أدهشكم هذا العنوان أليس كذلك ؟ و "دار دمكم دورة واحدة" ؟ و تشوّقتم أي شوق لقراءة المقال ؟ و البعض بدأ يفرك يديه فرحا للرّد على هذا التكفيري نجيب القروي (نعم هذه لم تخرج بعد , جديدة يمكن أن تصنع حملة شرسة عليه تبقيه أرضا) . و عديد الصحفيّين من أصدقائي في الواقع و في العالم الافتراضي تصوّروا في هذا المقال مادّة لإسالة الحبر ؟ و ما علاقة وجود الدكتور نجيب القروي في المدينة المنوّرة بإصداره لمثل هذه الفتوى ؟ و في رمضان ؟ هل هذه رسالة مشفّرة للقتلة تهدر دما و تشير إلى شهيد الوطن المقبل ؟ إلخ إلخلماذا كل هذا ؟ لأن التكفير من المواضيع التي وقع التطرّق إليها بغزارة (استنكارا و شجبا و تنديدا) و كانت من بين المحاور المختارة بامتياز في "حرب المصطلحات" . أنت تكفّر ؟ لا أبدا أنا لا أكفّر أحدا . ندرج تجريم التكفير في الدستور ؟ الكلنا مسلمين متاع آش تكفّرني إنت ؟ أحنا مسلمين أكثر منكم … و هكذا يصنع السياسيون و الإعلاميون و معهم المثقّفون و الفنّانون و غيرهم… قيم المجتمعات و تابوهاتها , و هي تقنية معروفة . و لكن لنعد لسؤالنا : هل السيد محسن مرزوق فعلا كافر بالله و رسوله و خارج عن ملّة المسلمين ؟ الجواب: كيف يمكنني أن أعرف ذلك ؟ أنا أوّلا لا أمتلك العلم الشرعي الذي يمكّنني من إصدار مثل هذه الفتاوى , و ثانيا لا أعرف المعني و لم أعاين عنده كفرا بواحا , و أخيرا لم يطلعني الله على ما في صدره و لم يتنزّل عليّ ملك و لو في ليلة القدر في مكّة ليخبرني بالحالة الإيمانية للسيد محسن مرزوق . إذا و حيث أنني رجل مسئول فلا أسمح لنفسي بإصدار مثل هذه الفتاوى في شخص السيد مرزوق (و لو أنني على علم بشيء قليل من تاريخه و مساره , و لكن ليس في ميدان الكفر و الإيمان) . ما الهدف إذا من هذا العنوان الصادم ؟ نعم هو بالتحديد لإحداث "الصدمة النفسية" (أستعيرها من السيد الباجي قائد السبسي الذي تمنّاها للحكومة حتى تسقط قطعة الجبنة من فاهها أو فمها) , هذه الصدمة التي أريد أن أسأل بعدها : هل يحق للسيد محسن مرزوق أن يخرج شريحة واسعة من الشعب التونسي من "ملّة التوانسة" حيث أنكم "يكرهون تونس" ؟ و هل لأحد مهما كان أن يحتكر الحديث باسم التوانسة (تذكّروا بالموازات مسألة "الحديث باسم الدين" و الحملات الشرسة عليها) بل و حتّى أن ينزع عن أحدهم هذه الصفة ؟ و في نفس الوقت يتبجّح بدعوة مصريين من حركة تمرّد لمساندته في باردو . و لكن المهم أنهم ليسوا "دعاة إسلام" إذا ليسوا دخلاء علينا و نغلق هذا الفاصل. إن ما قاله السيد مرزوق في ذلك الخطاب في باردو ليس لا صدفة و لا زلّة لسان بل هو بكامل الوعي و ضمن خطة هادفة واسعة و عريضة. و المتابع لمجريات الأحداث من 14 جانفي يلاحظ من بين ما يلاحظ (و هي ملاحظات كثيرة) أن هناك عمل علمي و دقيق في "حرب المصطلحات و العبارات" حيث تصنع المحاور و يروّج لها عبر شبكة واسعة من الوجوه "المحبوبة" من أجهزة الإعلام بصفة تدريجية و ذكيّة و متنوعة (و لي في هذا مقال طويل لا زلت أتحبّط فيه) . و إذا أردنا أخذ هذا المثال بالذات , فإنّني أذكر أنه بدأ الترويج له منذ أكثر من سنة , و أتذكّر "بلاتو" في قناة حنّبعل و كانت هناك سيدة من عالم الفكر على ما أذكر , و التي تسائلت في سياق الحديث حائرة (و لا شك بكامل العفوية) "ياخي هاذم توانسة بربّي؟؟" و أعادتها مرّتين . ثم تدريجيا سمعت هذا الحديث بعد ذلك رويدا رويدا في مناسبات و أماكن و على ألسنة أخرى . حتّى صدع بها بكل ثقة و وضوح السيد محسن مرزوق في خطاب له ..حيث أن المرحلة الآن حاسمة و كل الأسلحة زجّت فيها و لم يعد مجال للتمويه في هذا "الشوط الأخير" (أو كذلك يراد له) من الصراع "بين الشر المتمثّل في هؤلاء غير التونسيين و الآخرين الخيّرين الوطنيين الشرفاء المنقذين للبلاد" . يلقيه على أناس وقعت تهيئتهم نفسيا على مدى السنتين الأخريين لتقبّل هذا و غيره , ممّا يفسّر هذا التجنّد الرّهيب , هذا الحقد و الكره الشديد غير المبرّر بين أبناء وطن واحد , هذه الأوصاف التي توصف بها البلاد و جزء من العباد و التي لمّا تسمعها ينتابك الشك و تلتفت يمينا و شمالا و تتسائل هل أنت فعلا في المكان و الزمان الذي يصفه "خصمك" ؟ أو أنك أصبت أنت بالعمى و الصم و عدم القدرة على التحليل , أم أن خصمك دخل في زوبعة من الهواجس وفي حالة هلوسة حادة من جرّاء الإستنشاق المستمر لغازات وصلت حد التسميم و التي تخرج من مدخنات عدد من المؤسّسات الإعلامية . إن هذا العمل "العلمي" يوجد عند الجيوش حيث يشحن الجندي قبل إرساله للحرب بجملة من المعطيات تجعله يعتقد في الأخير أنّه ذاهب في مهمّة "إنسانية" لتخليص البشرية من "جراثيم". انظر مثال الجيش الأمريكي و وحشيته القصوى في الحرب الأخيرة ضد العراق , حيث جاؤوا "لقتل العربي الأفعى الشريرة" إلخ.. و قس على ذلك النظام الذي اعتمد عندنا : تبدأ بازدراء الخصم و التقليل من شأنه (حارزات كمثل) , ثم تخوّنه, ثم تنزع عنه الصفة الإنسانية حتى لا يصعب قبول فكرة إزالته تماما من الوجود (جرذان) , ثم في هذا المثال تنزع عنه صفة المواطنة حتى لا تأخذ حتّى في عين الاعتبار الشراكة في الوطن (هاذم موش توانسة) و أضاف السيد مرزوق أنهم حتى "ما يحبش يسميهم خاطر ما يستحقّوش باش يسمّيهم" و نعتهم كذلك بالإرهابيين. و ما يبقى بعدها إلاّ أن تسلّمه للكلاب المسعورة حتّى تقطّعه إربا إربا . نعم في هذه الخطة يندرج كلام السيد محسن مرزوق . و لمّا قيل منذ زمن أن هناك مؤامرة , خرجت آليا الجملة السحرية "آه ديما نظرية المؤامرة" هذا المثل الذي خامرني (من بين أمثلة عديدة) حين اطلعت على تصريحات السيد مرزوق , و لكن لا أنسى المثال الأول الذي دهشت له في البداية قبل أن أفهم "الطرح" بعد مدّة حيث أن الميدان كان "جديد عليّ" بعد الانعتاق من الدكتاتورية. هل تذكرون غنّاية " تكاثر الاعتداءات على النساء غير المحجّبات" في بداية "عهدنا الثوري" ؟ هل تذكرون كيف بدأت تنتشر و تذكر هنا و هناك حتّى أصبحت حقيقة عند الجميع و تبنى عليها التحاليل و التصنيفات إلخ (و في الأثناء أسعفنا مقتل قس مسيحي و الإشارة مباشرة إلى المسئولين بسرعة تضاهي تقريبا سرعة "التعرّف" على قتلة المناضل شكري بلعيد من طرف رجل القانون الأستاذ عبد الناصر العويني ). و في هذه الأثناء كلّها لم نرى أو نسمع أو نقرأ و لو شهادة واحدة واحدة فقط لفتاة "غير محجّبة" وقع الإعتداء عليها (و بطبيعة الحال إذا كانت غير محجّبة فالمعتدين معيّنون مسبقا). و يعلم الله لو وجدت لأخذت لكل المحطّات للإدلاء بشهادتها و لتحكي قصّتها. و الآن أعود من جديد للسيد محسن مرزوق لأتسائل و أسأل : أين أنتم أيّها الذين بدأتم "تسخّنون" في بداية هذا المقال للرّد عليّ و على تكفيري ؟ أين أنتم أيها المسارعون بالتنديد بالتكفير كجوقة واحدة بمناسبة و غير مناسبة ؟ أين أنتم أيها السياسيون و قادة الرأي الذين من المفروض أن تحدّدوا بمواقفكم و شدّتها قيم هذا البلد , و الناس على دين ملوكهم ؟ و لن أسأل السيد محسن مرزوق من هو و ما صفته حتّى يسحب "شهادات الجنسية" بالجملة على هواه , على أناس الله ما النتيجة إذا وقعت مقارنته بهم فردا فردا في العمر أو الأخلاق أو المستوى أو حتّى الوطنية في اليوم الذي تصنع فيه آلة لقيس الوطنية. أين المبادئ يا إخواني في الوطن ؟ أين قيمكم ؟ إن التاريخ ينظر إلينا و يسجّل . لا تجعلوا أنفسكم أسرى مواقف و مصالح آنية. "كونوا رجال" الله يرحم والديكم الأجيال تنظر إليكم و تقتدي بكم . لا تتركوها خرابا أخلاقيا حتى لا يلعنكم الخلف , تصارعوا و لكن في الأثناء اغرسوا قيم المستقبل في أماكنها و بالصواب و العقل و اصدعوا بالحق وكونوا شهداء بالقسط. وإلاّ فلا تلوموا غدا "الشعب" إن لم يعجبكم مثلما لا يلوم الأب ابنه لقلّة أدبه فإنّه هو الذي ربّاه. وفي النهاية لست أدري إن كان السيد محسن مرزوق مؤمنا أو كافرا فذلك شأنه وليس شأني, ولكنّني أعلم أن تونس لكل التونسيين وهم سواسية أمام القانون , ويتمتّعون بنفس الحقوق والواجبات , ولا يزايدن أحد على غيره بالوطنية وبالعلم , فالله أعلم بما في الصدور… والخفايا يا سي محسن.