اشتد التوتر في الساحة السياسية التونسية خلال الأيام الأخيرة ولم يعد متوقعا أن يعود الهدوء لاقتراب يوم الاقتراع على المجلس التأسيسي. فبين مراهنٍ على إبداء راديكالية سياسية عساه يلمّع صورته فيزداد نصيبه من أصوات الناخبين، وبين معوّل على بث الشك والتردد في الشارع بما يلقي بالريبة في أنفس الناس فيضعف إقبالهم على التصويت، وبين عامل على ترسيخ الهدوء لما يراه من فوز محقق في طريقه إليه. وبين هذا وذاك تتعارض المصالح فيزداد التوتر في حمى انتخابية لا تخفى على احد. يذكرنا المشهد الثوري في تونس بحكاية الرجل الذي لا يجد ما يطفئ جمر الحريق غير رماده، فيضع الرماد على الجمر ليختفي لونه المتفتح لكنه لا يستطيع أن يتجنب حرارته الحارقة، لان الرماد يطمس وجه الجمر ولا يطفئه. كذا حال العديد من الفاعلين السياسيين في الساحة التونسية، يتخذون من رماد الثورة، من عذابات المحرومين ومن معاناة المهمّشين كساء يخفي لهيب جمرهم الخافت منذ زمن طويل، لكن وبمجرد أن يقترب موعد الاعتراف الكنسي حتى تنكشف ملامح الأسرار. الثورة والمطلبية الاجتماعية فلقد احتفى الشعب التونسي بنجاح ثورته النظيفة، وبتسامح كبير مع الحركة المطلبية التي انتشرت بشكل واسع في البلاد. كان يعتقد في البداية أنها حركة معاضدة للثورة، فالتعجيل برفع المظالم ورد الحقوق إلى أصحابها أمر مطلوب لاستعادة ثقة الشعب في مؤسساته. حتى أن اعتصام القصبة 2 في ساحة الحكومة خلال شهر مارس الفارط قد أحاطته اعتصامات مطلبية كثيرة أمام وزارات التربية والتعليم والشؤون الاجتماعية والعدل وغيرها، وما كان ذلك معبرا عن تناقض حقيقي بين هؤلاء وأولئك. فعلى الرغم من الفرق الواضح بين اعتصام يطالب بمجلس تأسيسي وآخر يطالب بالتشغيل أو الترسيم أو الزيادة في الأجر، فان تداخل الاعتصامات زاد في زخم الثورة والتمكين لمطالبها السياسية والاجتماعية. أما وأن هذه الحركة المطلبية قد طغت على الساحة الاجتماعية والسياسية، فقد أبرزت للسطح أزمة قيمية اشتغل النظام السابق على زرعها والاستفادة من تداعياتها تمكينا لسلطانه وإضعافا لكل نفس تحررية في البلاد. إذ هيمنت مشاعر الأنانية الضيقة والانتهازية المجحفة على مطالب عديدة، كالمطالبة بزيادات خيالية في الأجور، أو التشغيل الفوري لاختصاصات تعاني من صعوبات حقيقية في الإدماج في سوق الشغل وغيرها من المطالب. بل ما زاد في تأزم الأوضاع النزوع المتزايد لاستعمال العنف الاجتماعي إمّا لتحقيق هذه المطالب أو تعبيرا عن توترات ذات أصول عشائرية وجهوية، فتتالت عمليات غلق الطرق ومنع مرور العربات والأشخاص من ممرات حيوية ورئيسية، وحرق بعض المؤسسات العمومية والخاصة وتبادل العنف الجماعي مما أدى في غالب الأحيان إلى سقوط ضحايا. لم تعد حينها الحركة المطلبية رديفة للحالة الثورية ولا حتى مجرد عارض في مسار تحقق مطالب الثورة، إنما تحولت إلى انفلات خطير يهدد وحدة المجتمع التونسي وتماسك مكوناته. عديد الوقائع التاريخية تؤكد أن الانتهازية هي المستفيد المباشر من التحولات الثوريّة، لكن هذا التشابه في المظاهر لا يغني عن البحث في