها (على طول الأحياء الشعبية) للانتصاب الفوضوي للبيع والشراء وعرض السلع. وبرزت فئة ثالثة مختصة في احتكار قانون العمران وتشييد بنايات بدون رخص بناء وإلقاء فضلات البناء فوق الفضلات المنزلية أو في أماكن غير معدّة لذلك. واحتكر عمال النظافة بدورهم طريقة عمل لا تتوافق مع فترة الثورة المنفلتة فغرقت البلاد في أطنان من الأوساخ والقاذورات. وبرزت فئة من المتشددين واحتكروا فهم الدين حيث استولوا على عديد المساجد وقاموا بمنع أئمة حافظين لكتاب الله من إمامة الناس في الصلوات الخمس ونصبوا مكانهم من لا يحفظون عشر كتاب الله ومن لا يرقون إلى مستواهم المعرفي بأي حال من الأحوال.
كما برزت أيضا منظمة مهنية معروفة وادعت احتكار القوة بعد أن خرست طيلة فترة حكم المخلوع بل وقادت عديد الإضرابات والاعتصامات والصدامات مع الحكومة المنتخبة سرا وعلانية وذلك بعدما أطلقت شعار "الاتحاد هو القوة الأولى في البلاد".
وانبرت عديد التيارات المعارضة لافتكاك نصيبها من الاحتكار : احتكار السلطة والقانون والمراقبة. فأنشأت مجلس تأسيسي مواز تتمثل مهمته الأساسية في مراقبة المجلس التأسيسي المنتخب !!!
وتتالت الاحتكارات من كل حدب وصوب ومن كل الاتجاهات. وانخرط الناس في ثورة الاحتكارات بعدما قاموا بثورة مجيدة أطاحت بالمحتكر الرئيسي ألا وهو المخلوع. لقد أصبح أغلب المواطنين بعد الثورة مساهمين في بورصة الاحتكارات كل حسب رأس ماله واختصاصه.
وعلى ضوء ما سبق تتبين لنا ثلاثة أمور:
1) قام الناس بثورة على التسلط والاستبداد واحتكار السلطة ولكنهم عندما أطاحوا برأس الاحتكار لم يقضوا على بقية أنواع الاحتكار بل تقاسموها فيما بينهم كل حسب اختصاصه وميولاته في سوق الاحتكار. فتعطيل العديد من مشاريع التنمية والبناء في عديد القطاعات والمجالات في مرحلة الوضع الانتقالي ليس مرده الأساسي سياسة الحكومة المتعثرة نوعا ما، بل مرده أساسا إلى نزعة تغول المواطن ومحاولة احتكاره لكل ما له علاقة بمحيطه. فمن جهة يطالب المواطن المصالح المختصة للبلديات برفع الفضلات المنزلية بأقصى سرعة ممكنة ومن جهة أخرى يسمح لنفسه بتشييد أو ترميم بناية دون الحصول على رخصة وبإلقاء كل فضلات البناء في غير الأماكن المعدّة لها في وضح النهار وأمام كل الناس.
2) يتحمل الناس الظلم وكل أنواع الاحتكار بدرجات متفاوتة عندما يتسلط عليهم. ويخزنونه في لا شعورهم ثمّ يتحينون الفرصة لتفريغ شحنات القهر الذي سلط عليهم على مدى سنوات الاستبداد. فإذا تمكنوا في يوم من الأيام من تبوء سلطة أو مكانة رسمية أو "ثورية" أفرغوا كل هذه الشحنات وتخلصوا منها كل حسب طريقته وفقا لقاعدة "لا شيء يضيع كل شيء يتحول". فلو أردنا اختيار رئيس للبلاد طبقا لقانون الاحتمالات لأعدنا إنتاج نوعية الدكتاتور زين العابدين بن علي بنسبة 60 أو 80 في المائة. ولانطبقت علينا عند ذلك القولة المأثورة : "كيفما تكونوا يولى عليكم".
3) تظل الثورة حلما لكل إنسان على وجه هذه الأرض. ولكنها عند حدوثها لن تكون قادرة على إصلاح شأن الناس وتغيير نمط حياتهم انطلاقا من ذاتها بل إنّ التغيير الحقيقي يأتي من طبيعة صانعيها الذين أنجزوها وطبيعة زعمائهم وما قدموه من عمل وتوعية وتحسيس لترشيد الناس. لأن الإنسان بدون توجيه وترشيد من رموز القوم ومن العلماء ومن أولي العزم يظل يحن إلى الانفلات وإلى الطغيان. قال الله تعالى "كلا إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى". "والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر".


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.