أبو مازن هنيئا لمن فاز في الانتخابات التشريعية و هنيئا لمن تحصل على مقعد مريح بالبرلمان القادم لتونس الديمقراطية، فكلّ دعا الشعب التونسي لانتخابه وهو صاحب الكلمة الفصل يختار من يشاء لتمثيله و يعاقب من يشاء من السياسيين نتيجة تعنتهم او تنطّعهم. لا يهمّ ان عادت الآلة القديمة للاشتغال لمّا نفض الغبار على أجزائها وشغلتها يد خبيثة أتقنت اللعبة منذ عقود ولكن المهمّ هل تلبّي تلك الآلة مطالب الثورة وهي التي لا تعرف لهذه الأخيرة معنى بل تكاد تتغيظ وتنفجر كلما ترددت هذه المفردة في منابر الحوار والاجتماعات. لقد أنجبت الانتخابات تشكيلة جديدة جمعت بين القديم والجديد و بين الثورة والثورة المضادة، فأسند الشعب الكريم لكل طرف جزءا من أصواته فكانت فسيفساء سياسية مزركشة تطيل أمد الوضع الانتقالي. لا يعتبر هذا الامر مخالفا لسنن الثورات والتغيرات التي وقعت في السابق في عديد الأقطار التي حاولت حلحلة وضعها الاجتماعي والاقتصادي عبر الثورة المحلية و الديمقراطية المستوردة. فلم يستقر الحال بأقطار شرق أوروبا الا منذ بضع سنوات و بقيت أوكرانيا تعاني الى اليوم سجالا حادا بين تشكيلاتها السياسية لما لمسته من تدخل أجنبي يدفع احدى الأطراف للهيمنة و تدخل أجنبي ثان يدعو للثبات على مبدأ الديمقراطية والتداول السلمي على السلطة. لم يكن يخطر ببال أغلب التونسيين أن الفلول التجمعية ستتحد تحت أي مسمى لتثأر لانتخابات 2011 و تستعيد مكانتها السياسية والاجتماعية في المجتمع التونسي. فيحمل البعض المسؤولية للترويكا التي لم تستجب لمطلب تحصين الثورة و يرى البعض الآخر جدوى التحصين الشعبي الذي لاح في بعض مناطق الجمهورية و خفت صوته في مناطق أخرى. ولسائل أن يسأل ماذا ينتظر أهل الشمال الغربي من عودة أحزاب التجمع التي أوصلته الى آخر مستويات الفقر والتهميش عبر سياسات العصا والجزرة عقودا وعقودا من الزمن؟ و ماذا تنتظر المدن التي اندلعت فيها الثورة ممن قادت انتهاكاتهم الى استشهاد أبنائهم ابان الثورة فلم ينالوا شرف الاستشهاد ولم ينالوا شرف النضال؟ عجيبة هي توجهات الشعب التونسي العاطفي جدا الذي يكاد ينفجر غيظا لارتفاع سعر الفلفل والحليب ولا تراه يحرك ساكنا اذا نالته مكرمة مال فاسد أو وعودا بمرتبة أو ترقية او "رد اعتبار" في مستقبل قريب. ان تحليل نتائج الانتخاب قبل اصدارها نهائيا من قبل الهيئة المستقلة و النظر في الطعون المقدمة يبدو صعبا و عملا دون فائدة تذكر، ولكن انارة الرأي العام و ارشاده لمستقبل تونس في الناظر القريب يبدو أيضا أمرا هاما لا سيما وان البلد مقبل في غضون أيام على حملة انتخابية رئاسية. ان اللوم ينصبّ على قوى بالغت في ركوب صهوة الثورة فدفعت ثمن ذلك اقصاءها كليا من الساحة السياسية بعد ان خرّبت أحزاب المؤتمر والتكتل والجمهوري و غيرها من التشكيلات الديمقراطية. ان المستفيد الاكبر من هذه الانتخابات، حزب النهضة، أضحى خارج الحكم ولكنه يحتشد في مجلس النواب بعدد هام من المقاعد و ثلث معطل للمصادقة على القوانين و مسائل شديد للحكومة المرتقبة. ان تونس تسير نحو ديمقراطية ناشئة تتعثر احيانا وتركض أحيانا أخرى وفق عديد الأمثلة الاقليمية، فنتذكر تركيا في تسعينات القرن الماضي وجنوب افريقيا رغم نقص الموارد الطبيعية و القوة العسكرية التي تحظى بها هذه الاقطار. حمى الله تونس من الشرور و زرع الله الأمن والاستقرار بأرضها بجنوبها المناضل على الدوام و بوسطها المتبصر للواقع و شمالها المكلوم المهموم الذي صوّت كما يحلو له انتقاما لوضع سيء سيزداد سوءا.