ترامب: هناك 'فرصة جيدة' للتوصل إلى اتفاق بشأن هدنة في غزة هذا الأسبوع    ميناء المياه العميقة بالنفيضة قريبًا ضمن المشاريع الاستراتيجية لتسريع إنجازه    تدفق سياحي جزائري قوي نحو جندوبة : أكثر من 95 ألف زائر خلال جوان 2025    الكرة الطائرة – بطولة الصداقة: بعد الجزائر، تونس تفوز على ليبيا (فيديو)    كأس العالم للأندية: حسب إحصائيات Opta، المرشح الأبرز هو…    ارتفاع ترتفع درجات الحرارة يوم غد الاثنين: المعهد الوطني للرصد الجوي يوضح    ترامب يعلن حالة الطوارئ في مقاطعة بولاية تكساس بسبب الفيضانات    تجميع 9.2 مليون قنطار من الحبوب    الباحث حسين الرحيلي: لم نخرج بعد من خطر الشح المائي    «ميركاتو» كرة اليد في النادي الإفريقي: 5 انتدابات ترفع سقف الطموحات    أخبار مستقبل سليمان .. اتفاق مع معز بن شريفية والفريق مُنفتح على التعامل مع كل الجمعيات    مقترح قانون لتسوية وضعية المباني المخالفة لرخص البناء    الليلة: الحرارة تتراوح بين 25 و34 درجة    إعطاء إشارة انطلاق البرنامج الوطني للأنشطة الصيفية والسياحة الشبابية 2025    الفنانة نبيلة عبيد تستغيث بوزير الثقافة المصري: 'أودي تاريخي فين؟'    وائل كفوري يثير الجدل بصورة من حفل زفافه ويعلن نشر فيديو الزواج قريبًا.. فما القصة؟!    شنية سرّ السخانة في جويلية.. بالرغم الي أحنا بعاد على الشمس؟    تاريخ الخيانات السياسية (7): ابن مُلجم و غدره بعلي بن أبي طالب    صحتك في الصيف: المشروبات الباردة والحلويّات: عادات غذائية صيفية «تُدمّر» الفمّ والأسنان !    صفاقس : إفتتاح الدورة الثانية للأيام التنشيطية الثقافية والرياضية بفضاء شاطئ القراقنة لتتواصل إلى يوم 25 جويلية    بنزرت: تحرير 40 مخالفة إثر حملة رقابية مشتركة بشاطئ كوكو بمعتمدية أوتيك    "ائتلاف صمود" يواصل مشاوراته حول مبادرة "العقد السياسي الجديد": نحو توافق مدني واسع يعيد التوازن السياسي    هام/ وزارة السياحة: خطّ أخضر للتشكّيات..    كرة السلة – البطولة العربية سيدات : تونس تتغلب على الأردن وتلتقي مصر في النهائي (فيديو)    بطريقة هوليودية: يسرق محل مجوهرات ويستولي على ذهب بقيمة تتجاوز 400 ألف دينار..وهذه التفاصيل..    فاجعة تهز هذه الجهة/ بفارق ساعتين: وفاة زوجين في نفس اليوم..!    تونس – الطقس: استمرار العواصف الرعدية على الجهة الغربية من البلاد    وزارة الثقافة تنعى فقيد الأسرة الثقافية فتحي بن مسعود العجمي    سفينة بريطانية تتعرض لهجوم صاروخي قبالة سواحل اليمن    ممثلو وزارة المالية يدعون في جلسة استماع صلب لجنة الفلاحة الى الحفاظ على ديوان الاراضي الدولية الفلاحية بدل تصفيته    انطلاق موسم جني الطماطم الفصلية بولاية سيدي بوزيد    الفنان غازي العيادي يعود إلى المهرجانات بسهرة "حبيت زماني"    بن عروس: "تمتع بالصيف وخلي البحر نظيف" عنوان تظاهرة بيئية متعددة الفقرات على شاطئ حمام الشط    كاس العالم للاندية: مدرب بايرن ميونيخ غاضب بسبب إصابة لاعبه موسيالا    الفلبين: فيضانات تجبر أكثر من 2000 شخص على ترك منازلهم    الصباح ولا العشية؟ أفضل وقت للعومان    181 ألف شاب ينتفعون ببرنامج صيفي جديد لمكافحة الإدمان    كيفاش تتصرف كي تشوف دخان أو نار في الغابة؟ خطوات بسيطة تنقذ بلادنا    هاو الخطر وقت تعوم في عزّ القايلة..التفاصيل    في موجة الحرّ: الماء أحسن من المشروبات المثلّجة    وقتاش تعطي الماء للرضيع من غير ما تضره؟    يوم 8 جويلية: جلسة عامة للنظر في مشروع قانون يتعلّق بغلق ميزانية الدولة لسنة 2021    إحداث لجنة وطنية لبرنامج الإنسان والمحيط الحيوي    عاجل/ للمطالبة بفتح المفاوضات الإجتماعية : إقرار مبدأ الإضراب الجهوي في القطاع الخاص بهذه الولاية..    قائمة الفرق الأكثر أرباحًا في مونديال الأندية 2025 ... بعد انتهاء الدور ربع النهائي – أرقام قياسية ومكافآت ضخمة    انطلاق قمة "بريكس" في ريو دي جانيرو اليوم بمشاركة بوتين    البكالوريا دورة المراقبة: هذا موعد انطلاق التسجيل عبر الإرساليات القصيرة..    ابن الملكة كاميلا ينفي صحة مفاهيم مغلوطة عن والدته    عادل إمام يتوسط عائلته في صورة نادرة بعد غياب طويل بمناسبة عقد قران حفيده    وزارة الفلاحة تضع أرقاما للتبليغ الفوري عن الحرائق    نوردو ... رحلة فنان لم يفقد البوصلة    تطبيقة جديدة لتسهيل التصريح بالعملة: الإدارة العامة للديوانة تطلق خدمة رقمية موجهة للتونسيين بالخارج    اليوم الأحد: الدخول مجاني إلى المتاحف والمواقع الأثرية والتاريخية    تاريخ الخيانات السياسية (6) .. أبو لؤلؤة المجوسي يقتل الفاروق    بالمرصاد : لنعوّض رجم الشيطان برجم خونة الوطن    نادي ليفربول يقرر دفع المبلغ المتبقي من عقد جوتا لعائلته    تذكير بقدرة الله على نصرة المظلومين: ما قصة يوم عاشوراء ولماذا يصومه المسلمون ؟!..    الفرجاني يلتقي فريقا من منظمة الصحة العالمية في ختام مهمته في تقييم نظم تنظيم الأدوية واللقاحات بتونس    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



فلسفة الاختلاف «وتمثلات» الإنساني اليوم -نموذج فوكو-
إبراهيم العميري (تونس)
نشر في الشعب يوم 22 - 05 - 2010

إذا كان مفهوم التمثل يحيل في دلالته العامة على معنى الاستحضار من خلال صورة ذهنية أو فكرة، وهو مفهوم يختلف في دلالته المعرفية عن دلالته الاجتماعية (إدراك العالم الخارجي، الوعي الجمعي)، فان التساؤل سيطال، هنا، مفهوما أساسيا في الفلسفة. إنه مفهوم الإنسان. فأي تمثل للإنساني تطرحه فلسفات الاختلاف؟ وهل تجعل منه مسالة فلسفية أساسية؟ أم تخضعه لتحويلات وإزاحات وصيرورات تفقده دلالاته السائدة معرفيا واجتماعيا؟
لا يخفى على أحد أن الإنسان مثل مركز القول الفلسفي لفترة هامة من تاريخها، وعد السؤال المحوري الذي تستقر عنده كل الأسئلة عند كانط ، بل إن سارتر لم يستطع تصور أي فعل وأي فكر خارج هذا المفهوم. يقول في هذا: «أعتبر أن المجال الفلسفي هو الإنسان، أي أن أي مشكل آخر لا يمكن تصوره إلا بالنسبة للإنسان». إن كل ما يتعلق بالعالم فلسفيا هو العالم الذي يعيش فيه الآن، الإفلات من وقع هذا المفهوم «الكلي-الشامل» رغم كل محاولات أصحابها؟ وإذا سلمنا أن فلسفة الاختلاف، أي فلسفة، تقوم على أسس جديدة لعل أهمها عدم إجرائية مفهوم «الإنسان» نظرا وعملا فما هي إذن الأسس الجديدة التي تستدعيها؟
لبلورة علاقة فلسفة الاختلاف بالإنسان كذات او كذاتية مستقلة وقائمة بذاتها وتتمتع بالقدرة على صنع مصيرها بنفسها ، لا بد من بيان المبادئ العامة لهذه الفلسفة.
