عارف المعالج نقابي جامعي أثار موقف الشيخ راشد الغنوشي من الفصل 15 من القانون الانتخابي والمتعلق بإقصاء التجمعيين من حق الترشح لغطا كثيرا وتأويلات عدّة، وفي هذا الإطار لا يجب أن نغفل في تقييم الموقف عن المعطيات التالية: - الانقلاب المفاجئ وغير المتوقع لموقف ما يسمى بالأحزاب الديمقراطية وخاصة التكتل والتحالف والجمهوري وتغير موقفها ب 180 درجة من هذا الموضوع وفي هذا الوقت بالذات....هذه الأحزاب هي نفسها التي استماتت في الحملة ضد تمرير قانون تحصين الثورة آنذاك واتهمت النهضة بالعمل على إقصاء الخصوم ( وخاصة النداء) لحسابات انتخابية - لم يصمد كثيرا وسقط سابقا مشروع قانون تحصين الثورة ليس بفعل قوة ضغط الشارع المساند للتجمعيين ولكن لسببين رئيسيين أولهما مساندة نفس تلك الأحزاب المسماة بالديمقراطية وقياداتها لحملة التصدي للمشروع وإسقاطه وثانيهما انخراط القوى المضادة للثورة في رد فعل عشوائي على هذا التوجه و في تشكيل قوة فعل وضغط لتخريب الدولة ومؤسساتها عبر أركان الدولة العميقة وأذرعها في المنظمات والأحزاب التي لم تقبل هيمنة الإسلاميين على المشهد الانتخابي السابق وارتمت في أحضان الأحزاب التجمعية بعد أن تقاطعت معها أهدافها في افشال المشروع النهضوي في الحكم حتى ولو أدى ذلك إلى تدمير الدولة على رأس الشعب التونسي الذي أساء الاختيار ووجب تأديبه حسب تقديرهم (وحسب تصريح بعضهم الموثق) حتى لا يعيد الكرة مهما كانت الظروف. تأخرت حركة النهضة عن دعم مشروع تحصين الثورة مقابل تقدير المصلحة العامة واستقرار الدولة وحماية المسار الانتقالي والتجربة الديمقراطية من المخاطر التي تستهدفه وتقديم ذلك على المصالح الحزبية الذاتية كحركة وطنية رائدة - هذا المعطى بجب أن لا يغفل عنه في تقييم موقف حركة النهضة من الفصل 15 من القانون الانتخابي، ومن الموضوعية والذكاء أن يتم التساؤل عن خلفية التغير المفاجئ لموقف تلك الأحزاب، فحقيقة هذا التغير يعود أساسا إلى رغبتها في توفير حظوظ أوفر لتحقيق نتائج ايجابية في تلك الانتخابات في ظل الاستقطاب الثنائي التي سيميز الاستحقاق القادم بين مشروع يرتكز على احترام الهوية العربية الاسلامية باعتبارها مرجعية النموذج المجتمعي المنشود لتونس الجمهورية الثانية ومشروع يرتكز على الحداثة بالمفهوم الغربي والذي يقصر دور الهوية والدين في الاختيارات والتوجهات الشخصية للأفراد فحسب بدون أي انعكاس لذلك على العلاقات العامة بين الأفراد فيما بينهم أو بين الأفراد والدولة. في ظل هذا الاستقطاب تنحسر حظوظ الأحزاب التي تدور في فلك المشروع الحداثي اللائكي وتتفرق الأصوات التي قد تساندها وتتشتت فيما بينها ويكون لرأس المال دور كبير في توجيه اللعبة الانتخابية لصالح الأحزاب التجمعية والتي تسبح في نفس الفلك. إذا فانقلاب الموقف من اقصاء التجمعيين لهذه الأحزاب المسماة بالديمقراطية ينطلق من حسابات انتخابية بحتة ولا تنم على رغبة في تحصين الثورة بل في تحصين ومضاعفة حظوظها في الانتخابات القادمة. طبعا الأحزاب التجمعية سوف لن تقف مكتوفة الأيدي وستحرك أذرعها الضاربة في الدولة العميقة وامتداداتها في المجتمع المدني ومنظماته للتصدي لأي خطوة في هذا الاتجاه حتى ولو أدى ذلك إلى ارباك المشهد السياسي مرة أخرى بالعنف السياسي والاجتماعي وما التهديد الأخير الصادر عن بعض الأطراف التجمعية بمنع انجاز الانتخابات في