قفصة: تسجيل رجة أرضية بالسند    مجلس عمداء المحامين يدعو رئيس الجمهورية إلى اتخاذ اجراءات    الترجي والإفريقي في نهائي بطولة تونس لكرة اليد    مندوبية التربية بقفصة تحصد 3 جوائز في الملتقى الوطني للمسرح بالمدارس الاعدادية والمعاهد الثانوية    الإعلان عن تركيبة الإدارة الوطنية للتحكيم    عاجل : منحرف خطير يروع المارة في قبضة أمن الملاسين    في ذكرى النكبة: تونس تجدّد دعمها اللامشروط للشعب الفلسطيني    عاجل : أحارب المرض الخبيث...كلمات توجهها نجمة'' أراب أيدول'' لمحبيها    أغنية صابر الرباعي الجديدة تحصد الملايين    بمناسبة عيد الأمهات..البريد التونسي يصدر طابعا جديدا    قابس : عدد أضاحي العيد غير كاف والحل في التوريد    الكشف عن شبكات إتّجار بالمواد المخدّرة تنشط بولايات تونس الكبرى    يشكّل تهديدا للنمّو.. الصين تسجّل فائضا قياسيّا بملايين المساكن    حاحب العيون: انطلاق فعاليات المهرجان الدولي للمشمش    بسبب لقطة غير لائقة من الجمهور في مباراة الترجي والنجم: التلفزة التونسية تفتح تحقيق..    مكثر: وفاة شاب واصابة 5 أشخاص في حادث مرور    نابل: الفلاحون المنتجون للطماطم يطالبون بتدخل السلط وجبر الأضرار جراء تضرر الصابة    رئيس وزراء سلوفاكيا روبرت فيكو يتعرّض لإطلاق نار بعد اجتماع الحكومة    وزير السياحة يؤكد لمستثمرين كويتيين الاستعداد لتقديم الإحاطة اللازمة لتطوير استثماراتهم في تونس    القصر: وقفة احتجاجية على خلفيّة حادث وفاة تلميذتين    ميشيل مدرب جيرونا: إنهاء الموسم في المركز الثاني مهمة صعبة جدا    علي معلول: لاعبو الأهلي يمتلكون الخبرة الكافية من أجل العودة بنتيجة إيجابية    فاجعة: جريمة قتل شنيعة تهز هذه المنطقة..    قطر تستضيف النسخ الثلاث من بطولة كأس العرب لسنوات 2025 و2029 و2033    وزير الفلاحة يعرب عن إعجابه بصالون الفلاحة والصناعات الغذائية بصفاقس    وفاة عسكريين في حادث سقوط طائرة عسكرية في موريتانيا..#خبر_عاجل    على هامش الدورة 14 لصالون للفلاحة والصناعات الغذائية صفاقس تختار أفضل خباز    وزير الشؤون الدينية يؤكد الحرص على إنجاح موسم الحج    القلعة الخصبة: انطلاق فعاليات الدورة 25 لشهر التراث    الدورة ال3 لمهرجان جربة تونس للسينما العربية من 20 إلى 25 جوان 2024    ينتحل صفة موظف للداخلية و يجمع التبرعات لفائدة شهداء المؤسسة الأمنية ...ما القصة ؟    في هذه المنطقة: كلغ لحم ''العلّوش'' ب30 دينار    أكثر من 3 آلاف رخصة لترويج الأدوية الجنيسة في تونس    علاجات من الأمراض ...إليك ما يفعله حليب البقر    البنوك تستوعب 2.7 مليار دينار من الكاش المتداول    صورة/ أثار ضجة كبيرة: "زوكربيرغ" يرتدي قميصًا كُتب عليه "يجب تدمير قرطاج"..    من بينهم طفلان: قوات الاحتلال الصهيوني تعتقل 20 فلسطينيا من الضفة الغربية..