ينضوي تحت هذه العبارة «فلسفات الاختلاف» العديد من الإعلام الهامة في الفلسفة المعاصرة، هيدجير، دريدا، دولوز، ليوتار، فوكو ، فاتيمو...وهي كلها إعلام تلتقي في نقطة أساسية تتمثل في رفض منطق الهوية وجملة المفاهيم المرتبطة بها مثل الكونية، الوحدة، الحضور(1)، التي سجن داخلها تاريخ الفلسفة. كما يلتقي هؤلاء الأعلام، وخاصة الفرنسيين منهم، هي رفض مفهوم «النزعة الإنسانية» التي ظهرت لأول مرة سنة 1808 (2). وهو رفض ينبني على أربع نقاط أساسية حسب فيري ورونو:
أولا تأكيد موت الفلسفة أو نهايتها.
ثانيا أولوية البحث الأركيولوجي.
ثالثا رفض مفهوم الحقيقة.
رابعا رفض كل مرجعية للكلي وإقرار بتاريخية المقولات (3).
إن ما تقوم عليه فلسفات الاختلاف هو رفضها لتاريخ خطي وممركز حول ذات مؤسسة، إذ تجد فوكو والتوسار قد تجاوزا براديقم الذاتية، ونجد أيضا دولوز ولاكان ودريدا قد نقدوا جذريا الوحدة المثالية والكاملة,كما يظهر فعل التجاوز للذاتية في نقدهم لمقولة المعني في دلالتها الكلاسيكية (وخاصة لدى دريدا ودولوز). وتتحدد فلسفات الاختلاف، سلبا، برفضها لهيجل وانتسابها لنيتشه.وهي بهذا تعمل على إبراز تهافت مفهوم الإنسان باعتباره ذات ووعي وعقل يفرض قواعده على العالم.
وتضع فلسفات الاختلاف، في مقابل هذا الرفض للهوية والجوهر والذات والعقل ككيانات مطلقة وثابتة وسرمدية ولا تاريخية، «مبادئ» جديدة تتمحور حول مفهوم الاختلاف كمعطى أولي لا يمكن نفيه أو اختزاله أو الحد منه أو استيعابه في أية هوية متعالية ومغلقة.إن مثل هذا المقارنات لوحدها قد لا تنتبه إلى حقيقة الإضافة التي قدمتها فلسفات الاختلاف كما هو الامر لدى دولوز ودريدا تدقيقا.
لذلك وجب الذهاب ابعد من ذلك والإقرار بان هذه الفلسفات تحدد بأكثر عمق بكونها رفضا للتمثل الذي يشرع للمماثل والمشابه ويقصي المختلف والمغاير.ويؤدي هذا النقد والتجاوز للتمثل كآلية للتفكير والمعرفة والحكم القائمة على منطق الهوية وعلى مقولة الكلي المجرد إلى إقصاء كل ما يشير أو يدل على الآخر المختلف الذي يشترطه مفهوم الاختلاف كمعطي انطولوجي محايث للوجود الإنساني. «تقوم فلسفات الاختلاف على رفض الفلسفات الميتافيزيقية التي تجعل من الإنسان (أو الذات) محور مشروعها.إنها تريد مجاوزة الميتافيزيقا من اجل التشريع 'للتفكير على نحو آخر». (4)
يمكن التأكيد أن فلسفات الاختلاف تريد القطع مع تقليد في التفكير تميز بكثافة حضور مقولات الذات والإنسان والكلي ، وهذا من اجل اللقاء بالصيرورة و»الجذمور» أي «التفكير دون أصل» «دولوز». فأي مكانة تبقى للإنسان داخل خطاب فلسفات الاختلاف؟ وأي دور ستحظى به الذات في بناء المعرفة وممارسة التفكير الفلسفي؟ هل يؤدي نقد الميتافيزيقا وتجاوزها إلى إعلان «موت الإنسان» كما أعلن موت العديد من الكليات التي عدت لفترة طويلة بمثابة المطلقات الموجهة لحضور الإنسان في التاريخ (الحقيقة، الواحد، الوجود، الجوهر، المطلق، الكلي ،النفس، المثال...؟) وأي أفق يبقى للفلسفة إذا قطعت مع التمثل ك «طريق ملكي» للمعرفة والحكم والبراكسيس ،وكسبيل لإعلاء مقولة الإنسان -المركز والإنسان -المبدأ والإنسان - الأصل؟
يبدو أن توضيح جملة هذه الأسئلة لا يمكن أن يحيد عن أعمال الفيلسوفين فوكو ودولوز، إذ نقف في أعمالهما علي تشخيص دقيق لمسالة الإنسان وأهميتها الابستمية والعملية في الفلسفة المعاصرة. فأي تمثل للإنسان يقدمه كل منهما؟وهل من المشروع القول إنهما ينتهيان إلى نفي كل مشروعية وكل إجرائية عن مقولة الإنسان في التأسيس لخطاب فلسفي بإمكانه كشف حقيقة الوجود الإنساني بعد الجرب العالمية الثانية؟ للإجابة عن هذه التساؤلات سنقف عند تأوّل «دولوز» لكتاب «فوكو» «الكلمات والأشياء» كما بلورها في «الجزيرة المهجورة (2003)».
