الوضع الثقافي بالحوض المنجمي يستحق الدعم السخي    المسرحيون يودعون انور الشعافي    أولا وأخيرا: أم القضايا    بنزرت: إيقاف شبان من بينهم 3 قصّر نفذوا 'براكاج' لحافلة نقل مدرسي    إدارة ترامب تبحث ترحيل مهاجرين إلى ليبيا ورواندا    المهدية: سجن شاب سكب البنزين على والدته وهدّد بحرقها    نابل.. وفاة طالب غرقا    مدنين: انطلاق نشاط شركتين اهليتين ستوفران اكثر من 100 موطن شغل    كاس امم افريقيا تحت 20 عاما: المنتخب ينهزم امام نظيره النيجيري    الجلسة العامة للبنك الوطني الفلاحي: القروض الفلاحية تمثل 2ر7 بالمائة من القروض الممنوحة للحرفاء    الكورتيزول: ماذا تعرف عن هرمون التوتر؟    انتخاب رئيس المجلس الوطني لهيئة الصيادلة رئيسا للاتحاد الافريقي للصيادلة    لماذا يصاب الشباب وغير المدخنين بسرطان الرئة؟    وزير الإقتصاد وكاتب الدولة البافاري للإقتصاد يستعرضان فرص تعزيز التعاون الثنائي    عاجل/ تفاصيل جديدة ومعطيات صادمة في قضية منتحل صفة مدير برئاسة الحكومة..هكذا تحيل على ضحاياه..    الطب الشرعي يكشف جريمة مروعة في مصر    تونس العاصمة وقفة لعدد من أنصار مسار 25 جويلية رفضا لأي تدخل أجنبي في تونس    منتخب أقل من 20 سنة: تونس تواجه نيجيريا في مستهل مشوارها بكأس أمم إفريقيا    إقبال جماهيري كبير على معرض تونس الدولي للكتاب تزامنا مع عيد الشغل    ارتفاع طفيف في رقم معاملات الخطوط التونسية خلال الثلاثي الأول من 2025    بالأرقام/ ودائع حرفاء بنك تونس والامارات تسجل ارتفاعا ب33 بالمائة سنة 2024..(تقرير)    الطبوبي: المفاوضات الاجتماعية حقّ وليست منّة ويجب فتحها في أقرب الآجال    مصدر قضائي يكشف تفاصيل الإطاحة بمرتكب جريمة قتل الشاب عمر بمدينة أكودة    وزير الصحة: لا يوجد نقص في الأدوية... بل هناك اضطراب في التوزيع    الطبوبي: انطلاق المفاوضات الاجتماعية في القطاع الخاص يوم 7 ماي    عاجل/ مجزرة جديدة للكيان الصهيوني في غزة..وهذه حصيلة الشهداء..    البطولة العربية لالعاب القوى للاكابر والكبريات : التونسية اسلام الكثيري تحرز برونزية مسابقة رمي الرمح    نحو توقيع اتفاقية شراكة بين تونس والصين في مجال الترجمة    يوم دراسي حول 'الموسيقى الاندلسية ... ذاكرة ثقافية وابداع' بمنتزه بئر بلحسن بأريانة    عيد الشغل.. مجلس نواب الشعب يؤكد "ما توليه تونس من أهمية للطبقة الشغيلة وللعمل"..    توقيع عدد من الإصدارات الشعرية الجديدة ضمن فعاليات معرض تونس الدولي للكتاب    تونس العاصمة مسيرة للمطالبة بإطلاق سراح أحمد صواب    عاجل/ المُقاومة اليمنية تستهدف مواقع إسرائيلية وحاملة طائرات أمريكية..    صادم: أسعار الأضاحي تلتهب..رئيس الغرفة الوطنية للقصابين يفجرها ويكشف..    التوقعات الجوية لهذا اليوم..طقس حار..    محمد علي كمون ل"الشروق" : الجمهور على مع العرض الحدث في أواخر شهر جوان    قيس سعيد: ''عدد من باعثي الشركات الأهلية يتمّ تعطيلهم عمدا''    كأس أمم إفريقيا لكرة القدم داخل القاعة للسيدات: المنتخب المغربي يحرز لقب النسخة الاولى بفوزه على نظيره التنزاني 3-2    كأس أمم افريقيا لكرة لقدم تحت 20 عاما: فوز سيراليون وجنوب إفريقيا على مصر وتنزانيا    توجيه تهمة 'إساءة استخدام السلطة' لرئيس كوريا الجنوبية السابق    منذ سنة 1950: شهر مارس 2025 يصنف ثاني شهر الأشد حرارة    ترامب يرد على "السؤال الأصعب" ويعد ب"انتصارات اقتصادية ضخمة"    وفاة أكبر معمرة في العالم عن عمر يناهز 116 عاما    منظمة الأغذية والزراعة تدعو دول شمال غرب إفريقيا إلى تعزيز المراقبة على الجراد الصحراوي    معز زغدان: أضاحي العيد متوفرة والأسعار ستكون مقبولة    يظلُّ «عليًّا» وإن لم ينجُ، فقد كان «حنظلة»...    