#خبر_عاجل    وزارة المالية تكشف عن قائمة الحلويات الشعبية المستثناة من دفع اتاوة الدعم    الرابطة الأولى: تعيينات منافسات الجولة الخامسة إيابا من مرحلة تفادي النزول    ما حقيقة سرقة سيارة من مستشفى القصرين داخلها جثة..؟    عاجل - مطار قرطاج : العثور على سلاح ناري لدى مسافر    أنشيلوتي يتوقع أن يقدم ريال مدريد أفضل مستوياته في نهائي رابطة أبطال أوروبا    اخر مستجدات قضية سنية الدهماني    أصحاب المخابز يُطالبون بصرف مستحقّاتهم لدى الدولة    الأهلي يصل اليوم الى تونس .. «ويكلو» في التدريبات.. حظر اعلامي وكولر يحفّز اللاعبين    في يومها العالمي.. الشروع في اعداد استراتيجية وطنية جديدة للنهوض بالأسرة    ارتفاع عدد قتلى جنود الإحتلال إلى 621    عاجل/ مع انتهاء آجال الاحتفاظ: هذا ما كشفه محامي مراد الزغيدي..    التوقعات الجوية لهذا اليوم..    أول أميركية تقاضي أسترازينيكا: لقاحها جعلني معاقة    تونس تصنع أكثر من 3 آلاف دواء جنيس و46 دواء من البدائل الحيوية    قابس : اختتام الدورة الثانية لمهرجان ريم الحمروني    الكاف: حريق اندلع بمعمل الطماطم ماالقصة ؟    مفتي الجمهورية... «الأضحية هي شعيرة يجب احترامها، لكنّها مرتبطة بشرط الاستطاعة»    أولا وأخيرا: نطق بلسان الحذاء    مفتي الجمهورية : "أضحية العيد سنة مؤكدة لكنها مرتبطة بشرط الاستطاعة"    عاجل: سليم الرياحي على موعد مع التونسيين    لتعديل الأخطاء الشائعة في اللغة العربية على لسان العامة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ما معنى أن تكون يساريا اليوم؟
المطلوب من اليساري اليوم ابتكار قيّم جديدة.
نشر في الشعب يوم 20 - 02 - 2010

حين سئل جيل دولوز عن معنى انتمائه لليسار (هو الذي لم ينخرط يوما في الحزب الشيوعي أو في غيره) أجاب بأن المسألة هي بالأساس مسألة إدراك من جهة ومسألة صيرورة أو صيران من جهة ثانية. بمعنى آخر فإن الفرق بين اليساري وغير اليساري هي أولا وقبل كل شيء مسألة تحديد وترتيب مغايرين لمستويات انتماء كل منهما. يقول اليميني:»أنا» ثم «منطقتي» ثم «مدينتي» ثم «بلادي» ثم «قارَتي» ثم «العالم». أما أن تكون يساريا فهو أن يبدأ تحديد انتمائك من النقطة الأبعد: العالم ثم القارة ثم البلاد ثم المدينة ثم النهج لينتهي نزلا إلى الأنا الذي يكون قد أفرغ ضرورة من كل مضمون هووي.
أما النقطة الثانية التي تتحدد بها يسارية اليساري فهي كونه لا يكف عن أن يكون أقليا. ليس مطلوب اليساري إذن الحصول على أغلبية ما لأن الأغلبية هي في واقع الأمر مقياس عام وبالتالي فارغ. إنه مثلا (بالنسبة للأوروبي المتوسط) الإنسان، الكهل، الذكر، ساكن المدن . أما الأقلية أو الصيران أقليا فهو المضي إلى الأقصى: الصيران امرأة، الصيران طفلا، الصيران حيوانا أو نباتا والصيران ذرة... حتى الصيران لا مدركا.