فوكو والتظنن على مفهوم الإنسان
يقول فوكو في آخر فقرة من كتابه الذي خصصه لعلوم الإنسان ما يلي: «هناك أمر واحد مؤكد هو أن الإنسان ليس أقدم ولا اثبت إشكالية طرحت ذاتها على المعرفة الإنسانية». (5) فماذا يعني بهذا التأكيد؟ وما هي نتائجه البعيدة؟
يبدأ كتاب «فوكو» «الكلمات والأشياء» بوصف دقيق للوحة الفنان فلسكواز (les Menimes)أو بأكثر دقة لفضاء هذه اللوحة: «الرسام يرى وهو يصدد النظر،الأشخاص في اللوحة يتجهون إلى نقطة توجد أمام اللوحة،والمثال الحقيقي،الملك،الذي ينعكس في مرآة، فقط، في الخلف، متأملا هو نفسه كل من يتأمله،وهو يكون الغياب الأكبر رغم انه المركز الخارجي للأثر الفني.ومن خلال هذه القراءة لفوكو نستخرج عناصر التمثل:نسقها الهووي، المضاعف والانعكاسي، فضاؤها الخاص، إلى حدود هذا الفراغ الأساسي الذي يشير إلى الشخصية التي من اجلها وجد هذا التمثل، الذي يمثل نفسه فيه،ولكنه ليس شخصا حاضرا-ونعني بذلك مكانة الملك».
يعرف فوكو، اعتمادا على التمثل،،شكل المعرفة في العصر الكلاسيكي ،مابين النهضة والحداثة: تحدد المعرفة في عصر النهضة باعتبارها «تأويلا للرموز» وتتحقق العلاقة بين الرمز وما يرمز إليه بواسطة «الحقل الثري للتماثلات»(6). ومن خلال هذه القراءة الدقيقة لمميزات عصر النهضة والرؤية المعرفية المتحكمة فيه تنكشف طريقة جديدة في التفكير لدي فوكو من خلال هذه المقاربة الظاهرة للتاريخ (7). إن كل معرفة تتحقق حقل مميز، ولكن في القرن17بدا فضاء الرموز يتجه نحو الاندثار ليترك مكانه لفضاء التمثل .هذا الفضاء الجديد يفكر في الدلالات ويفككك التماثلات.إن فضاء التمثل هو الذي جعل ممكنا بروز النظام الجديد للهويات والاختلافات.وليس ما قام به دون كيشوط (Don Quichotte ) إلا أول علامة لتهاوي الرموز من اجل عالم التمثل (دولوز «الجزيرة المهجورة» ص 126).
يتكون هذا النظام الجديد من نظامات ايجابية جديدة مؤسسة على وقائع تجريبية: التاريخ الطبيعي،نظرية العملة والقيمة، النحو العام.ونحن نعثر، ما بين هذه الأنظمة الثلاثة،على كل التناغمات والانسجامات الممكنة المتأتية من انتمائهم إلى فضاء واحد:فضاء التمثل: الخاصية هي تمثل لأفراد الطبيعة، العملة لأشياء الحاجة،والاسم للغة نفسها.