زراعة الحبوب صابة قياسية منتظرة والفلاحون ينتظرون مزيدا من التشجيعات    كرة اليد: الافريقي ينهي البطولة في المركز الثالث    Bâtisseurs – دولة و بناوها: فيلم وثائقي يخلّد رموزًا وطنية    مباراة برشلونة ضد الإنتر فى دورى أبطال أوروبا : التوقيت و القناة الناقلة    عاجل/ اندلاع حريق ضخم بجبال القدس وحكومة الاحتلال تستنجد    في تونس: بلاطو العظم ب 4 دينارات...شنوّا الحكاية؟    اتحاد الفلاحة: أضاحي العيد متوفرة ولن يتم اللجوء إلى التوريد    رابطة ابطال اوروبا : باريس سان جيرمان يتغلب على أرسنال بهدف دون رد في ذهاب نصف النهائي    سؤال إلى أصدقائي في هذا الفضاء : هل تعتقدون أني أحرث في البحر؟مصطفى عطيّة    أذكار المساء وفضائلها    تعرف على المشروب الأول للقضاء على الكرش..    غرة ذي القعدة تُطلق العد التنازلي لعيد الأضحى: 39 يومًا فقط    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



من الثورة إلى الإستقلال، ومن اغتيال حشاد إلى إبعاد بن صالح،
1952 1956، فترة مفصلية في تاريخ الإتحاد والبلاد:
نشر في الشعب يوم 19 - 12 - 2009

تعتبر الفترة التاريخية الممتدّة بين 1952 و1956 مرحلة مفصلية في تاريخ الاتحاد العام التونسي للشغل، فقد اكتظّت هذه المرحلة بعدّة محطّات، منها ما يهمّ حركة التحرير الوطني بصورة أشمل ومنها ما يهمّ تاريخ الاتحاد في صلب العمل الوطني ومنها ما يهمّه كمنظمة.
كيف لا وهي التي انطلقت بيوم الثورة في 18 جانفي 1952 وانتهت بإعلان الاستقلال في 20 مارس 1956 مرورا خاصة بخطاب »منداس فرنس« في جويلية 1954 ومؤتمر صفاقس في نوفمبر 1955.
وكيف لا وهي التي شهدت بالنسبة للإتحاد العام التونسي للشغل اغتيال الزعيم المؤسس فرحات حشاد في 5 ديسمبر وانتهت بإقالة أوّل كاتب عام ينتخب بعده، المناضل أحمد بن صالح في جويلية 1956.
لكن بين المحطّتين، زخم كبير من الآراء والأفكار والطموحات، وعمل جبّار صلب الاتحاد تمثّل بالخصوص في تصوّر وإعداد برنامج اقتصادي واجتماعي يصبح بديلا للنموذج الذي كان معمولا به حتّى ذلك الوقت. لكن ما بالكم وقد أصبح هذا البديل هو البرنامج الوحيد الذي اعتمدته السلطة السياسية الناشئة في تونس المستقلّة.
عن هذه الفترة بالذات، وعن هذا البرنامج الاقتصادي والاجتماعي بالذات، هدفت الندوة الوطنية التي نظّمها قسم التكوين النقابي والتثقيف العمّالي أيّام 7 و8 و9 ديسمبر للإشتغال عليه وابراز النقاط المضيئة فيه وربط الحاضر بالماضي المجيد عملا على تقوية الحلقات القائمة بين أجيال النقابيين من خلال دعوة أبرز عنصر فاعل في تلك الفترة وفي ذلك البرنامج، ومن نقصد غير المناضل النقابي الأستاذ الأخ أحمد بن صالح الكاتب العام للإتحاد العام التونسي للشغل من 1954 إلى 1956، للحديث مع أجيال متلاحقة من النقابيين في ذلك الشأن بالذات وتوضيح بعض النقاط التي كان اكتنفها الغموض.
