* حل الأحباس ... أملاك جامع الزيتونة ... وتدنيس المقدّس
في بلدنا أصبحنا نرى وفي غفلة من الكثيرين كيف تتحول المقامات والمساجد إلى أماكن للّهو والترفيه، فيتحوّل مقام "سيدي عبد القادر" بنهج الديوان بتونس العتيقة، بما يحتويه من مسجد وقسم كان مخصصا لسكن الطلبة الزيتونيين، أو ما يطلق عليه اسم "القشلة"، إلى قاعة للرقص والغناء، وليتحوّل المحراب إلى تحفة فنية عمد البعض إلى إخفائه ونصبوا حذوه منصات للعروض الثقافية من رقص وغناء وغيرها من السهرات "الثقافية". واختفت ملامح المكان المقدس ولم يبق من المسجد سوى الآيات القرآنية الجدارية التي يصعب طمسها، وأسماء الله الحسنى على باب المسجد، وبنية المعمار الإسلامي التي توضح هويته كمسجد، من أقواس وأعمدة ذات طابع إسلامي، تم تحويلها إلى "تراث" وفقدت بالتالي صبغتها الدينية المقدسة، مما دفع بمتساكني نهج الديوان بتونس المدينة إلى السعي لدى السلط المعنية وعلى رأسها وزارة الشؤون الدينية لاسترجاع الصبغة الأصلية للمسجد والمقام. حالة مسجد "سيدي عبد القادر" كشفت الغطاء عن المصير المبهم للمساجد والمدارس القرآنية التي كانت من الأحباس التابعة لجامع الزيتونة، والتي تم تهميشها وإهمالها ضمن مسيرة العبث بالمقدسات التي ابتدأت مع النظام البورقيبي وتواصلت حتى بعد اندلاع الثورة مرورا بعهد المخلوع. بداية تهميش المقدسات القصة بدأت حين وقع حل الأحباس بعد صدور قانون 1957، ومن بينها الأوقاف التابعة لجامع الزيتونة ومنها زاوية "سيدي عبد القادر" التي تتكون من ثلاثة أقسام هي مسجد و"قشلة" أو بيوت لسكن الطلبة الزيتونيين ومخزن يتم تأجيره لتسديد أجور الأئمة والإطارات الدينية، ثم تحول بعد ذلك إلى عقار مهمل وغير مسجل لكنه أدرج في ملك الدولة الخاص، بعد ذلك استولى "الدساترة" على السكن في حين ظل المسجد يقوم بوظيفته إلى بداية التسعينيات، ثم تم غلق المسجد في بداية التسعينيات بتواطؤ من "الشعبة" أو دار حزب التجمع في المنطقة، وتعرض لأشغال ترميم لمدة سنتين قبل أن يتحول إلىأرشيفسنة 2000. تخصيص أم تدنيس؟؟؟ يوم 4جانفي 2008 وجهت وزارة أملاك الدولة والشؤون العقارية إلى وزير الشؤون الدينية مراسلة تخبره فيها أن وزير الثقافة والمحافظة على التراث يرغب في تخصيص معلم سيدي عبد القادر الكائن بنهج الديوان والمتكون من قسمين متلاصقين تتمثل في المقام والمسجد و"قشلة"جامع الزيتونة للأنشطة الثقافية، فردت وزارة الشؤون الدينية برفضها التفويت في العقار للحفاظ على صبغته الأصلية كمسجد، مؤكدة أن "معلم سيدي عبدالقادر يكتسي صبغة دينية خالصة وهو ممحض لإقامة الشعائر الدينية والمصلحة تقتضي عدم التفويت في ملكيته وان يتم تخصيصه لوزارة الشؤون الدينية". وقالت الوزراة إنّه "بخصوص "قشلة" جامع الزيتونة فإننا لا نرى مانعا في تخصيصها لفائدة وزارة الثقافة والمحافظة على التراث"، حسب مراسلة من وزير الشؤون الدينية آنذاك "بوبكر الاخزوري"إلى وزارة أملاك الدولة والشؤون العقارية التي كان يترأسها الوزير السابق "رضا قريرة" نظرا إلى تضمين العقار بدفتر أملاك الدولة الخاصة. وعلى الرغم من أن الرائد الرسمي المؤرخ في 6 ماي 1988 في العنوان الأول من القانون عدد 34 لسنة 1988 المتعلق بالمساجدينص على أن الدولة تتولى ضمان حرمة المساجد واحترامها وانه لا يجوز مباشرة