وتجدر الملاحظة هنا أن ظهور علوم الإنسان لم يتم إلا في القرن 18. لذلك نتبين أن مفهوم الإنسان لم يوجد ولا يمكن أن يوجد داخل هذا الفضاء الكلاسيكي للتمثل (8). ومع ذلك فإننا نجد دائما مكانة الملك حاضرة:فالطبيعة البشرية تمثل بالطبع في مضاعفة للتمثل الذي يرجع هذه الطبيعة الإنسانية للطبيعة، ولكن الإنسان لم يوجد بعد في كيانه الخاص وفي مجاله التمثلي الخاص.إن مفهوم الإنسان لم يوجد «كواقع سميك وأولي:كشيء صعب وموضوع محوري لكل معرفة ممكنة» (9). وهكذا نفهم لماذا وضع فوكو العنوان الفرعي لكتابه «الكلمات والأشياء» كالتالي «اركيولوجيا علوم الإنسان». فما هو التاريخ الحقيقي لميلاد مفهوم الإنسان عند فوكو؟
يقدم هنا فوكو إجابة دقيقة وواضحة:لم يوجد الإنسان في فضاء المعرفة إلا في اللحظة التي بدا فيها العالم الكلاسيكي للتمثل ينهار ،تحت ضربات مؤسسات غير قابلة للتمثل وغير ممثلة .إنها لحظة انبجاس «الغامض أو العمق كبعد جديد». ينبغي أولا ولادة البيولوجيا والاقتصاد السياسي والفيلولوجيا: أين نجد أن شروط إمكان الكائن الحي يجب البحث عنها في الحياة نفسها «كيفييه»(Cuvier) ،وشروط إمكان التبادل والربح يجب البحث عنها في العمل (ريكاردو)، وشروط إمكان الخطاب والنحو ينبغي أن نبحث عنها في العمق التاريخي للألسنية.
وفي نفس اللحظة يكتشف الإنسان بطريقتين كما يبرز دولوز:
-من جهة باعتباره مجرد واسطة في حقول العمل، الحياة واللغة،أي باعتباره موضوع علوم وضعية جديدة ينبغي أن يعتمد كنموذج لها:البيولوجيا أو الاقتصاد السياسي أو الفيلولوجيا.
-من جهة أخرى باعتباره مؤسسا لهذه الوضعية الجديدة اعتمادا على مقولة ذاته المتناهية:فهو يعوض ميتافيزيقا اللامتناهي بتحليلية المتناهي الذي يجد في الحياة والعمل واللغة بنياته المتعالية (10).
للإنسان إذن وجود مضاعف،والذي انهار هو سيادة الهووي أو المماثل في التمثل.فالإنسان منشطر في العمق،انه يحمل في كيانه التباين والانفصال: فهو منفصل عن ذاته بواسطة الكلمات،الأشغال والرغبات. وفي هذه الثورة التي تحطم التمثل فهو نفسه المطالب بقول ذاته اعتمادا على المختلف (il doit se dire du Différent) وليس العكس:استيعاب المختلف في المماثل أو الهووي.إنها ثورة «نيتشه» يؤكد «دولوز».
يتعلق الأمر عند فوكو بتأسيس علوم الإنسان، لكنه تأسيس «مسموم». إنها اركيولوجيا تحطم الأصنام.إنها «هدية مشئومة» (11) يقول دولوز يمكن ، في الأخير، كما يبين دولوز في مقال له حول كتاب فوكو «الكلمات والأشياء» بعنوان «الإنسان ذلك الوجود المشكوك فيه» تلخيص تصور فوكو كالتالي:لم تتكون علوم الإنسان البتة عندما أصبح الإنسان موضوعا للتمثل ولا حتى عندما اكتشف تاريخا.على العكس من ذلك لم يتكون الإنسان إلا عندما «انتزع من التاريخ»، عندما أخذت الأشياء، (أي الكلمات والكائنات الحية والانتاجات)، تاريخيا تتحرر من الإنسان وتمثله (12) عندها تكونت علوم الإنسان من خلال محاكاة العلوم الوضعية الجديدة للبيولوجيا والاقتصاد السياسي والفيلولوجيا. ولكي تبرز خصوصيتها أعدت تشييد نظام التمثل ولكن بتحميله المصادر «اللاواعية».
ويبين دولوز أن هذا التوازن الخاطئ يظهر أن علوم الإنسان ليست علوما.أنها تطمح لأخذ مكان الملك الشاغر، ولكن هذا المكان لا يمكن ولا يجب ملؤه: «إن الانروبولوجيا) علم الإنسان) ليست إلا خداعا».