انطلقت أشغال الندوة في يومها الأول بكلمة تأطيرية ألقاها الأخ عبيد البريكي الأمين العام المساعد المسؤول عن التكوين النقابي والتثقيف العمّالي فأبرز بشكل خاص أهمية حضور الأخ أحمد بن صالح بصفته كاتبا عاما (أمينا عاما) للإتحاد في ذلك الوقت، وباعتباره أفضل شخص مؤهل للحديث عن تلك الفترة بالذات.
وبيّن أنّ الندوة تنعقد في اطار البحث عن كيفية التعمّق في تاريخ الاتحاد والتمحيص في ظروف تأسيس المنظمة وخصوصيات عملها، لاسيما الفترة التي شهدت اغتيال الزعيم فرحات حشاد وما بعد ذلك حيث استطاعت المنظمة، وهي طرية العود، أن تصمد في وجه سلسلة كبيرة من المؤامرات.
وأكّد الأخ عبيد البريكي أنّ الندوة تنعقد بمناسبة الاحتفال بالذكرى 57 لإغتيال الزعيم فرحات حشاد، وأعلن أنّ القسم يشتغل على بعث متحف للحركة النقابية التونسية.
وتضمّن برنامج الندوة عند انطلاقها عرض 3 أشرطة قصيرة، الأوّل حاول أن يعيد إلى الأذهان ظروف عملية اغتيال الزعيم فرحات حشاد، فيما تضمّن الثاني حوارا موسّعا مع الأستاذ محمود المسعدي، كما تضمّن الشريط الثالث حوارا مثيرًا مع الأستاذ أحمد بن صالح.
وتعليقا على حادثة الإغتيال، اعتبر الأخ رضا التليلي نجل الزعيم أحمد التليلي بأنّها زادت العمل النقابي وطنيا ومغاربيا صلابة وإشعاعًا في الوقت الذي كانت نيّة قوى التطرّف الإستعماري تعوّل باغتيال حشاد على اغتيال الحركة الوطنية، بل تجنّدت حركة التحرّر الوطني وأحرار العالم للتضامن مع الشعب التونسي وتبنّي حقّه في التحرّر والإنعتاق، وتجاوبت مع القضية الوطنية القوى النقابية في أوروبا وأمريكا خاصّة وقد هيّأ الزعيم بعلاقاته الواسعة الإطار الأساسي لهذا الدّعم.
وأكّد الزعيم أحمد بن صالح في كلمته اهتمام فرحات حشاد بالمستقبل من خلال تكوينه للجنة الحريّات الديمقراطية والتمثيل الشعبي ومن خلال تأليفه لكتابه Les problèmes sociaux en Tunisie الذي كان تحليله فيه لأوضاع البلاد مقدّمة لإقتراح البدائل الاقتصادية والاجتماعية المستجيبة لمتطلّبات الشعب، داعيا في كلمته الاتحاد العام التونسي للشغل إلى السير على خطى مؤسسه بإحداث: معهد حشاد للدراسات المستقبلية.
أمّا اليوم الثاني للندوة فقد شهد إلقاء محاضرتين كانت أولاها للدكتور علي المحجوبي أستاذ التاريخ بالجامعة التونسية والعميد السابق، الذي اهتمّ بالتاريخ المعاصر وقضايا التحرّر الوطني وصاحب عديد المؤلفات في هذا المجال، حيث توقّف في بداية مداخلته عند العوامل التي ساعدت على تأسيس الاتحاد وفي مقدّمتها:
1 التأثير الناجم عن تأسيس جامعة عموم العملة التونسيين الأولى.
2 نموّ الحس الوطني في صفوف الشغالين.
3 بداية انقشاع الأزمة الاقتصادية التي عرفتها البلاد خلال الفترة 1936 1944 جرّاء انخفاض المردود الزّراعي الى حدّ تأثرت معه بصفة بالغة القدرة الشرائية للتونسيين.
كما أبرز المحاضر المبادئ التي أنبنت عليها المنظمة منذ بداياتها والمتمثلة في:
1 النّضال الاجتماعي بالدّفاع عن الحقوق المادّية والمعنوية للشغالين.