ذاك إذن معنى أن تكون يساريا في جذريته المتحررة من شتى أشكال الاستعادة والتنميط. كسر القوقعة الهووية وتشظية الأنا الذاتوي من أجل رسم خطوط إفلات تنفتح لا فقط على كونية إنسانية (فهذه أيضا يمكن أن تنقلب «إنسانوية» أي ضربا جديدا من التهوي الانغلاقي) وإنما أيضا على الحيواني والنباتي والذري والأسطقسي واللامدرك. إنه الصيران لا مدركا في إثباته الأقصى للحياة وفي اشتغاله الذي لا ينثني على تحريرها من كافة أشكال حبسها وتسييجها وتعطيلها التي تمارسها عليها قوى وسلط الحاضر: الدولة والدين والأخلاق والسوق في مغايرة جذرية لكل أشكال التعالي والتسسيج هذه، يقول اليساري الحياة والرغبة في محايثتهما المطلقة وفي فرقهما المبدع. لكن سمة قوله هذا هو أنه لا ينفصم ولا ينفصل عن فعل لا يقل عنه جذرية ومحايثة بحيث لا تكون هناك هوة فاصلة أو فغور بين خطاب ثوري تقدمي وممارسة محافظة أو رجعية. ذلك أن واحدة من مثالب من انتموا وينتمون، أو ادعوا ويدعون الانتماء، لليسار، أفرادا كانوا أم جماعات، هو التضارب الصارخ أحيانا بين النظر والعمل (مثلا بين خطاب تقدمي «مساواتي» عن المرأة وبين ممارسات تنضح ذكورية وتسلطية إزاء هذه المرأة أو تلك). والحال أن البراكسيس مثلما حدده ماركس وأنغلز وعمقه ألتوسير مثلا هو نظر فعل متسق مع ذاته ضرورة.
إذا كان ما تقدم هو معنى أن تكون يساريا على الإطلاق فما معنى أن تكون يساريا «اليوم»؟ ولكن ما مدلول هذا «اليوم» الذي نريد تنزيل مفهوم اليساري في صلة به؟
سمة اليساري اليوم هي اليتم لأن «اليوم» يبدو في كل مكوناته متضاربا مع يتطلع إليه اليساري. هناك إذن تحديد سالب لليوم باعتباره زمن ما بعد سقوط الأنظمة الشيوعية الذي يتسرع منظرو للتوتاليريات اليمين بمختلف ألوانه في ربطه بانهيار الفكر اليساري ذاته لكأن هذا الفكر ليس في جوهره مضادا لتلك التوتاليتاريات بنفس درجة تضاده مع النموذج الرأسمالي باعتباره النظام المتأسس على مصادرة مفادها أن الشيء الكوني الوحيد هو المال لكن «اليوم» أيضا هو يوم الطرق السيارة للمعلومات ويوم الاقتصاد الخدماتي الاستهلاكي المعولم ويوم الذاتوية المنمطة والتكرارية وكذلك يوم التعبيرات العنيفة والاستلابية عن الهويات القومية والدينية. ولكنه أيضا وعلى جهة الإيجاب يوم المعاودة المبدعة لطبيعة النضالات اليسارية ولكيفيات تصورها وإنجازها بعيدا عن منطق الهرمية الحزبية التي تصب رأسا في البيروقراطية المتكلسة، وعن «ديكتاتورية البروليتاريا» التي تستحيل حتما إلى ديكتاتورية وكفى.
لم يعد بإمكان اليساري ادعاء امتلاك حقيقة مطلقة أو الزعم بإمكان تسطير سبيل كونية لخلاص أوحد للإنسانية أفرادا وجماعات. ولم يعد المطلوب هو «إنجاز الثورة» أو التباكي على واقعة كون الثورات تؤول في غالب الأحيان إلى كوارث. إن علاقة الناس بالثورة في رؤية اليساري اليوم هي، كما يؤكد دولوز وغواتاري، هي علاقة صيرورة وصيران. كيف يصير الناس ثوريين؟ ولكن أيضا كيف يمكن لحركة ذات بواعث ثورية أن تنقلب تنظيما هرميا شبه فاشي يمجد الزعيم الأوحد ويقيم محاكم ويمارس إقصاءات باسم «نقاء» إيديولوجي مزعوم أو باسم «خط» أو «صراط» حزبي تنظيمي لا ينبغي الزيغ عنه؟ من ثمة جاءت الأهمية القصوى لمفهومي الحركة والشبكة (أو «الجذمور») في تعريف اليسار اليوم. اليسار حركة وليس حزبا لأنه متعدد تعريفا وغير قابل لأن يختزل في تركيبة هرمية منتهى أمرها الاستيلاء على الحكم أو ممارسة السلطة على اختلاف معانيها وأصعدتها. واليسار شبكة أو جذمور أو نجم بمعنى أنه التقاء فرادات متباينة ومبدعة في آن وليس معجنة تنتج كيانات رقمية متماثلة.
