محمد الحمّار تيقنت منذ مدة أنّ الحراك الفكري والسياسي ما بعد الثوري في تونس ينقسم إلى سجلين اثنين. ما هما، وما هو توصيف الانقسام النخبوي، وكيف يكون تقاسم المهام مستقبلا؟ أفترض أنّ هنالك "المشروع الحياتي" (المشروع العلمي والاجتماعي والحضاري) من جهة و "المشروع المنهجي" من جهة ثانية. ثم أعاين أنّ جمهور النخب من مفكرين ومثقفين وسياسيين وإعلاميين وسائر المهتمين بالشأن العام يخوضون بصفة تكاد كلية في ثنايا المشروع الأول آملين إيجاد مخارج تنفيذية/مادية للأزمة لكن قلّ وندر أن نجد من يعير أية أهمية تذكر للمشروع الآخر، مشروع التخطيط لمقاربة بيداغوجية تمهّد للمقاربة التنفيذية. لكأن قطار تونس يسير على جانب واحد من السكة الحديدية. كما أعاين أنّ غالبية الناس الذين يشاركون في الحراك الفكري و في النقاش العمومي يتحدثون عن حزمة من المسائل والحاجيات والاستحقاقات العالقة على غرار الديمقراطية وحرية الإعلام واستقلالية القضاء وإصلاح التعليم وتسوية الوضع الاقتصادي وتوضيب الحالة الأمنية وغيرها من الاهتمامات. لكن الملفت أنّ التعاطي مع هذه القضايا يتمّ في اتجاه أحادي. أقصد أنّ كل ما ينجز حولها من قول و نقاش وحوار وتحاليل واستقصاء واستشراف واستقراء وتبادل للرأي إنما ينجز من دون توظيف لآليات البعد الآخر، بُعد المشروع المنهجي. بل الذي يزيد الطين بلّة ويثبّت المغالطة الذاتية إزاء الحاجة البيداغوجية هو أنّ المادة المسموعة والمرئية والمكتوبة مغمورة بالمغالطة التي عرفت باسم"أكبر مكسب للثورة هو حرية الإعلام". إن هذا انحراف. وهو يتمثل في كون منسوب الكلام المنطوق به متفوقا بصفة مذهلة على منسوب الفعل المترجم عن الكلام، مما يجعل أداء المتكلم متصفا بالحشو أو بالهراء أو بالهذيان إن لم نقل بالفُصام و بالعُصاب و بالهُذاء. إنه أداءُ مَن "يتكلم لكي لا يقول شيئا" كما جاء في المثل الفرنسي، أو من ينتج "كثيرا من الكلِم بشأن لاشيء" كما أتت به المقولة الشكسبيرية، أو ببساطة قرآنية أداءُ من "يَقُولُون مَا لاَ يَفعَلُون" (الشعراء: 226)، وهو استطرادا أداءُ من لا يخططون لِما سيفعلون. إنّ هذا الغلوّ في سجلّ "ماذا نفعل الآن؟" من ناحية، مع غياب العناية بسجل "كيف نفهم المشكلة؟" و"ما الذي عسى أن نقوله فنفعله؟" من ناحية مقابلة، قد تسبب في مجانبة القرارات الناجمة عن النقاشات والندوات والمقالات والمناظرات، مجانبتها للواقع من جهة ولانتظارات الشعب من جهة ثانية. فهل من سبيل إلى تجسيد ما يلي: "فهمٌ مُمَنهج، فقرارٌ وسطي، فبرنامجٌ قابل للتنفيذ"؟ للإجابة، قد يصح أولا التشديد على أنّ المشروع الحياتي الذي يفترض أن يشتمل على مشاريع للتنمية الاقتصادية وللرفاهة الاجتماعية ولإصلاح منظومات التعليم والقضاء والأمن والاقتصاد وغيرها إنما هو مشروع معطل، وأنه لا غرابة في كونه معطل طالما أنّ المشروع المنهجي شبه غائب عن الوعي. ثانيا، يتوجب التنويه بأنّ الفشل المنهجي لم يكن كافيا للضغط على الفاعلين في مجالي الفكر والسياسة بل وعلى المجتمع بأسره حتى يثوبوا إلى رشدهم. على العكس من ذلك صار المجتمع يلجأ إلى التشكيك في البديهيات والأبجديات على غرار مسالة العلاقة بين الإسلام والسياسة. كيف لا وقد أصبح المجتمع مقسما إلى إسلاميين وعلمانيين وصار هؤلاء يتشدقون بشعار "الدين مسألة شخصية" ليتهموهم خصومهم الإسلاميون بأنهم أعداء الدين، والإسلاميون ينافقون أنفسهم برفع شعار "الدولة المدنية" قبل أن يتهمهم منافسوهم بازدواجية الخطاب. وذلك عوضا عن تفرغ الجميع للبدء في تنفيذ مشروع الرقي والتقدم؟ هذا مما يدل على أنّ مشكلة الانقسام بسبب الدين مشكلة مفتعلة لكنها أصبحت موجودة حقا وذلك لعدة أسباب من أهمها التخلف في تأليف طرق الفهم والعمل. ثالثا، ليتَ هذه التداعيات تعني فقط أنّ المقاربة التنفيذية رهنٌ بتأسيس طريقة للفهم وللعمل وأنها ليست بديلا عنها. ليت حالة الانحراف تتوقف عند هذا الحد. بل الأدهى والأمَرّ أنّ مضاعفاتٍ مثل الخبط في مسائل الاغتيال سياسي والإرهاب والأزمة الاقتصادية والنزوح الفضيع إلى العاصمة والضائقة المالية وغيرها قد زادت المشروع المنهجي تعطلا لأنه مازال في طور الرضيع الذي لم يقم بعدُ بخطواته الأولى على الطريق إلى الوعي. بالنهاية، لا يمكن أن تؤسس نخبنا المشروع العلمي والاجتماعي والحضاري (المشروع الحياتي) من دون تأسيس خطة منهجية لتوحيد الفكر، أعني مشروعا منهجيا يهيأ أسباب تشكل المشروع الحياتي. وإلا من أين ستأتي المكونات الضامنة لتشكّل هذا الأخير مثل التعددية واحترام حق الاختلاف والمواقف من القضايا الحارقة وغيرها من الحاجيات، حين يبقى كل طرف متشبثا بقراءته هو للحياة دون غيرها من القراءات؟