سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
«باريماتش» اختلقت رواية لصرف النظر عن المتهمين الحقيقيين، تخطيطا وتنفيذا هكذا طمست الصحافة الفرنسية حقيقة اغتيال فرحات حشاد:
قالت الرواية أنّ حشاد أعدّ مشروع انقلاب على حكومة البكوش، لكن الباي لم ين
... ونحن نحيي الذكرى الرابعة والستين لتأسيس الاتحاد العام التونسي للشغل، تعود بنا الذاكرة إلى الزعيم المؤسس الشهيد خالد الذكر فرحات حشاد، الذي جابهته الآلة العسكرية الاستعمارية بالإغتيال. ولئن مازال الغموض يكتنف عملية اغتيال الزعيم النقابي والوطني فرحات حشاد صباح الجمعة 5 ديسمبر 1952 من طرف منظمة »اليد الحمراء« الفرنسية الإرهابية، فإنّ أحد عناصرها اعترف مؤخرا على قناة »الجزيرة« مثلما فعل في كتاب أصدره قبل ذلك، بضلوعه شخصيا في تلك العملية واستعداده لإعادة مثلها لو طلب منه ذلك. كما اعترف أنّه ومن معه كان يتلقّى التعليمات من سلطات الحماية التي كانت تأتمر دون شك بآوامر السلطة المركزية في باريس. ذلك أنّ العملية على قدر كبير من الخطورة بالنظر، أوّلا وأخيرا إلى قيمة الشخص المستهدف في تونس، وفرنسا وخاصة في الخارج حيث كان يستعدّ للسفر قبل اغتياله بأيّام. وبالطبع، اجتمعت أطراف المؤامرة على اخراج بعضها البعض من دائرة الاتهام بالجريمة وإبعاد أي شبهة عنها. لا بل إنّها قلبت ظهر المجنّ وقدّمت رواية مكيافيليّة هي أقرب إلى شريط سينمائي منها إلى واقع مرّ، أنتجها خيالها الاجرامي فأوهمت أنّ الجهات التي نفذت الإغتيال هي جهات محلّية. واستعملت لهذا الغرض صحافتها سواء منها المنتصبة في تونس وقد فرضت عليها الصمت المطبق عن الجريمة أو المقيمة في باريس، قد قدّمت لها الرواية التي نعرض عليكم فيما يلي بعضا من أجزائها. الرواية قدّمتها مجلّة »باريماتش« المشهورة حتى الآن بطابعها الفضائحي في عددها الصادر يوم الاربعاء 10 ديسمبر 1952. وقد عثر على نسخة من هذا العدد صديقنا المحترم صالح انوايل الذي نشكره جزيل الشكر على هذه الوثيقة التي خصنا بها، رغم أنّها تقادمت وصعب علينا قراءة كلّ ما ورد فيها. ❊ كتبت »باريماتش« إذن: يوم الاربعاء الماضي 3 ديسمبر، أقبل الزعيم النقابي إلى قصر قرطاج حيث التقى الباي وقد اتّسمت المقابلة بين الرجلين بتشنج غير مسبوق، بعد يومين من تلك المقابلة، اغتيل فرحات حشاد من طرف مجهولين على الطريق المؤدي إلى تونس العاصمة. وهاهي »باريماتش« تنفرد بنشر تفاصيل المقابلة التي جرت بين الباي والزعيم النقابي باعتبارها كفيلة بإلقاء الضوء اللازم على »الأزمة« التونسية. وأضافت »باريماتش«: »فقد كان فرحات حشاد جاء إلى القصر ليقدّم للباي مخطّطا ثوريا كفيلا بإثارة تونس ومنظمة الأممالمتحدة ضدّ فرنسا. وفي بداية المقابلة عاب فرحات بمرارة على الباي كونه لم يفرض الإقامة الجبرية على الأمراء والوزراء. فمعلوم أنّ إبعاد بورڤيبة، وفرار بن يوسف إلى القاهرة ومنها إلى مقر الأممالمتحدة، قد ترك المجال واسعًا أمام القائد النقابي الذي تمثّل قواعده العمّالية الجناح اليساري والحركي للوطنيين. وتحدّثت »باريماتش« عن فرحات فقالت بالخصوص أنّه ينحدر من وسط متواضع، كونه أصيل جزر قرقنة الفقيرة أوّلا وكونه ثانيا كان موظّفا بسيطا. إنّه رجل من الشعب خلافا لبورڤيبة وبن يوسف، وهما مثقفان بورجوازيان. فقد استغل إبعادهما القسري ليعين على رأس الجامعات والشعب رجالا قريبين منه، مخلصين له وهدفه تعويض مسيري الحزب الدستوري، مثقفين كانوا أم بورجوازيين، بمناضلين عمّاليين خالصين. كما نجح في كسب ثقة القصر وفي أن يصبح صديق الباي وقد جاءه هذا الامتياز كونه يقدّم نفسه على أنّه رجل أمريكا... التي قدّمت له مساعدة مالية هامة. ومضت »باريماتش« كاتبة: فجأة خفت نجم حشاد، نتيجة هزيمة (صديقه المرشّح الديمقراطي الأمريكي) »أدلاي ستيفنسون«. فكانت هذه حجّة استعملها صالح بن يوسف في برقية بعث بها إلى الباي حال وصوله إلى الولاياتالمتحدة. فقد كتب صالح بن يوسف، وهو ممثل الوطنيين البرجوازيين إلى الباي قائلا أنّ فرحات حشاد هو الخطر رقم 1 على