الأسباب، لان الشعوب الحية كانت تعود دائما لتصحح مسار ثورتها بعد أن تتساءل في كل مرة عمّا تحقق منها وما بقي معلّقا، في ضرب من الوعي الذاتي. الأحزاب السياسية والمصالح الشخصية تتحمل النخب السياسية في البداية مسؤوليتها كاملة في هذا الوضع، ذلك أنّ حرصها على إرضاء الجمهور غلب على مناصحته ومصارحته. فالاستحقاقات المستعجلة دفعت الأحزاب للانكفاء ترتيبا لبيتها الداخلي كما دفعها أيضا لتغليب الحسابات الانتخابية على المصالح الوطنية العليا. واليوم للأسف وبعد مضي اشهر على سقوط النظام السياسي السابق لم يستطع أي حزب البروز كحزب وطني يدافع عن المصالح العليا للبلاد وللشعب التونسي رغم بعض محاولات هنا وهناك لا تفتأ تنكمش أمام ضعف الثقافة السياسية لمختلف الفاعلين وتردّي مصداقيتهم. تحتاج الأحزاب في معالجتها لهذا الوضع إلى شجاعة سياسية وجرأة ومبادرة وقدرة على التواصل، كلها غير مجتمعة في أي حزب حتى الآن. فالذين يطرحون المبادرات في الواقع لا يفتقدون فقط المصداقية بل والقدرة على الإقناع بما يقترحون، أما من يملك اليوم إمكانية التواصل الجماهيري فانه لا يحوز أدوات انجازه ومن أهمها التحرر من صورة الماضي والبناء العضوي لبدائله وجرأة المبادرة والقدرة على توليد الأفكار الجديدة. طبعا من الإجحاف تحميل الأحزاب وحدها مسؤولية تردي الأوضاع، فبقايا النظام السابق تحاول قيادة ثورة مضادة من خلال إغراق الحياة السياسية في وحل الصراعات والتنافي، و أيضا من خلال العمل على ترهّل المؤسّسات الإداريّة والأمنيّة. يواجه اليوم الشعب التونسي فائضا غير مرغوب فيه من الأحزاب تجاوز المائة يمثل نصفها أحزاب متناسلة عن النظام السابق وبرموز ظن هذا الشعب انه أسقطها بثورته حيث تعمل هذه الأحزاب في تنسيق واضح على إفشال التعددية الحزبية من خلال إعطاء صورة سلبية عن العمل الحزبي باعتباره عملا وصوليا مصلحيا ضيقا، حتى بتنا نسمع في الشارع التونسي كلمات كانت محرّمة منذ الثورة تعبر عن تفضيل البعض نموذج النظام السابق عن النموذج المتهالك -حسب رأيهم- الحالي. تحاول أحزاب النظام السابق إفشال الحالة الثورية بتلويث الحياة الحزبية وإبرازها في ثوب الانتهازية السياسية وعدم الاشتغال على المصلحة العامة. لكنها لا تكتفي بذلك بل تعمد بعض الأطراف في تواطؤ واضح على تدمير الإدارة التونسية –ما تبقّى من الدولة- لتعطيل مصالح الناس ومنع تصريف شؤونهم وتسيير الخدمات العامة. البعض من ذلك كان طبيعيا ربما بسبب عملية تطهير الإدارة وما يمكن أن تتركه من فراغ مؤقت، لكن القصور الأكبر في الإدارة التونسية كان عملا ممنهجا ومقصودا معاقبة للشعب على ثورته وإعدادا لصنع فراغ في البلاد يمكن عبره تجديد النظام السابق ولو برموز واليات مختلفة. الجهاز الأمني والعمل السياسي لم يكن النظام السابق مجرد حزب سياسي، بل إن عموده الفقري كان جهازا امنيا ممتدا ومتشعب التخصصات والهياكل. ويبدو أن ما قامت به الحكومة المؤقتة من تجديد للتعيينات داخل هذه الأجهزة غير كاف لكبح جماحه وإبعاده عن الحياة السياسية. فالشأن السياسي داخل جهاز الأمن التونسي لم يكن