منجي المازني في ظل الفترة الانتقالية التي تعيشها البلاد والاحتقان الدائر تعرض الإسلاميون في تونس وخارجها إلى انتقادات شديدة من بعض شرائح ومكونات المجتمع المدني بشقيه اليميني واليساري. لقد لفت نظري صدور انتقادات جريئة تتهم الإسلاميين بالنفاق السياسي والديني من عامة الناس ومن مثقفين ومتعلمين وأكاديميين، متدينين وغير متدينين ولكنهم غير متحزبين ولا ينتمون إلى تيارات سياسية بعينها. حيث صدرت هذه الاتهامات عبر الفضائيات وضمن حلقات النقاش الدائرة بين عديد مكونات المجتمع المدني. ولم يتورع البعض من اتهام الشيخ راشد الغنوشي وبعض رموز الحركة الإسلامية بالخداع والنفاق السياسي والديني حتى قال بعضهم : "راشد الغنوشي هو رجل متصلب ويمارس النفاق السياسي والديني : فهو رجل دعوة ودين وعليه ترك السياسة للسياسيين" وقال آخرون "يعجبنا الشيخ عبد الفتاح مورو وسمير ديلو فهما يمثلان الإسلام المعتدل والمتسامح أما راشد الغنوشي فهو رجل متصلب". بداية لا بد من الإشارة إلى أن حركة النهضة أو عديد الحركات الإسلامية في تونس وخارجها تضم في صفوفها العديد من الكفاءات العلمية والفكرية المتميزة في عديد المجالات ولاسيما في مجال الفكر الإسلامي. ويمكن أن نذكر على سبيل الذكر لا الحصر الشيخ راشد الغنوشي والدكتور عبد المجيد النجار والشيخ عبد الفتاح مورو... فعوضا أن يتم تكريم العلماء وتنزيلهم المنزلة اللائقة بهم، يتم استضافة العلماء في بلادنا،في بعض القنوات التلفزية لمحاصرتهم ولمحاولة الإيقاع بهم ولو لمرة واحدة قصد تعريضهم لاستهزاء العامة والخاصة وتنفير الناس منهم. رغم الثراء البشري والعلمي لحركات الإسلام السياسي ما الذي حدا بالبعض من شرائح المجتمع والعديد من المثقفين والأكاديميين والدارسين لنصيب من الفلسفة والرياضيات والمنطق وكذلك المتخصصين في عديد العلوم الإنسانية والتجريدية والتكنولوجية من تكوين وبلورة فكرة خاطئة وغير دقيقة عن الحركات الإسلامية في تونس وخارجها مما دفعهم لاتهام رموزها بالنفاق السياسي والديني.؟ أعلم أن الإعلام له دور في توجيه الناس ولكن نحن نتحدث هنا عن نخب وأكاديميين لهم درجات علمية مرموقة في عديد الاختصاصات ولا يمكن لإعلام مهما كان دوره في صناعة الرأي العام أن ينجح في اختراق قناعات الناس وتغييرها إذا كانت هذه القناعات مبنية ومرتكزة على أسس علمية صلبة ومتينة. فالمسألة تعود إلى التكوين الديني بالأساس. فالإفتقار إلى الحد الأدنى من التكوين الديني والوعي وغياب الوازع الديني هو السبب الرئيس لذلك.. فعلوم الإسلام ومقاصده هي علوم قائمة بذاتها ولا يمكن أن نتعرف عليها من خلال العلوم الأخرى وحسب. ولا يمكن لأي علم مهما تعمقنا فيه أن يعطينا فكرة دقيقة عن الإسلام. فكل علم يعرف ويتعرف عليه من داخله وبأدواته. فلا يمكن مثلا معرفة الإسلام بالمنطق فحسب لأن المنطق هو علم يفتح الباب على مزيد من التعمق في ماهية الأشياء والعلاقة المنطقية بين الأسباب والمسببات لا أن ينيرنا فيما يتعلق بماهية أصل الأشياء. وأصول العلوم تأخذ ممن تعمقوا فيها وتمكنوا منها. والإسلام أو فقه الإسلام يتعلم ويستوعب ويفقه على مرحلتين مثله في ذلك مثل شتى العلوم. : مرحلة نظرية تكوينية تأصيلية ومرحلة عملية تدريبية وسلوكية. : المرحلة النظرية التأصيلية الإسلام هو دين الله وهو منهج حياة صالح لكل زمان ومكان وهو مجموعة من التعاليم والحقائق والحلقات واللبنات المترابطة فيما بينها بحيث كل حقيقة تحيلك إلى ما بعدها وكل لبنة تجعلك تطل على اللبنة الموالية وكل حلقة تشدك إلى ما قبلها وإلى ما بعدها. قال الله تعالى : "كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ" فإذا لم نفهم حقيقة الرباط بين كل اللبنات وحقيقة الرباط بين كل الحلقات افتقدنا المعنى الأساسي والحقيقي للإسلام. وكمثال على ذلك لا يمكن فهم نظرية جديدة في الرياضيات إلا إذا تمكنا من فهم وكنه كل المفاهيم والنظريات الممهدة لفهم النظرية