كيف تتحدد إذن بالنظر إلى كل هذه الحيثيات خصوصية النضالات اليسارية اليوم؟
أولى المحددات هي في نظرنا أن المثقف اليساري لم يعد بإمكانه ادعاء امتلاك تصور شمولي للخلاص الإنساني في بعديه الفردي والجماعي. فالرؤية الشمولية هي رديفة الكليانية على مستوى الفعل والحكم السياسيين. إن المثقف اليساري اليوم هو ذاك الذي يخوض نضالات موقعية. أي الذي يقاوم كونية رأس المال عبر تحرير الرغبة والإبداع في المواقع أو الحيوزات الصغرى والمهمشة. لقد ولى وانقضى زمن المثقف السارتري الذي ينصب نفسه حارسا للقيم العليا ومتدخلا باسمها في كل المجالات على اختلافها، ليحل محله المثقف الفوكوي أو الدولوزي الذي يتلازم عنده النضال الموقعي (المساجين، النساء، أطفال الشوارع، الفنانون...) بإبداع فكري أصيل يعيد النظر بجرأة في كل المسلمات والقيم المتداولة من أجل ابتكار قيم جديدة.
ثاني المحددات تخص شكل أو أشكال التنظيم الأكثر ملاءمة لهذه النضالات. لقد أثبت شكل التنظيم الحزبي الهرمي، كما عاشته أجيال من اليساريين تحت رايات الأحزاب الشيوعية في العالم، في ارتباطها على هذه الدرجة أو تلك من القوة مع «الأخ الأكبر» السوفياتي أو الصيني، إفلاسها التام من جهة كونها تعيد إنتاج الفكر الأغلبي التنميطي والإقصائي وتحاكي على صعيد الفعل ما تدعي مضادته ومقاومته على مستوى الخطاب. إن قوة الشكل الشبكي تكمن في كونه يحاكي النجم ومختلف النباتات التي تسري تحت الأرض لتبرعم في المواقع والآنات التي لا يتوقعها فيها العدو (رأس المال الذي لا مبتغى له غير تحويل الذوات من فرادات مبدعة إلى أرقام/كيانات متجانسة ومتماثلة).
هذه النضالات الموقعية وهذه الانشباكات التنظيمية اللاهرمية هي في نظري ما تمارسه اليوم القطاعات الأكثر أهمية وأصالة من قوى اليسار في العالم عبر انبجاساتها المتباينة سواء في أمريكا الجنوبية ذات الإرث الغيفاري الخصب أو في حركات العولمة البديلة في استفادتها العميقة من تنظيرات توني نغري الذي استقى بدوره أهمها من طروحات دولوز وغواتاري وفوكو ولكن أيضا من فلسفات ماكيافيل وسبينوزا وماركس عبر قراءته الإبداعية لكل هؤلاء. وهي أيضا نضالات تجسمها الثورة الفلسطينية في أبعادها اللادينية (رغم انحسارها النسبي بفعل قصورها الإبداعي من جهة وبفعل وقوعها التاريخي بين مطرقة المد الإسلاموي وسندان الوحشية الصهيونية الرأسمالية).
لكنها أيضا وبالخصوص نضالات تخوضها زمر من الفنانين والكتاب والمثقفين والحرفيين والنساء والمساجين والمهمشين على أصعدة مختلفة ومتعددة ومتشابكة تصب كلها ضمن المجرى الكبير للرغبة المحررة من كل انحباساتها وللحرية المبدعة في اشتغالهما الأصيل على ابتكار وجود إنساني يقطع جذريا مع نماذج الهيمنة والاستعباد التي رزح تحت ثقلها البشر حتى الآن.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.