2 استقلالية النقابة عن أصحاب العمل والدولة والأحزاب السياسية.
وقد تواصل هذا التوجّه إلى حدود 1949 حيث تغيّرت نسبيا نظرة حشاد فأصبح مقتنعا بأنّ الإستعمار هو العامل الأساسي لتدهور وضع الشغالين مركّزا خلال السنوات الثلاث الأخيرة من حياته على النضال الوطني ولعبت منظمته دورا هاما في تنظيم المقاومة المسلّحة، في وقت أصبح فيه الاتحاد أكثر جماهيرية من الحزب الحرّ الجديد بحكم تعرّض قياداته الى الابعاد والسّجن.
وفي هذه الظّرفية انخرط الاتحاد في الجامعة الدولية للنقابات الحرّة (السيزل) بناء على قرار مؤتمر مارس 1951 ووظف هذا الانخراط لدعم القضية الوطنية وقضايا التحرّر الوطني عن طريق ممثله الأستاذ أحمد بن صالح، وقد أفاد هذا الأخير من المدّة التي قضّاها في »بروكسيل« يتلقى تكوينا متينا في مجال بناء النقابات وآليات التفاوض والإقتصاد السياسي وأسس التنمية وعمومًا انبنى تفكيره على العلاقة القائمة بين التنمية الاقتصادية والرّقي الاجتماعي وأهمّية أن يدعم النقابات حزب له مشروع مجتمعي على غرار التجربة السويدية التي كانت تقوم على العلاقة العضوية بين النقابة والحزب الديمقراطي الاشتراكي، كما اقتنع أيضا بأهمية النظام التعاقدي في الاقتصاد الرأسمالي لإرساء التوازن الاجتماعي وتكريس مصالح جميع الطبقات. وبعد اغتيال حشاد بسنتين وبهذا الزّاد المعرفي والتجربة الثريّة عاد بن صالح إلى تونس لإعداد المؤتمر الخامس (جويلية 1954) وتزامن ترشيحه على رأس الاتحاد مع إلقائه خطابا أمام الباي أقرّ فيه بإستقلال تونس، ممّا دعا الاتحاد العام التونسي للشغل إلى تكوين لجنة لإعداد برنامج اقتصادي واجتماعي ترأسها أمينه العام أحمد بن صالح استعدادًا لوضع محتوى ومضمون تنموي لاستقلال البلاد وصادق المؤتمر السادس للإتحاد المنعقد خلال 1956 على هذا البرنامج وتمّ عرضه على مؤتمر الحزب بصفاقس المنعقد في منتصف نوفمبر 1955 فتبنّاه مشروعا مجتمعيا لبناء الدولة الحديثة في إطار جبهة قومية قوامها إلى جانب الحزب الحر الدستوري الاتحاد العام التونسي للشغل واتحاد الصناعة والتجارة والاتحاد التونسي للفلاّحين، ودُعي الزعيم أحمد بن صالح صاحب المشروع سنة 1961 لتولّي وزارة التخطيط بعد أن تبيّن لبوريبة عجز البرجوازية التونسية عن تحقيق التنمية وضرورة تولّي الدولة لهذه المهمّة، فعمل الرّجل انطلاقا من البرنامج الاقتصادي والاجتماعي على تحديث الاقتصاد التونسي وتحقيق استقلال البلاد اقتصاديا عن فرنسا فتمّت تونسة أراضي المعمرين بتاريخ 12 ماي 1964 كإجراء مكمل للجلاء السياسي وأحدثت في 35 منها تعاضديات انتاج في إطار القضاء على تشتّت الملكية الزّراعية وتحقيق الإكتفاء الذّاتي الغذائي، واستهدف التخطيط القضاء على التفاوت الاجتماعي والتفاوت الجهوي ببعث كثير في الصناعات في عديد الجهات (الفولاذ ببنزرت، الحلفاء بالقصرين معمل السكر بباجة، النسيج بقصر هلال، الحامض الفوسفوري بابس.. الخ) وإرساء التنظيم العائلي حتى لا تفوق نسبة النمو الديمغرافي نسبة النمو الاقتصادي وإحداث صناديق الضمان الاجتماعية إلاّ أنّ هذه التجربة واكبتها سنوات جفاف من ناحية وعراقيل مفتعلة وموضوعية ممّا جعل الرئيس بوريبة يلتفّ عليها للإنخراط سنة 1970 في الليبرالية الاقتصادية، ومع ذلك فإنّ انجازات الستينات بدأت تعطي أكلها خلال السبعينات وتتواصل نتائجها إلى اليوم من خلال المدّ التعليمي كجزء من البرنامج الاجتماعي للإتحاد الذي تمّ تطبيقه خلال فترة تطبيق المخطط.