الجديدة. ابتدأت دعوة الإسلام بقول الله لرسوله : "ياأيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالاته والله يعصمك من الناس إن الله لا يهدي القوم الكافرين " وبدعوة الرسول للناس "يَا أَيُّهَا النَّاسُ ، قُولُوا : لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ تُفْلِحُوا". ثم قول الرسول " الإيمان بضع وسبعون شعبة فأفضلها قول: لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان" ثم قول الله "فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه" ثم فرض الجهاد بقول الله "أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ" ثم قول الله "وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً" وقول الرسول "سَيِّدُ الشُّهَدَاءِ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ ، وَرَجُلٌ قَامَ إِلَى إِمَامٍ جَائِرٍ فَأَمَرَهُ وَنَهَاهُ فَقَتَلَهُ". ثم قول الرسول "مَنْ أَحْيَا سُنَّتي عِنْدَ فَسَادِ أُمَّتي فَلَهُ أَجْرُ شَهِيدٍ". ثم "من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية". ثم "من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم" فالإسلام هو كل هذه الآيات والأحاديث وليس آية منعزلة أو حديثا منعزلا. وهو يتنزل في إطار حل شامل لقضايا الناس. من المؤكد أن الذي يتعمق في دراسة وفهم معاني هذه الآيات والأحاديث سيدرك ويفقه روح الإسلام وسيتحرك الإسلام داخله بهذه المعاني وهذه الروح الجديدة وإذا لن يسمح لنفسه مستقبلا باتهام علماء ودعاة لهم وزنهم بالنفاق ولا بابتزازهم والاستهزاء منهم أمام الناس. أما الذي لا يستطيع أو لا يريد أن يلم بكل هذه المعاني فإنه سيكون بالتأكيد قاصرا عن فهم روح الإسلام مثله مثل من لا يستطيع أن يجد حلا لمعادلة رياضية تستدعي تداخل خمس نظريات في حين أنه لا يفقه منها مثلا إلا ثلاث أو أربع فحسب. المرحلة التطبيقية : وهي ملازمة للمرحلة النظرية التكوينية التأصيلية. فلترسيخ مفاهيم الإسلام واستيعابها (أو بالحد الادنى استيعاب الإسلام كمنهج حياة وكموجه للبشرية) والعيش بالإسلام وللإسلام وتنزيل الإسلام على الواقع وتطويع الواقع لمقاصد الإسلام لا بد من التدرب على ممارسة شعائر الإسلام وتعاليمه والانخراط في الحراك والأنشطة ذات العلاقة بالإسلام وتطبيقاته كارتياد المساجد وحفظ القرآن والمشاركة في الحلقات التكوينية والملتقيات والمنتديات... ذلك أن كل تدريب عملي إضافي هو ترسيخ للفكرة وتأصيل للمسألة. فإجراء التمارين والتدريبات اللازمة حول أي مادة وحول أي موضوع هو بشكل من الأشكال إضافة وتعمق في الموضوع وتثبيت وترسيخ للمفاهيم قال أحد الصحابة " كان رسول الله يفرغنا ثم يملؤنا" وقال رسول الله "لا يؤمن أحدكم حتى يكون هوى أحدكم تبعا لما جئت به" وقال أيضا لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه". فالمسلمون في صدر الإسلام مكثوا ثلاث عشرة سنة طيلة الفترة المكية وهم يتعلمون الإسلام ويتدربون على استيعابه نظريا وممارسة. وتلقوا في سبيل ذلك الأذى الكثير من المشركين وصبروا وصابروا وجاهدوا النفس وكل أنواع الأذى إلى أن أضحوا أمثلة في الصبر وفي الثبات على المبدأ وحمل الأمانة. وفي ذروة التميز وعند هذه اللحظة من الصفاء الذهني والروحي فرض الجهاد. قال الله تعالى "أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ ( 39 ) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ( 40 ) الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ". فلو فرض الجهاد والمسلمون مازالوا لم يفقهوا بعد الإسلام علما وممارسة لشق عليهم الأمر وصعب عليهم ولسهل هجره بعد ذلك. وفي هذا السياق ورد في المأثور أن صلاح الدين الأيوبي كان قد طلب من العلماء والفقهاء أن يشرحوا للمجاهدين والمرابطين لتحرير بيت المقدس كتاب إحياء علوم الدين للإمام أبو حامد الغزالي. بعد صلوات الفجر. ولذلك قال العلماء إن الذي حرر بيت المقدس