بقلم: لطيفة شعبان لئن نجح التونسيون في الاطاحة بأعتى آلة قمع واستبداد عرفها العالم في نهاية القرن العشرين وبداية القرن الواحد والعشرون فان بناء “تونس ما بعد بن علي” أو “تونس ما بعد الاستبداد” يتعرض, وخاصة منذ انتخابات 23أكتوبر 2011, الى تهديدات متعددة المصادر, وهو ما يجعل الساحة السياسية التونسية تشهد توترا مستمرا لم تفلح محاولات عدة في ايقافه, توتر تطل من وراءه أيادي خارجية فاجأتها الثورة التونسية وهددت نفوذها في المنطقة وأيادي محلية, تمثلت في “المعارضة” و”الدولة العميقة. توتر المشهد السياسي في تونس يجعلنا نطرح تساؤلات عدة لعل أهمها, هل أن ما عرفته البلاد التونسية بين 17ديسمبر 2010 و14 جانفي 2011 هو ثورة كما يحلوا للمؤمنين بها أن يطلقوا عليها أم أنها مجرد انتفاضة شعبية هدفها الرئيسي تحقيق جملة من المطالب الاجتماعية ؟ هل أسقط التونسيون رأس النظام وبقيت أطرافه تتحرك؟ ما هو دور” الدولة العميقة في كل ما يحدث؟ أي دور تقوم به المعارضة اليوم ؟ نتيجة لتراكمات من القمع والاستبداد والتفقير والتهميش التي عانى منها شعبنا طوال فترة “العهد الجديد” ,خاض التونسيون انطلاقا من 17 ديسمبر 2010 –تاريخ استشهاد محمد البوعزيزي- سلسلة من التحركات السلمية التي بدأت من مدينة سيدي بوزيد لتعم كافة أرجاء البلاد بنسق سريع ومتصاعد, وكان الشعار الرئيسي لهذه التحركات “الشعب يريد اسقاط النظام” . هذه التحركات رأى فيها البعض مجرد انتفاضة شعبية تجعل من تحسين الظروف المعيشية للمواطن مطالبها الأساسية, بهذا المعنى فانه وبمجرد تلبية السلطة لجملة هذه المطالب فان هذا الفوران الشعبي سيخبو. ولكن اذا ما دققنا النظر في المطالب التي رفعت فإننا سنلحظ أن مطلب اسقاط النظام كان المطلب الطاغي والأساسي وهو ما يبرز وبكل جلي أن هذه التحركات تتجاوز مجرد الانتفاض لترتقي الى مرحلة “الثورة”, فحتى لما توجه “بن علي” الى الشعب ليلة 14 جانفي 2011, و عبر عن استعداده لتلبية كل مطالب الجماهير دون استثناء من تنمية عادلة وشغل وحريات إلا أنها أبت إلا أن تقف أمام رمز الطغيان النوفمبري يوم 14 جانفي 2011, والمتمثل في وزارة الداخلية, لترفع هذا الشعار من هناك ليصل الى كل من لم يسمعه جيدا ويجبر بذلك المخلوع على الفرار خارج البلاد . بهذا يمكننا الجزم بأن ما أنجزه شعبنا العظيم يتجاوز مرحلة الانتفاضة الشعبية ليرتقي الى “الثورة” , ثورة شعبية بمواصفات تونسية بسلميتها وقصر مدتها. ولا يفوتنا الإشارة إلى أن الثورة التونسية ورغم سلميتها فقد جوبهت بالرصاص الحي ولكن آلة القمع النوفمبري سرعان ما وهنت أمام إرادة هذا الشعب العظيم الذي علم الشعوب كيف تنتفض لحريتها وكرامتها. نجح اذا شعبنا في الاطاحة برأس النظام واتسع هذا الانجاز ليشمل هياكله, حيث تم حل مجلسي النواب والمستشارين وتعليق العمل بالدستور, ذلك الدستور الذي طالما كان آلة من آلات الاستبداد النوفمبري. و ما يجب التأكيد عليه