وتعقيبا على مداخلة الأستاذ المحجوبي اعتبر الأستاذ محمد الحبيب العزيز أستاذ التاريخ بالجامعة التونسية بأنّ العمل النقابي هو الوجه الاجتماعي للحركة الوطنية، حيث أصبح الإتحاد أيضا منظمة محورية في بناء الاستقلال وبناء التنمية كما كان مؤسسه فرحات حشاد شخصية محورية أثناء النضال الوطني بين الاتحاد والمنظمات وبين الاتحاد والحزب وبين الاتحاد والعائلة المالكة.
واثراء للمداخلتين توقّف المشاركون بصفة دقيقة عند الأحداث التي تلت اغتيال حشاد وحتى امضاء اتفاقيات الاستقلال الدّاخلي والتي لعب فيها الإتحاد دورا مؤثرا في مختلف محطّات هذا المسار.
أمّا القسم الاجتماعي للتقرير فقد تمّ تناوله من خلال منفّذه الزعيم النقابي والمربي الأستاذ محمود المسعدي في مداخلة لأستاذ الأدب الحديث بالجامعة التونسية السيد محمود طرشونة، خاصة وأنّ البرنامج التعليمي الذي طبقه المسعدي سبق من حيث الاعداد البرنامج الاقتصادي حيث تبنّاه الاتحاد في مؤتمره الرّابع المنعقد سنة 1951.
من أجل تربية وطنية
وقد شخّص محمود المسعدي أوضاع التعليم في عهد الحماية في مقال نشره سنة 1947 في مجلة »المباحث« بعنوان »مشاكلنا الحاضرة في التعليم«. ويظهر من هذا التشخيص أنّ التعليم كان مشتّتا بين أصناف مختلفة من المؤسسات التعليمية لا يوحّد بينها شيء، يزداد بعضها أو يتقلّص أو يُحوّر بحسب ضغوط الأهالي والمثقفين على الإدارة الفرنسية لكن دون أن تحيد عن جملة من الثوابت تهدف بالخصوص إلى طمس الشخصية الوطنية وفرض لغة المستعمر وثقافته فضلا عن عدم تمكين جميع الأطفال في سن الدراسة من دخول المدارس.
وينبغي أن نلاحظ أنّ العمل النقابي في مجال التعليم لم يكن يهدف إلى تحسين الأجور والرفع من القدرة الشرائية كما هي الحال بعد ذلك بل إلى الدفاع عن حقّ التونسيين في التعليم من جهة، وتعصير التعليم الموجود في تلك الفترة وإصلاح برامجه تأصيلا لكيان تونس وتجذيرها في ثقافتها العربية الإسلامية وتخليصها من محاولات طمس هويّتها وفرض التجنيس الذهني عليها عن طريق فرض اللغة الفرنسية في تدريس جميع المواد. ولا شك أن أحوج المؤسسات التعليمية إلى التعصير والإصلاح كان بلا شك التعليم الزيتوني. وهناك شهادة للمسعدي تثبت اهتمام الاتحاد العام التونسي للشغل بهذا التعصير ومشاركة المسعدي في اللجان المُكوّنة لهذا الغرض. يقول: »فكنّا في ذلك الوقت إذن نحاول أن نخرج بالتعليم من حالته تلك، فشاركت شخصيا بصفتي مدرّسا في أعمال لجان الاتحاد العام التونسي للشغل التي أُحدثت مرّتين أو ثلاثا لتعصير التعليم الزيتوني فوضعنا برامج لإحداث مدرسة خاصة واستعنّا بإخوان مدرسين كالأستاذ أحمد الفاني في الفيزياء والكيمياء والأستاذ عبد السلام الكناني والأستاذ بشير قوشة وغيرهم ليقوموا بالتدريس في ذلك القسم العصري من التعليم الزيتوني باللغة العربية.
