عانت المؤسسة العسكرية الأمرّين في عهد بورقيبة، على اثر محاولة الانقلاب التي اتّهم فيه اليوسفيون عام 62 بالتآمر على أمن الدولة بمعية زمرة من العسكريين. و قد تمّ إحباط هذه المحاولة الانقلابية، وقرّر بورقيبة على إثرها تقييد حركة وقدرة الجيش وأعطى للحرس الوطني صلاحيات واسعة لمراقبته، مما أوجد نوعا من التنافر بين الجهازين بدلا عن التكامل. وبناء على ذلك، تعاملت السلطة السياسية آنذاك مع المؤسسة العسكرية بكل حيطة وحذر وعملت على إبقائها محدودة العدّة والعديد، مع تحجيم طموحات كل من يبرز من قياداتها العسكرية الشابة بقطع مسيرته المهنية وإحالته على التقاعد الوجوبي، وبالتالي حرمانه من أداء واجبه وخدمة شعبه ووطنه. وحين انتقل الحكم إلى بن علي على اثر الانقلاب الطبي سنة 1987، لم يدخر هذا الأخير جهدا لمواصلة سياسات سلفه. وفي سنة 1991، زجّ بالمئات من العسكريين الذين جمعوا بين الكفاءة والشرف والالتزام، في السجون والمعتقلات والمحاكمات العشوائية، في ما بات يسمى ب"اجتماع براكة الساحل". ولفّق لهم تهما بدعوى الانتماء إلى التيار الإسلامي، والتخطيط للاستيلاء على السلطة، وكان ذلك بمثابة رسالة وجهها بن علي إلى الجيش، ليئد فيه كل طموح شرعي من جهة، والقضاء على كل الذين استعصى تدجينهم، على طريقته، من الكفاءات العالية و النزيهة، المؤهلة لتسلم مراكز القرار والحسم، من جهة أخرى... وعندما اندلعت الثورة المباركة، شهد المجتمع التونسي صعودا بارزا وملفتا للنظر لدور الجيش الوطني الذي كان مغيّبا عن الساحة الوطنية لأكثر من عقدين. وأصبح مضرب الأمثال لمّا انحاز إلى جانب شعبه ولم يطلق النار على المتظاهرين، وحمى مؤسسات الدولة، ودعّم أول انتخابات المجلس التأسيسي لوجستيكيا، وقبل بنتائج الانتخابات التي صبّت في خانة الإسلاميين، وبعبارة أخرى حمى الشّرعية ووفىّ بالعهد المقدّس بالإخلاص للشّعب والوطن. لقد التزم جيشنا الوطني منذ الأيام الأولى للثورة بتوفير الأمن وحماية الشعب، وبقيت المؤسسة العسكرية متماسكة أيما تماسك، وحافظت على مصداقيتها وشرعيتها، خلافا للبعض من قوى مؤسسة الأمن الداخلي التي كانت تنعت بالفساد، وبأنها العصا الغليظة لبن علي وأزلامه، وأنها تسببت في قتل المتظاهرين وقمعهم أثناء الثورة وقبلها. كذلك كان شأن المؤسسة القضائية التي كان يشكك بنزاهتها، ويسري الأمر كذلك على الحكومات المؤقتة التي ولدت من رحم النظام الاستبدادي السابق، وهكذا تمّ إسقاط الحكومتين الأولى و الثانية، وجيء بحكومة ثالثة لم تلتزم بوعودها ومارست التجاوزات إلى أن جاءت عليها انتخابات 23 أكتوبر... لقد نادى الشعب بتدخل المؤسسة العسكرية في السلطة أثناء الثورة، إلا أن جيشنا الوطني لم ينسَقْ إلى ذلك إيمانا منه بحياده الايجابي، وبتميزه على بقية الجيوش العربية بمهنيته العالية والتزامه المطلق بمبادئ النظام الجمهوري وقبوله بسلطة الدستور وبالسلطة المدنية. وبأن عصر الانقلابات قد ولّى، وأن المجتمع الدولي لم يعد يقبل بالحكومات العسكرية التي تتمخض عن أنظمة دكتاتورية. لقد كان جيشنا في السّابق، يشرف ولا يتدخل في الشأن الوطني، وبالتالي فالمنتظر الطبيعي منه بعد الثورة التكيّف مع السياسات الديمقراطية الجديدة وإفساح المجال له للمساهمة في حل مشكلة "العلمانية في مواجهة الإسلام" التي عقّدت لسنوات طويلة العلاقات المدنية – العسكرية، والتي راح ضحيتها المئات من العسكريين الشرفاء على امتداد تاريخ جيشنا الوطني، كنتيجة لعدم قبول فكرة التعايش، وحق الاختلاف بين الاتجاهات الفكرية والعقائدية والثقافية بين التونسيين. لقد كان الجيش الوطني وفيا دوما لمبادئ الجمهورية، والواقع يؤكد أنه بعد الثورة سيواصل الاحتفاظ بدوره كضامن للنظام الديمقراطي الدستوري الجمهوري، ولكن بتحول دقيق وحضاري مهمّ يعكس الاستعداد الفطري للتعايش مع الحقائق السياسية والاجتماعية التي ظهرت على المشهد السياسي بعد انتخابات 23 أكتوبر الماضية. وهذا يعني التمسك بقيم الحرية والأخوة والمساواة وفق الأنموذج الفرنسي، لكن بإضافة معطى جديد قديم ألا وهو معطى الدّين الذي حاربته كل الحكومات السّابقة بلا هوادة، لكنه انتصر عليها في النهاية،وقديما قيل: من صارع الحق صرعه، وإذا تغيّر السّلطان تغيّر الزمان ولله في خلقه شؤون... هكذا يجب على نواب المجلس التأسيسي الجديد أن يحدّدوا رسميا في الدستور الذي هم بصدد صياغته الآن، مسؤوليات الجيش وصلاحياته في نسخة جديدة. وتشريفه ب"مكان طبيعي" له في الحوار الوطني، وتشريكه في نقاشات المجلس التأسيسي. وهكذا ستتغير العلاقة المدنية - العسكرية نحو الأسلم والأفضل، والتي كان محورها في العهدين السابقين الاستبعاد الكامل للجيش، وتهميشه التام عن السياسة الوطنية في مجال مناقشة السياسات العامة وصياغتها.. إن التعددية الحزبية، التي أفرزت المجلس التأسيسي اليوم، ستعزز بلا شك سيطرة وإشراف المدنيين على السلطة السياسية في البلاد، وستمكن الجيش من الحصول على حق دستوري للمشاركة الفعلية والإسهام البناء في مناقشة السياسات الرئيسية والاستراتيجية التي تؤثر في المصلحة الوطنية وفي مسائل الأمن والدفاع... وسواء اتخذ هذا الأمر شكل مجلس أمن وطني، أو هيئة من قدماء العسكريين ذوي الكفاءات العالية والشريفة والملتزمة، بعيدة على كل الولاءات، يقع إلحاقها بمجلس النواب أو برئاسة الجمهورية أو برئاسة الوزراء. فالغاية الأهم أن هذا الدور سيأخذ شكلا رسميا ومتواصلا، لتعزيز الهياكل الديمقراطية الجديدة، حفاظا على السلم الأهلي والتنمية المستدامة في الجمهورية الثانية التي من المفروض أن تبنى مؤسساتها والعلاقات الحاكمة فيما بينها وفقا للدستور الجديد. * نقيب مهندس، وأستاذ العلوم العسكرية بالأكاديمية العسكرية سابقا.