صورة المصادقة على الفصل 15 عنا ببعيد. - من جهتها فإن حركة النهضة الحريصة إلى الوصول إلى المحطة الانتخابية بسلام وفي ظروف سياسية واجتماعية ملائمة تقطع الطريق عن كل تشكيك داخلي أو خارجي أو عن أي دعوات للتأجيل، وانطلاقا من ثقتها في نفسها وفي شعبها، فإنها تعتبر أن المعركة الوهمية التي تدور حول الفصل 15 من القانون الانتخابي هي ليست معركتها وأن محاولات اقحامها في هذه التجاذبات حول هذا الفصل يدخل في باب الابتزاز غير البريء الذي يخفي رغبة تلك الأحزاب اللائكية في ضرب عصفورين بحجر وهما احراج حركة النهضة أمام أنصارها وعموم أبناء شعبها وإظهارها كطرف مهادن للتجمعيين وغير وفيّة لأهداف الثورة من جهة ومضاعفة حظوظ تلك الأحزاب لتحقيق مكاسب انتخابية وحزبية بإزاحة المنافسين الواقعيين لها، وحركة النهضة التي تثق في وعي الشعب التونس الذي ثار على المنظومة التجمعية بعد أن ذاق منها الويلات وبعد أن شاهد طريقة تعاملها مع الثورة واستحقاقاتها واستعداداتها لإفشال التجربة الانتقالية لائتلاف الترويكا حتى ولو كان ذلك على حساب الاستقرار الأمني والاقتصادي والاجتماعي للبلاد، زد على ذلك الفضائح المتتالية التي لا تزال تنكشف كل يوم حول ممارسات العهد التجمعي البائد من تبديد لثروات البلاد وانتهاكات غير مسبوقة للحريات وللكرامة البشرية ومن اعتداءات على حق الحياة لمن سقطوا من عشرات الشهداء خلال فترة الحكم الحالك للتجمعيين، وهي حقائق سوف تنكشف وتتضاعف مع انطلاق تفعيل مشروع قانون العدالة الانتقالية، فالشعب التونسي الذي لا ينسى جراحه وآلامه التي لا تزال تنعكس على وضعه الاجتماعي والنفسي لن يكون غبيا بأن يعطي رقبته مرة أخرى لمن خبر مكره وفساده واستغلاله وأوصل تونس إلى حافة الانهيار الاقتصادي والاجتماعي والأخلاقي. وهو المؤهل دون غيره – سواء وجد الفصل 15 أم لم يوجد - لتحييد الأطراف التي أفسدت و أجرمت في حقه ومظاهر فسادها لا تزال تنكشف يوما بعد يوم. ولعله من نافلة القول أن تتم الإشارة إلى ما يساعد في فهم طبيعة العقل السياسي الذي يوجه خيارات حركة النهضة وتفاعلها الديناميكي مع المستجدات والمواقف، إذ إن تشتت الأصوات بين أحزاب المعسكر الحداثي اللائكي من تجمعية وغيرها يصب في المصلحة الانتخابية لحركة النهضة انسجاما مع ما ذهب إليه التوافق في طريقة التعامل واحتساب البقايا عند فرز الأصوات الانتخابية ، وهذا ما يؤكد مرة أخرى أن المعركة المفتعلة حول الفصل 15 من القانون الانتخابي والتي يراد زج حركة النهضة في أتونها هي معركة خاسرة ومخسرة في نفس الوقت، وأن الموقف الذي أعلنته الحركة تجاهها هو الأنسب لتونس وللحركة ذاتها،....قد لا يرى البعض خفايا هذه المعركة من الزوايا التي تم كشفها.... أو قد لا يقتنع بالخلفيات التي تم ذكرها من باب الحرص المفرط على قطع الطريق على عودة التجمعيين للسلطة والخشية من عودتهم من الشباك بعد أن خرجوا من الباب وهي تخوفات مشروعة، ولكن وكما يقال فإن الأمور بخواتيمها ...عندها يمكن الجزم إن كان الموقف سار في طريق الصواب أو غير ذلك....مع تأكيد الدور المحوري والثابت والتوحيدي للقوى المساندة للثورة (التي تعمل عديد الأطراف على تشتيتها وبث الفتنة فيما بينها قصد اضعافها وارباكها) في الحراك السياسي القائم وتوعية الجماهير بأبعاد الصراع الدائر قصد حماية التجربة التونسية المتميزة من أي انتكاسة يراد لها.