هو كتاب الإحياء. خلاصة القول : لتجديد الوعي الديني لا بد من الاستعداد لذلك بخطوات نظرية وعملية يمكن حصرها في النقاط التالية : 1) عودة الثقة في علماء الشريعة المتخصصين حتى يكونوا مرجعا للناس في كل تساؤلاتهم وانشغالاتهم حول الإسلام ومقاصده. ففي سنوات التصحر وتجفيف المنابع تلاشى الدور العظيم للعلماء وأصبح دور المفتي مقتصرا على الظهور للناس في مناسبات قليلة وقليلة جدا تتعلق بدخول شهر رمضان وحلول يومي عيد الفطر والأضحى. فمن الأسباب التي سمحت للبعض بالتطاول واتهام بعض العلماء والدعاة بالنفاق يمكن أن نذكر انعدام الثقة بالعلماء، والاستعاضة عنهم بالثقة المتناهية في أنفسهم وهو ما يعبر عنه في علم النفس بتضخيم الذات. يحدث هذا رغم افتقارهم للمكانة العلمية الضرورية لذلك. فإعادة بناء هذه الثقة بين علماء الشريعة وكافة أطياف المجتمع بما فيها مكونات المجتمع المدني يجب ان يكون هو المنطلق لكل عمل تصحيحي في ما يتعلق بتشكيل وإعادة تشكيل الوعي الديني. 2) التوجه نحو تصور وإعداد برنامج نظري وتطبيقي متواصل عن الإسلام الصحيح تشرف عليه المؤسسة الدينية الرسمية. ويكون هدفه هو تقديم تعاليم الإسلام ومقاصده بطريقة مبسطة إلى السواد الأعظم من الناس. 3) لفت نظر الأسر إلى العناية بأبنائهم وتوجيههم منذ الصغر للالتحاق بالمؤسسات الرسمية للتزود من معين الإسلام الصافي. فلقد لاحظ الناس أن عديد الأسر في تونس لتختبر ذكاء أبناءها منذ الصغر حيث ترسلهم منذ نعومة أظفارهم إلى مدارس تعلم الفنون والموسيقى والرياضة وتنفق في سبيل ذلك أموالا لعلها تفجر فيهم طاقات إبداعية خارقة للعادة كامنة بداخلهم. ولكن هذه الأسر لا تسعى بالقدر الأدنى المطلوب إلى توجيه أبنائها إلى الشرب منذ الصغر من النبع الصافي للدين الإسلامي. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ما من مولود إلا يُولد على الفطرة ، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه". فلقد بشرنا الرسول الكريم بأن الطفل يولد بطاقة إبداعية أو بفطرة من عند الله توصله إلى الحقيقة وإلى الدين الصحيح وإلى الراحة النفسية والعقلية. إلا أن هذه الفطرة تحتاج إلى حماية ورعاية حتى لا تطمس. فيحدث أن ينشغل الوالدان بظروف الحياة الصعبة ويتركان أبناءهم يصارعون بمفردهم تناقضات الواقع. فمثلا يمكث الأبناء في أغلب الأحيان بمفردهم أمام التلفاز أو الحاسوب والإنترنت دون رقابة من أولياءهم. وعندئذ يمكن أن ينساق الأبناء إلى الفواحش أو المخدرات أو المسكرات من خلال الأفلام الإباحية والمنوعات الرديئة، أو ينساقون إلى عملية غسل دماغ من طرف دعاة التطرف الديني. وفي كلتا الحالتين سيضيع الأبناء ولن تنفعهم عند ذلك جميع إبداعاتهم الموسيقية والرياضية. فالعناية بالأبناء وتوجيههم منذ الصغر إلى المؤسسات الدينية الرسمية المعترف بها هي مسؤولية كل الأولياء وليست مسؤولية الملتزمين فقط. فإذا لم يهتم ولم يسع الأولياء بالقدر الكافي لتمكين أبنائهم من استيعاب شريعة الله من مصادرها الصحيحة في سن مبكرة قد يستفيقون .ذات يوم على وقوع أبنائهم فريسة إما بين براثن التطرف الديني أو براثن الانحلال الأخلاقي ويصبح الأولياء عندئذ متهمين بطمس فطرة أبناءهم بقصد أو بدون قصد.. جاء رجل إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، يشكو إليه عقوق إبنه فأحضر عمر بن الخطاب رضي الله عنه هذا الإبن وأنّبه على عقوقه لأبيه، فقال الابن: يا أمير المؤمنين، أليس للولد حقوق على أبيه؟ قال: بلى، قال: فما هي يا أمير المؤمنين؟ قال: أن يحسن اختيار أمه وأن يحسن اختيار اسمه، ويعلمه الكتاب (القرآن). فقال الابن: يا أمير المؤمنين إنه لم يفعل شيئاً من ذلك: أما أمي فإنها كانت زوجة لمجوسي، وقد سمّاني جُعْلاً أي " خنفساء "، ولم يعلمني من الكتاب حرفاً واحداً. فالتفت أمير المؤمين إلى الرجل، وقال له: أجئت إليّ تشكو عقوق ابنك، وقد عققته قبل أن يعقك، وأسأت إليه قبل أن يسيء إليك.