ويقول أيضا بخصوص السعي إلى إدراج الأدب العربي في برامج الصادقية وتدريسه بطرق عصرية: »كنت أريد في الوقت الذي فرضنا فيه على الاستعمار إدخال برنامج تدريس الآداب العربية في المدرسة الصادقية تدريسا يضاهي التدريس الذي كان يقوم به الفرنسيون للآداب الفرنسية«.
ديمقراطية التعليم وإصلاحه
بعد المسلك النقابي قبل الاستقلال كان المسلك الحكومي بعده فرصة لتطبيق الإصلاحات التي دعا إليها المسعدي في لوائح اتحاد الشغل وبرامجه. والمدّة التي قضّاها مديرا للتعليم الثانوي بوزارة المعارف ومتفقدا عاما للتعليم الثانوي (1955 1958) مكّنته من معرفة قضايا التعليم من الداخل ويسّرت له لمّا تولّى وزارة التربية القومية من 1958 إلى 1968 التفكير في مشروع »الإصلاح التربوي« و»التخطيط العشري« لإصلاح التعليم وتعميمه بالتدريج وكذلك من تأسيس نواة الجامعة التونسية سنة 1960 في نطاق تنظيم هيكلي للتعليم يشمل المستويات الثلاثة الابتدائي والثانوي والعالي. وقد حافظ على نفس الأهداف التي عمل على تحقيقها في اطار الاتحاد وهي تأسيس تربية قومية تونسية بالمعنى الصحيح تُولي أهمية للغة العربية كردّ فعل طبيعي على إرادة طمسها وقت الحماية مع التفتح على علوم العصر وثقافاته: »وكان من حظّي أن كُلّفتُ بوزارة التعليم فوضعت ما سمّيناه »البرنامج القومي للتعليم التونسي« ويتضمّن المحافظة أساسا على عنصري ثقافتنا القومية: الإسلام والعربية لكن مع تفتّح كامل على الحضارة العصرية والثقافية الإنسانية«. أمّا التشتّت الذي سبق تشخيصه فقد اقتضى »توحيد نظام المؤسسات التربوية ومناهج التعليم فيها« والقصد من ذلك بالطبع هو إصلاح التعليم الزيتوني وإدماجه في صلب التعليم الوطني. وتتمثّل الغاية الثالثة في ديمقراطية التعليم أي جعله في متناول كلّ طفل تونسي بلغ سنّ الدراسة. وهو لم يكن بالأمر الهيّن نظرا الى نقص إطار التدريس وغياب البنية التحتية الأساسية.
وقد تضمّن »التخطيط العشري« إدماج 000.65 طفل سنويّا لإستيعاب ما يقارب السبعمائة ألف تلميذ في نهاية المخطّط. وكان الشعب التونسي في نهاية الخمسينات حديث عهد بالحركة الوطنية وبالاستقلال فكان شديد التحمّس للتطوّع ببناء المدارس في الأرياف خاصة. وقد دُعي في وقت من الأوقات الى التوقّف عن البناء بسبب نقص المعلمين.
وتعقيبا على المداخلتين اعتبر المشاركون في الندوة بأنّ الاتحاد العام التونسي للشغل نجح في تلك المرحلة في حين فشل غيره من المنظمات النقابية لأنّه استوعب أوضاع الشعب وكان جوابا عن حاجة المجتمع ورغباته وفي مقدّمتها التحرّر الوطني من ناحية والإنعتاق الاجتماعي من الاستغلال والاستلاب الحضاري والأمّية من ناحية أخرى فكانت رسالته متكاملة ومستجيبة لأهمّ غاية للنقابات والمتمثّلة في تحقيق الحقوق الأساسية للإنسان من خلال تحقيق الحريّة للشعب والإهتمام بحقوق الانسان الاقتصادية والاجتماعية المحقّقة لكرامته، كما أكّد المشاركون بأنّه مهما كانت نتائج تطبيق ما ورد في هذا التقرير فإنّ الدّولة كجهاز استفادت أيّما استفادة من تطبيق ما ورد فيه من أفكار وتوجّهات، ويتعيّن على الاتحاد الحفاظ على ما حقّقه من مكاسب للبلاد في كثير من الميادين.
كما ثمّن المشاركون التئام هذه الندوة واعتبروه حدثا هاما من حيث تسليطه الضوء على الجوانب التاريخية لتلك المرحلة ولإبراز الإنجازات الكبرى التي تمّت خلالها، مُوصين بالعمل على جمع وحفظ تراث المنظمة وتحقيق حلم النقابيين في إنشاء معهد حشاد للبرامج الاقتصادية والتوجّهات المستقبلية.