موضوع اهتمام فرقة بعينها كما يحاول البعض الإيحاء بذلك، ولا كان لمجرد مراقبة المعارضين وتقديم التقارير في ذلك. لقد عشنا جميعا مرحلة بن علي، وكنا نرى كيف تتدخل كل الفرق الأمنية في الحياة السياسية، بل حتى أعوان التراتيب البلدية كان لهم رأيهم وتقديرهم للسياسيين فيستصدرون قرارات الهدم والمنع من البناء والتجارة وغيرها بناء على الانتماء السياسي للشخص. لقد كان جهاز الأمن يمارس سلطات فعليّة وواسعة داخل مؤسسات الدولية، بل إن كل المؤسسات كانت تشتغل بعقلية أمنية فيما يمكن أن نطلق عليه عسكرة الدولة. الحكومة المؤقتة واجهت مطلب حل البوليس السياسي بتفكيك فرقة أمن الدّولة التي لا تضم غير مائتي شخص وتناست أن الاشتغال بالشأن السياسي جزء من العقيدة الأمنية في الدولة التونسية منذ الاستقلال، طريقة في التفكير ومنهج في معالجة القضايا. لذلك لا يمكن الآن الادعاء بان أجهزة الأمن قد تخلصت نهائيا من الاشتغال بالشأن السياسي، ليس فقط بسبب استمرار بعض الممارسات ضد المعارضين، ولا لان فرق الإرشاد والفرق المختصّة تنتشر في طول البلاد وعرضها ولا لان التجسس على الاتصالات لا يزال قائما ويستشعره كل التونسيون، بل الأخطر من ذلك أن المؤسسة الأمنية تتقدم شيئا فشيئا للعب دور سياسي مستقبلي في البلاد. في البداية تقديم قوات الأمن كضحايا للنظام السابق، وربما يكون ذلك صحيحا لكن بعد تنقية هذا الجهاز من الفاسدين والمجرمين، ثم الاستفادة بتحسين أوضاعهم الاجتماعية فرغم تردي هذه الأوضاع بالفعل فان فئات أخرى كانت في حاجة اكبر إلى مثل هذه الاعتمادات، ثم دخلنا في التطمينات التي يطالب بها رجال الأمن والتبرّؤ من تجاوزات العهد السابق وتنافس الأحزاب في الاستجابة لهذا المطلب على غير بصيرة، ثم التدخل في التعيينات القيادية في وزارة الداخلية وأخيرا المطالبة بإقالة الوزير الأول أو الاعتذار العلني وغيرها من الخطوات المتسارعة، وربما نشهد في الأيام القادمة اشتراطات على المجلس التأسيسي قبل انتخابه لصالح هذه الأجهزة أو ربّما حتّى رأي في الحكومة القادمة. فإذا لم يكن ذلك صحيحا وكانت هذه الأجهزة على هذا القدر من الحياد عن الشأن السياسي، ما الذي يمنعها إذن من المساهمة بدورها في ترتيب الحياة العامة وفرض القانون؟ كل التونسيون باتوا مقتنعين بان الأجهزة التي حافظت على استمرار النظام السياسي السابق لعقود طويلة قادرة اليوم على توفير شروط الاستقرار وعودة الحياة العادية للبلاد، لكن ما يبدو من تراخي أجهزة الأمن لا يؤكد إلاّ التقاء نتائج عملهم مع ما يشتغل عليه بقايا النظام السابق من تعميق لمظاهر الأزمة في البلاد. التطورات السياسية في تونس ليست خطية والمشهد ليس متناغما، قد يقلق ذلك كثيرا هواة النظريات التفسيرية، لكن التكسرات والالتواءات في هذا المشهد تعكس التجاذب الحاد بين مختلف القوى في الواقع. لا زالت الثورة التونسية لم تبح بأسرارها لذلك من التسرع الإفصاح عن مطالبها كاملة حتى إن نجح الشعب التونسي في انتخاب مجلسه التأسيسيّ، فعمر الثورات يقاس بما يحدثه من قطيعات لا بما يتشكّل من تجانس في المشاهد.