طريق الاستقلال، ومن الأفضل لفت اهتمام أوساط الأعمال الأمريكية إلى تونس منها إلى المنظمات النقابية. وأكد الاتصال بشركات انشاءات بحرية ومصانع طيران قصد تكوين بحرية تجارية وطيران مدني تونسيين، وان كلمة السر أنّه لا يجب عمل أي شيء من شأنه ازعاج الرأسماليين الأمريكيين. ذلك أنّ شعار حشاد »الكل أو لا شيء« قد ترك بعد انطباعا سيّئا للغاية. ولذلك وجب حتما وقف عمليات المقاومة (198 اعتداء، 308 هجوما على السكك الحديدية) لطمأنة الأمريكيين وابراز اتفاق فرنسي تونسي على الاستقلال حتى لا يفهم أنّ الحركة الوطنية تستند فقط إلى قاعدة عمّالية وأنّها بالتالي شيوعية. وأضافت »باريماتش« قولها: انّ الوضع زاد تأزّما بعدما رفضت فرنسا الترخيص لحشاد بالسفر إلى منظمة الأممالمتحدة. فقد كانت تفضّل أن تترك المجال فسيحا أمام صالح بن يوسف حتى يقوم بمساعيه خاصة وأنّه كان موجودا في »نيويورك«، ومقابل ذلك أبقت حشاد في تونس. لكن الإعتداءات التي نفّذها رجال فرحات حشاد في الجنوب خاصة ضدّ أعوان الحرس المتجوّل والجنود أجهضت كلّ المساعي سيما وأنّ صالح بن يوسف كان يدعو الوطنيين الى التحرّك باعتدال حتى يمكن اقناع بعض الدول المتردّدة بتبني الدفاع عن القضية. ولقاء ذلك، حصل الجنرال »ڤرباي« قائد القوات الفرنسية المسلحة في تونس على إذن من باريس بالقبض على فرحات حشاد إذا ما تصاعدت العمليات الإرهابية. وعلى ضوء ما سبق، لم يكن بوسع الباي أن يرفض المشروع الذي قدمه له فرحات حشاد يوم 3 ديسمبر وهو يتمثّل في أنّه خلال الموكب التقليدي الخاص بذكرى اعتلاء العرش والتي من المفروض أن تنتظم في اليوم الموالي في القاعة الذهبية لقصر قرطاج، بحضور كافة وزراء حكومة البكوش، يأذن الباي بدخول فرقة حرسه الخاص إلى القاعة، فيقوم أفرادها بإلقاء القبض عليهم جميعا بتهمة التواطئ مع فرنسا. بعدها، يقوم الباي بإطلاق نداء في اتجاه الأممالمتحدة والعالم أجمع طالبا تخليص تونس من الاستعمار الفرنسي. المشروع أزعج الباي وحاشيته ولكنّه قبل بتنفيذه لمعرفته بسيطرة حشاد على شعب حزب الدستور، إلاّ أنّه اشترط حضور فرحات للموكب. وأثناء الليل قام الباي باتصالات واسعة مع الوزير الأول البكوش واعلامه ووزراءه بالمشروع وتسريب المعلومة الى المخابرات الفرنسية التي جهزت فرقة من أفرادها لحراسة الموكب والتدخل عند الحاجة. حشاد غاب عن الموكب الذي انتظم بصورة عادية وبعد انقضائه جاء للقصر طالبا ايضاحات من الباي. فردّ عليه أنّ العمل الإرهابي الذي تقوم به النقابات أضرّ بالقضية التونسية. عقّب حشاد بأنّ العمّال الوطنيين، وليس المثقفين، هم الذين أنقذوا العرش، وقال للباي: إذا تركتمونا، تكون نهاية الديمقراطية التي ناضلنا من أجلها. وأضاف وهو يغلق الباب وراءه بكل عنف: »ستنتهون كلّكم«. وختمت »باريماتش« تحقيقها بالقول: بعد يومين من خلافه مع الباي واطلاعه على رسالة صالح بن يوسف من »نيويوك«، اغتيل فرحات حشاد، ونحن نتساءل لماذا تمّ تكليف عمّال مغاربة بحراسة حشاد، وعلى ذلك لا نستغرب كيف أنّ موته بل اغتياله غذّى مظاهرات دامية بالمغرب الأقصى لاتقاس بعدم ردّة فعل الشعب التونسي. خلاصة القول: اتهم التحقيق جميع الأطراف المحلية بالضلوع في اغتيال فرحات حشاد بداية من الباي الذي يكون قد خاف على عرشه من مؤامرة عمّالية، مرورا بالزعيم صالح بن يوسف رغم وجوده آنذاك في أمريكا وبالزعيم الحبيب بورڤيبة الذي كان مبعدا، ونهاية بالوزير الأول البكوش ووزرائه. والملاحظ أنّ التحقيق لم يتعرّض بالمرّة إلى مظاهر العداء التي كانت تكنّها السلطات الاستعمارية ومختلف أجهزتها للزعيم فرحات حشاد وللحركة النقابية والوطنية عموما وانزعاجها الكبير من نشاطه على رأس الاتحاد والحزب وقيامه بالعديد من عمليات المقاومة. وغني عن القول أنّ تصريحات أحد عناصر منظمة »اليد الحمراء« الارهابية في التلفزة وفي الكتاب الذي نشره قبل أعوام تفضح التحقيقات المفبركة وتؤكد بما لا يدع مجالا للشك تورّط السلط الرسمية الفرنسية آنذاك في عملية الاغتيال تخطيطا وتنفيذا وتستّرًا وإنكارًا.