أنه ورغم هذه الانجازات الثورية إلا أن ما تم لم يرتقي الى مرحلة “الثورة لكاملة” نحج اذا التونسيون في اسقاط رأس النظام ولكن تم الانتقال الى مرحلة استكمال الثورة بصفة تدريحية فبدلا من الاستمرار بنفس الزخم الثوري الى حين اسقاط كل رموز وهياكل النظام القديم تم الركون الى مرحلة الانتقال الديمقراطي وهو خيار فرض فرضا وجاء كنتيجة طبيعية لمسار الأحداث بحكم أن الثورة كانت ثورة سلمية بلا رأس وبلا قيادة وبالتالي لايمكن لأحد أن يتحكم بقرار استمرارها أو ايقافها, وقد اختار االشعب ان لا يدخل في مواجهة دامية مع الدولة العميقة وربما استعمل حدسه واختار المعالجة المرحلية. لكن خيار المحافظة على آليات “الدولة العميقة” ثبت اليوم أنه أحد الخيارات التي عرقلت مسار الثورة ومسيرها نحو تطهير شامل للبلاد من أثر النظام البائد ومنح للدولة العميقة فرصة لاسترداد أنفاسها حيث تظهر أثارها المدمرة عقب كل حدث يستهدف أمن البلاد والعباد ويرمي الى عرقلة المسار الثوري للعودة الى الماضي الاستبدادي. و تجد “الدولة العمقة” ورموزها في الاطراف المعارضة للحكومة الشرعية سندا وداعما لها فما هو الدور الحقيقي للمعارضة التونسية في تعطيل المسار الثوري في تونس؟ لقد كشفت انتخابات 23 أكتوبر 2011 عن الحجم الحقيقي للتيارات التي أطلقت على نفسها اسم “المعارضة” مباشرة بعد الانتخابات حيث لم تتحصل مجتمعة على أكثر من 10% من أصوات التونسيين بل وأن بعضها ورغم عراقته في العمل السياسي وتغلغله في مفاصل المجتمع المدني والإعلام فانه لم يحصل على أي مقعد من مقاعد المجلس القومي التأسيسي رغم أن الماكينة الاعلامية كانت تحت هيمنته بالمقابل حرم منافسوهم وخاصة “حركة النهضة” و”المؤتمر من أجل الجمهورية” من استغلالها بل على العكس وظفت هذه المنابر في تشويههم والاستنقاص من نضالاتهم. و رغم كل هذه الظروف أتت نتائج الانتخابات على عكس ما توقعوا حيثوضع التونسيون ثقتهم في التيار الاسلامي واسندوا له … قيادة البلاد نحو انتقال ديمقراطي حقيقي. أمام هذا الفشل الذريع وتحت هول الصدمة سعت وتسعى هذه الاطراف بكل ما أوتيت من قوة مادية وإعلامية ولوجستية ودعم أجنبي الى تعطيل نجاح الانتقال الديمقراطي ولا تتوانى في اعلان فشله محملة الحكومة الشرعية مسؤولية هذا الفشل وهي ترمي من وراء ذلك الى تحميل الشعب هذه المسؤولية لأنه وحسب رأيها أساء الاختيار ، ولا تكاد تفوت فرصة إلا وحاولت صناعة عقدة ذنب لدى المواطن الذي انتخب خصومها. وغاب عنها أن تونس ما بعد الثورة لا تحتمل ثقافة اقصاء الآخر ولم تعد تلك المصطلحات التي كان يلوكها النظام البائد صالحة للاستعمال ، نحن اليوم في حاجة الى التأسيس لنظام ديمقراطي وقبل ذلك التأسيس لثقافة “الديمقراطية”، يجب ان نتعلم فضيلة العمل المشترك ، ونسعى لاستخلاص أفضل ما لدى الآخر لتنتفع به المجموعة الوطنية، بدلا الانشغال بإبراز أسوأ ما في الآخر لإقصائه ونفيه من ساحة الوطن المشتركة.