ولاشك أنه نقطة قوة الندوة هي تلك التي شهدها اليوم الثالث من خلال مداخلات للأساتذة حسين الديماسي والتيجاني حرشة وتعقيب للأستاذ أحمد بن صالح، ولكن أيضا وبالخصوص من خلال مداخلات عدد من الحاضرين ولاسيما من قدماء النقابيين الذين أفادوا الحاضرين بعدّة معلومات ومعطيات عن أحداث عاشوها وواكبوها بالتفصيل.
ففي حديثه عن البرنامج الاقتصادي والاجتماعي للإتحاد الصادر سنة 1956، قال الأستاذ حسين الديماسي أنّه برز في مناخ خلاصته أنّ تونس ورثت عن الحماية مجتمعا شديد الإزدواجية اتّسم ب 3 عناصر أساسية هي:
تباين فادح بين الفئات، أقليّة لا تزيد عن 10 بالمئة من السكان يملكون كلّ شيء وأغلبية ساحقة مسحوقة لا تملك أي شيء.
تباين فادح بين الجهات، كان هناك تونس الكبرى وبقيّة البلاد.
غياب شبه تام للتكافل بين الفئات، وأبرز مظاهره هزال التعليم.
وعلى هذا الأساس، طرح الإتحاد برنامجه فتبنّاه المجتمع التونسي وانتفع منه خاصة وأنّه تواصل إلى أواسط الثمانينات.
فقد عمل هذا البرنامج على تقليص الفوارق بين الجهات من خلال تحسين القدرة الشرائية للجميع ولو بدرجات متفاوتة، ويمكن القول أنّ التحسّن الحقيقي بدأ في السبعينات، كما عمل على تقليص الفوارق بين الجهات من خلال استغلال الأراضي المرويّة وإحداث عدّة وحدات انتاجية وموانئ صيد ومشاريع صناعية كبرى ونواتات سياحية، بمختلف الأنحاء وانعاش الصناعات التقليدية.
وعمل كذلك على تحقيق التكافل بين الأجيال من خلال رصد موارد كبيرة جدّا للتعليم واحداث صناديق الضمان الاجتماعي.
وتحدّث الأستاذ الديماسي عن الأضرار التي ألحقها برنامج الاصلاح الهيكلي الذي اعتمد منذ أواسط الثمانينات بالاقتصاد التونسي وبالمجتمع بصفة عامة وتوقف عند مؤشرات منها، داعيا في خاتمة مداخلته إلى بلورة برنامج جديد يكون بديلا لما هو معمول به الآن، وقال أنّ للإتحاد دورا مهما في انجاز هذا البرنامج البديل.
أمّا السيد التيجاني حرشة فقد ركّز مداخلته على ما اكتشفه من خلال موسوعة عن تاريخ الحركة النقابية التونسية أعدّها في 600 صفحة أحد الآباء البيض المقيمين في تونس. ومن اكتشافاته، اختلال ميزان القوى بين الأطراف السياسية والنقابية، وافتقار الحزب الدستوري الى برنامج اقتصادي خلافا للإتحاد الذي رمى من خلال برنامجه إلى بناء مجتمع جديد. كما تحدّث عن مركّبات الخوف التي أصبحت سائدة بين الطرفين والفروق الموجودة في النظرة إلى عدد من المسائل.
وقال الأستاذ التيجاني حرشة في خاتمة مداخلته أنّ الاتحاد يمثّل المجتمع بحق، وأشاد بتنظيمه لهذه الندوة المتميّزة ودعا إلى تنظيم المزيد منها.
اثر ذلك تدخل الأستاذ أحمد بن صالح مرّة أخرى وأعقبته نقاشات ثرية قام بها عدد من المتدخلين تعلّقت أغلبها بنقد موقف الأستاذ بن صالح الوزير من الأزمة التي فرضت على الاتحاد سنة 1965 وأدّت إلى إبعاد الزعيمين أحمد التليلي والحبيب عاشور من قيادة المنظمة، وهي أزمة تبرّأ الأستاذ أحمد بن صالح من مسؤوليتها المباشرة. (و نظرا لدسامة المداخلة و النقاشات التي أعقبتها، و لضيق المجال، اضطررنا لارجائها إلى العدد القادم).


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.