ماذا نستنتج من أعمال فوكو وتأويلات دولوزلها؟
ما يجب التأكيد عليه هنا هوان هذا النقد الموجه لمفهوم الإنسان لا يؤدي ضرورة إلى القول أن التفكير الفلسفي في الإنسان ليس له أية مشروعية اليوم، إن العكس هو الذي تطمح إليه فلسفة الاختلاف لدي فوكو، دولوز، ليوتار،فاتيمو.إن النقد الموجه لهذا المفهوم هو في الحقيقة نقد للتصور الميتافيزيقي له، ذلك التصور الذي بقدمه لنا في شكل جوهر ثابت وهوية مغلقة متعالية عن الواقع والتاريخ واللاوعي والآخر.إن ما نقف عليه من خلال ذاته، الاختلاف حول مشروعية التفكير اليوم في الإنساني هو التالي:إذاأرادت الفلسفة أن تقدم شيئا ذا قيمة وذا معنى حول الإنساني فعليها أن تتأكد أن حقيقته في التشظي والانشطار وان الإنساني لا يتعين إلا باعتباره فردية عينية ،وفردية مؤقتة خاضعة لا لمنطق الواحد بل لمنطق الصيرورة .وبالتالي فالفرد يخلق ذاته ،هويته،في كل مرة بطريقة جديدة وفي صورة جديدة.إن الإنساني يتحدد باعتباره خلق مستمر للذات التي تعبر بذلك لا عن كونية مجردة بل عن كونية عينية .إن الإبداع للذات هو ما يسميه دولوز (l'hecceité)أي ما يفرق الكائن عن سواه ويسبغ عليه الذاتية الخاصة له.إنها عملية تفريد أين تغيب كل الكليات التي يكون فيها مفهوم الإنسان ذا دلالة كلية ومتعالية وأين يحتفل بالصيرورة والحدث والممكن والافتراضي بلغة دولوز.فهل نأمل اليوم في إنساني ينبجس أينما كان وحيث كان وضمن كل الملابسات كالجذمور الذي يأبي مقولتي الأصل والغاية القصوى؟

1- Veronique Bergen ,L'ontologie de Deleuze,Paris ,L'harmatan,2000, p.369.
2- Ferry (L) للهRenault(A) , La pensée Mai 68, Paris, Minuit, 1985.
- 3 نفس المرجع السابق.
- 4 نفس المرجع السابق ص،370.
- 5 نظرا لاهمية هذا النص نورده هنا كاملا حتي يتسنى لنا الوقوف عند الموقف الفلسفي الجديد لفلاسفة الانتلاف في تاولهم لمفهوم الانساني :يقول فوكو: «هناك أمر واحد مؤكد:هو أن الإنسان ليس أقدم ولا اثبت إشكالية طرحت ذاتها على المعرفة الإنسانية، يمكننا التأكيد أن الإنسان هو اختراع حديث (...)فالمعرفة لم تحوم طويلا في الظلمة حوله وحول أسراره في الواقع، ومن بين كل المنعطفات التي طرأت على معرفةالاشياء ونظامها،على معرفة التوافقات، المماثلات والاختلافات، والميزات، والتعادلات، والكلمات.باختصار، من بين كل حلقات هذا التاريخ العميق لذات الواحد هناك حلقة واحدة فقط،تلك التي بدأت منذ قرن ونصف القرن،والتي قد تكون في طور الانتهاء،قد سمحت بظهور وجه الإنسان. ولم يكن ذلك تحررا من قلق عتيق ولا ممرا حيز الوعي أو ولوجا في الموضوعية لتلك الأمور التي بقيت طويلا عالقة في حيز المعتقدات والفلسفات :بل حقيقة تبدل طرا على الجاهزيات الأساسية للمعرفة.فالإنسان اختراع تظهر اركيولوجيا فكرنا بسهولة حداثة عهده،وربما نهايته القريبة.لو قدر لتلك الجاهزيات أن تختفي كما ظهرت،لو انقلبت من جراء حدث ما،لا يمكننا إلا استشعار وقوعه-كما انقلبت في أواخر القرن 18ارضية الفكر الكلاسيكي-عندئذ يمكن الرهان أن الإنسان سوف يندثر مثل زجه من الرمل مرسوم على حد البحر». (الكلمات والأشياء( آخر فقرة ص،313.
6- G.Deleuze,Iles desertes,2003,P.125.
7- Ibid.P.126.
8- Ibid,p.126.
9- M.Foucault,Les mots et les choses,p.321.
10- Deleuze,op.cité,p.127.
11- Ibid,p.127.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.