بقلم حاتم الكسيبي انزعج معظم التونسيين من مناظر الدماء المسكوبة بسخاء في ميادين القاهرة و من القبضة الحديدية التي سلطت على الإعلام المصري، ذلك الذي اصبح يغرد اغنية السيسي حامي حمي الوطن والدين و يطبل لرمسيس و نفرتيتي علّهما يعودان للوجود. ولعل اعتراف أربع دول والكيان الصهيوني بدولة الانقلاب لخير دليل على الفشل السياسي وقصر النظر عند الانقلابيين الذين يعدون بدولة ديمقراطية ومتقدمة تعيد مجد مصر على مدي العصور والازمان. لقد اشمئز أهل تونس من تشديد الحصار على غزة بمباركة صهيونية وبمال عربي فعلموا مغزى الانقلاب الدموي في مصر و عرفوا مآله الحتمي ولو بعد حين. فلا يمكن لتونسي تحرّر من عبودية مقيتة، مهما ألمّ بالبلد من ظروف وقلاقل، أن يتمنى عودة حكم القبضة الحديدية و البطش ولو وعدوه بالرقي وزينوا له الطريق، وهو الذي جرب العيش بحرية بدأت تنضج و تتخلص من عديد النقائص. لقد توحدت المواقف في مصاب مصر و أعلنت بيانات التنديد والاستنكار ممن يعارض و ممن يحكم، ولم يخالف ذلك الموقف إلا جبهات الفوضى التي تهوى الدّنس و الدّرن فتقتاته وتفرّخ فيه. لكنّ نفرا من أهل البلد ارتضوا الانقلاب الناعم كوسيلة توصلهم إلى الحكم بعد أن خسروا منذ سنتين أصوات المقترعين فأوجسوا في أنفسهم خيفة على ارث ثقيل توارثوه تحت عديد المسميات و علموا أن فناءهم السياسي مرهون باقتراع ثان في أجل قريب. هؤلاء هم في بعض الأحيان النخبة وفي بعض آخر المحللون، و تارة مستقلون محايدون وتارة أخرى أكاديميون أهل رأي و معرفة، تعددت أسماؤهم و مسمياتهم ولكن ما يجمعهم هو الترويج لتلك الصورة القاتمة التي أصبحت تجول في خاطر العديد من الناس: انسداد الأفق و فشل المرحلة الانتقالية، ثم يعمدون الى تنقية العهد القديم من الشوائب العالقة في ذهن المواطن فربما يعودون به يوما للوجود. كيف لا يطمحون لذلك وقد نالوا جوائزه ومدحوه حاكما و فارّا، فمنهم من كان سفيرا و منهم من ألحق بالقنصليات، وفيهم منقح الدستور على مقاس المخلوع وفيهم أيضا وزراؤه و أعضاده الذين يشيرون عليه و يرسمون له الأهداف والغايات كلما جمعهم لإبداء الرأي والنصيحة. فهؤلاء من صنعوا نظام العهد الجديد والامتياز وخيار المستقبل لمّا وفروا له النصوص القانونية و الأرقام المفبركة. يعود هؤلاء الأساتذة المحللون المستقلون ليبدوا بآراءهم في الحوار الوطني الدائر هذه الأيام فيحذرون من خطورة إطلاق سلطة المجلس لتأسيسي وينبهون أن تحديدها يمكّن من المضي قدما نحو "التوافق". إنّ رأيا كهذا اعتمد بعد الوعود التي اتخذت باستقالة الحكومة، فلم يبقى للحكام الجدد منفذا لممارسة السلطة إلا عبر المجلس التأسيسي لما يمثلونه من أغلبية فيه ولما لهم من قوة نافذة في تمرير القرارات و القوانين الثورية كعدم سقوط جريمة التعذيب بالتقادم، فيحلم معتقلو "صباط الظلام" و "برج الرومي" و "الناظور" بنشوة القصاص. فإن أفلح هؤلاء "الناعمون" في تمرير هذه الخطوة لا قدر الله، فستكون بمثابة تجمهر أعداء الديمقراطية في آخر أيام جوان بميدان التحرير، والتي تلاها إعلان الانقلاب و ما أعقبه من قتل وحرق و سفك دماء و اعتقال و دهم لمؤسسات إعلامية وطرد للصحافة العالمية. و يبقى الأمل الوحيد معقودا في رقبة الشباب الذي بقي يلحظ شطحات الشيخ الهرم و تنازل الحاكم المنتخب، فيتدبر أمره و يحصن مجتمعه المدني ثم يستعد لأيام عصيبة قد يلقي بها القدر نحونا. والله غالب على أمره وكل عام وأنتم بخير.