أي نشاط في المساجد لغير الهيئة المكلفة بتسييرها سواء كان بالخطبة أو بالاجتماع أو بالكتابة إلا بعد ترخيص من الوزير الأول، ونص العنوان الثاني منه على أن المساجد جزء من الملك العام للدولة غير قابل للتفويت فيه ولا لسقوط الحق بمرور الزمن". مع ذلك خصّص وزير أملاك الدولة السابق "رضا قريرة" العقار لفائدة وزارة الثقافة والمحافظة على التراث بتاريخ 21 جانفي 2008، وهو "زاوية سيدي عبد القادر" باعتباره " معلما ثقافيا تبلغ مساحته 350 م م تقريبا وذلك قدر صيانته والمحافظة عليه" كما ورد في محضر التخصيص. رقص وغناء ومنحت وزارة الثقافة العقار أو زاوية "سيدي عبد القادر" إلى مسرح الحلقة ل"عبد الغني بن طاره" وفق عقد لزمة لمدة 10 سنوات، وهو عقد يعفيها من تسديد أي مبالغ أثناء استخدامه. وبعد ذلك توالت الحفلات والسهرات الليلية والرقص والغناء وما تتبعها من أجواء مخالفة للشريعة داخل الزاوية والمسجد وكان آخرها السهرات الرمضانية لسنة 2011. وتحول بيت الصلاة إلى ركح أو "بوديوم" للغناء والرقص - بعد اندلاع الثورة- وهو ما أثار غضب المتساكنين واستيائهم فعمد بعضهم إلى الحديث مع "عبد الغني بن طاره" لإثنائه عن ذلك. ومن جهته قال الحبيب بالطاهر مسؤول في وزارة الشؤون الدينية وعضو في جمعية العلوم الشرعية إنه "لا يجوز فعل ذلك بالمساجد شرعا لان المساجد هي أحباس وأوقاف لا يجب تغييرها أبد الدهر وتغييرها يعتبر مس بالمقدسات" أين التنديد بالاعتداء على مقامات الأولياء؟ في الوقت الذي تعالت فيه الأصوات المنددة بالحرق أو الاعتداء على مقامات الأولياء باعتبارها "رموزا ثقافية" وجب الحفاظ عليها ووجهت كل أصابع الاتهام إلى تيار محدد، رغم ذلك لم نر أي تنديد في هذه الحالة لأن من استغل هذا المعلم ومس من قدسيته على هذا النحو الذي أفقده خصوصيته وصبغته الأصلية هم النخبة المثقفة و"الحداثية" لتونس. وبعدها اختفى قبر "الولي الصالح" من زاوية سيدي عبد القادر واختفت معه الثريات الضخمة للمسجد ذات صبغة تاريخية وأزيل أيضا القرميد الذي كان يفصل بين الجزء المخصص للرجال والجزء المخصص للنساء، كما قال أنور بن حامد أحد متساكني المنطقة الذين بذلوا كل جهدهم بعد الثورة لإيقاف المهازل الحاصلة داخل الزاوية. مطالب المتساكنين مواطنة من متساكني نهج الديوان التقيناها خلال الزيارة الميدانية للمسجد ووجهنا لها سؤالا إن كانت تريده أن يعود كمسجد أو كقاعة للعروض الثقافية فقالت "نريده أن يعود إلى صبغته الأصلية كمسجد بدل أن يظل مهجورا على هذا النحو والمنحرفين يسكرون على عتبة بابه ويدنسوه، فحيّنا هو حي تقليدي أو كما يقولون "حي عربي" ونحن نتمنى أن يعود إلى صبغته كمسجد أو يتم تحويله إلى كتاب أو إلى فضاء لحفظ القرآن الكريم وفضاء ثقافي لأطفالنا الذين نضطر إلى إرسالهم إلى أماكن بعيدة لأنه ليس هناك أي مكان للترفيه. الحالة التي ذكرنا، ليست إلا مثالا على العدد الكبير من المقامات والمساجد والأماكن ذات الرمزية الدينية الكبيرة لدى التونسيين التي تم تدنيسها وتحويلها إلى أماكن للهو والمجون. مساجد كثيرة في كامل تراب الجمهورية تم تحويل بعضها إلى حانات، بعد أن تم حل الأحباس، وهو ما سمح بالتفويت في العديد من مثل هذه الاماكن سواء لمنظمات وجمعيات ثقافية او الى اشخاص، حتى تحولت بعض تلك المقار الى حانات.